في ذكر الشاعر الشيخ البرقعاوي
عبد الاله الياسري
أذكر أنّي ــ حين تأهّلت،وأنا تلميذ في (إعداديّة النجف)، لتمثيل مدرستي، في المباراة الشعريّة لثانويات المحافظة،عام ثمانية وستين وتسع مائة والف للميلاد ــ عرضتُ قصيدة لي، بعنوان (الجراح تتكلم)،على استاذي (زهير غازي زاهد) مدرّس اللغة العربيّة يومذاك،لأشارك بها في تلك المباراة الشعريّة؛ فاستحسنها مبنىً ومعنىً، ثمّ اقترح عليّ أن أعرضها على الخطيب الشاعر الشيخ (عبدالصاحب البرقعاويّ)، استئناساً بخبرته الخطابيّة والشعريّة،في أمسية أدبيّة خاصّة،تكون في دار قريبه الأديب (توفيق زاهد ) صاحب (مكتبة زاهد ــ لبيع القرطاسيّة وتجليد الكتب) في (شارع الخورنق) بمدينة (النجف).
سرّني اقتراح استاذي رغبة في التعرّف الى الشيخ الخطيب الشاعر،وفي الإفادة من خبرته في الخطابة والشعر كذلك.ومن بعد يومين أو ثلاثة،تلاقينا مجتمعين في الدار المذكورة آنفاً،ولم يكن حاضرو الإجتماع الا بضعة أشخاص.وما ان فرغنا من شربنا الشاي،حتّى تعجّل الشيخ الأمرَ،وخاطبني بحزم مهني :((إقرأ قصيدتك على ظهر قلب الآن،كما لو كنتَ أنت واقفاً على خشبة المسرح،ونحن الجمهور الجالس أمامك في قاعة الحفل)). بدأت أقرأ مطلع القصيدة،فإذا هو منصرف عنّي كلّ الإنصراف.يتحدّث إلى صاحب الدار،ثم نهض فجأة،وقاطعني بقوله:((ماينبغي للشاعرأن ينشد شعره والجمهور مشغول عنه بالكلام!.)) قلت:((وما عساني أن أفعل، إذا كان المتكلّم هو الشيخ وصاحب الدار؟)) قال:((حتّى لو كانا والديك،فلا تتردّد في أنْ تنهرهما بطريقةما لتسكتهما،كقولك لهما مثلاً:أأسكت فتتكلّما أم أتكلّم فتسكتا؟إنّك بازاء فنّ الخطابة لا أدب السلوك.إيّاك إياّك أن تقرأ مطلع قصيدتك من دون أن تتاكّد من صمت الجمهور وإصغائه إليك.)).
كان درساً قاسياً.قبلته كالدواء المرّ،لكنّه كان مفيداً فعلاً.ثم شرعت أنشد الأبيات بيتاً فبيتاً حتّى بلغت بالإنشاد البيت التالي: ((فياسمائي أحيلي الشمس عاصفةً ــ تطوي الغزاة تدقّ الرأس والذنبا))؛ فألقَى الشيخ عباءته جانبــــا، وشمّر عن ساعديه،وهو يخاطبني منفعلاً : ((مالك حييّاً بارداً؟ماهكذا يكون إنشاد العاصفة السماويّة التي تريد أن تدقّ بها الطغاة دقاً؟))ثمّ طفق ينشد البيت وهو في أشدّ حالة من الحماس الخطابيّ ؛ليريني ،بالصوت وبالإشارة،القوّة التعبيريّة التي تصير بها الشمس الجميلة عاصفة مدمّرة بين يدي الشاعر.حاكيته،في طريقة إنشاده الأبيات التي أظهر أهميّتها في القصيدة،سامعاً وطائعاً.ومضت المشاهد المسرحيّة تتكرّر وتعاد بيننا،حتّى تيقَّن كلَّ التيقّن أنّي قد أتقنتُ الدورالذي يجب أن يكون عليه المثال الأعلى لمنشد الشعر الحماسيّ؛فابتسم حينئذ رضىً وغبطةً،ودخّن سيجارة متنفساً الصعداء.أشهد أنّه كان مُخرِجاً مسرحيّاً مبدعاً وممثلاً مدهشاً.لم تُتح لموهبته الفنيّة فرصة الظهور،في مدينة كالنجف وبلد كالعراق. وأشهد أنّي أخذت منه أصول الخطابة في الشعر ومبادئها.وله الفضل كلّ الفضل،في غلب قصيدتي قصائدَ ثانويّات المحافظة (كربلاء)فوزاً بالجائزة الأُولى،في تلك السنة المنصرمة ــ حيث كانت (النجف) قضاء تابعا لـ(كربلاء) وقتذاك ــ وله الفضل كذلك،في تطوير إنشادي الشعر في المهرجانات الشعريّة الجامعيّة وغير الجامعيّة من بعد.ولعلّ اعترافي الدائم،بهذا الفضل،هو الذي جعل صاحب كتاب(مستدرك شعراء الغريّ) يقول عنّي:((نظمَ الشعر وتمرّسَ به على الشيخ عبد الصاحب البرقعاويّ))،ثم نسخَ قولَه نصّاً صاحب كتاب ((معجم الأدباء من العصر الجاهليّ حتى2002م))) دون تحقيق ولا تدقيق.إنّي لا أستنكف من أن يكون كمثله معلّمي في الشعر؛لكنّ علاقتي به على المستوى الشعريّ ــ والحقّ يقال ــ لم تكن علاقة مُتعلِّم بمُعلِّم.
نعم. قد وثّقت علاقتي فيه،بعد حكاية تلك القصيدة وفوزها،توثيق مُتأثِّر بمُؤثِّر لا مُتعلِّم بمُعلِّم؛إذ أمسيت أقصد إلى(مكتبة زاهد) عشاءً بين حين وآخرــ حيث هو يجلس هناك بعد صلاة المغرب ــ لأقرأ عليه مااستجدّ من شعري مستنيراً بقبساته النقديّة المفيدة ؛كما انّي كنت أرى ثُلّة من الشعراء الشباب، يقصدون إلى المكتبة مثلي،طامعين في لقائه ونقده الشعريّ طمع الطيور في شجرة وارفة الظلّ،في ساعة قائظة؛حتّى صارت(مكتبة زاهد)وكراً شعريّاً لنا،نتلاقى عنده إلى حين.كانت تلك المكتبة التي سميتها”وكراً” فارغة من القرطاسيّة،او كالفارغة منها.لا تكاد تعرف رفوفها المقفرة تجاريّاً غير الشعر وأهله ،وغير سجالات أنصار الجديد وأنصار القديم، من شيوخ الشعر وأساتذته الذين كثيراً ما كانوا يعرّجون عليها،كلّما مرّوا في (شارع الخورنق) قادمين من منتديينِ للشعر يجاورانها.هما مقهى(ابو المسامير) و(الرابطة الادبيّة).وكان ذلك الشيخ البرقعاوي المعمّم الملتحي يضفي حضوره على قفرها التجاريّ بهاء علمياً وأدبيّاً يوم كانت الناس تظنّ رجالَ الدين هم العلماء والأدباء في تلك المدينة لاغيرهم.وكلّما نظرت إليه نظرةَ رويّةٍ واناة, ألفيت الناس محقّين فيما يظنّون،وصدّقتهم.فهو زاهد زهادة شيخ صوفيّ.لايكاد يتكلّم حتّى يفكّر ملياًّ.وكثيراً ما كانت عيناه تسبقان لسانه بالنطق،ولا تزوغان يميناً او شمالاً إلا إذا اضطُرّتا الى الزوغ.تشعّان دهاء وإقداماً وقوّة.وكم من مرّة استنبطت ماتقولان قبل ان تفوه بحرف شفتاه.
الشيخ البرقعاوي
قرأت له ذات مساء قصيدة من قصائدي الغزليّة.ولمّا وصلت بالقراءة الى كلمة (إصبع) في البيت التالي:
((وأرى الزمان أقام سدّاً بيننا / والبعد مابيني وبينكِ إصبعُ))
أغرقت عيناه في الضحك قبل سنّه،وقال لي مُقاطِعاً ممازحاً:
((إِستبدل كلمة (إصبع) بـكلمة (أذرُع) فوراً، قبل ان تسمع محبوبتك بهذا البعد الدالّ على العجز الجنسيّ، فتستبدلك برجل آخر)).
ما كان أحسن فطنته النقديّة! وما كان أقبح غفلتي الشعريّة!. كان ناقداً ذكيّاً دقيقاً حقّاً. لايكاد يخطئ مرماه النقديّ اذا رمى. وكان عميقاً أيضاً. يُؤثر التلميح مُوجِزاً على ….
التصريح مُطنِباً.
وجدته يوماً يخبر صاح صاحبه الأديب (توفيق زاهد) أنّ سجّانيه سألوه قصيدة مدح لهم؛ فردّهم بقوله:
((كيف تسألون بلبلاً أن يغرّد لكم،وانتم واضعوه في قفص؟)). ولا أشكّ في أنّ سجّانيه هم (الحرس القوميّ) الذين أغرقوا العراق بدماء أهله ودموعهم ،سنة ثلاث وستين وتسعمائة والف للميلاد..وكان واسع الصدر. يذكّرني حِلمه بقول المتنبي:
(( شيم الليالي أنْ تشكّك ناقتي / صدري بها أفضى ام البيداء؟))
في صدره مكمن أسرار خفيّة. وتزاحم ثورات قصيّة. لاتعرف منها إلا ما بدا وظهرمصادفة. قرأ لي ذات مرّة مطلع قصيدة له:
((لئن شنقتك أشرار الطغاة / فحبل الشنق ينبض بالحياة))
قرأه ثم استدرك قراءته بالإعراض عنه ساكتاً. كأنّه قد سها عنه, في ساعة من غفلة الرقيب الذاتيّ, فانزلق إلى شفته لاشعورياًّ؛ ولمّا انتبه إلى سهوته،استعان عليها بالسكوت شعوريّاً.أغراني جمال البيت بأن أسمع ما تليه من ابيات؛ لكنّه كتمني إيّاها،وأبى ان يجهر بالقصيدة. وأحسبها مقولة في الخمسينيّات في رثاء (فهد) سكرتير الحزب الشيوعيّ العراقيّ . لعلّه تذكّر مانسي من ضريبة الشعر الوطنيّ ــ السياسيّ في العراق، فأحسّ بما يوجب التزام السكوت في مثل هذا الموقف، فسكت محترزاً. ولعلّه…ولعلّه…كم كنت أتمنّى لو أسمعني تلك القصيدة. لكنْ هيهات من رجل دين مثله
يوسف سلمان (فهد)
أن يُسمع شابّاً مثلي إياها،وهيهات من صوت وطنيّ مغلوب أن يتحدّى صوتاً دينيّاًّ غالباً بفتواه (الشيوعيّة كفر وإلحاد) التي دوّت في أرض العراق تلويحاً بالسجن والتعذيب والقتل والإعدام .لم يكن احترازه ليَفجأَني. لقد علمته وغيري من مريديه شيخاً محترزاً فيما يقول عن الشيوعيّة ،على العكس من زميله الشاعر الأستاذ (مرتضى فرج الله) الذي كان يجاهر محدّثيه بشيوعيته غير مبال بردود الأفعال ولا بالنتائج .ولربَّما أسف شيخنا على تجربة سياسيّة أَنقضت ظهره أشدّ الأسف؛ فطوى صحائف ذكرها يائساً مُختصِراً معناها,في بيت له، طالما ردّده تأسّفاً:
((إنَّ شعباً تذيب روحك فيه / يتلقّاك في شعور بليدِ)).
ومهما يطوِ حقيقته أو يُخفِها تحفّظاً أو تواضعاً، فإنّ شهرته الشعريّة بين الناس اوسع من ان يطويها أو يخفيها تحفّظ او تواضع .وإنّي لأحسبه شعريّاً أميل الى التجديد والإبداع منه الى التقليد والإتباع.. ماأجمل شعره العموديّ! وماأجمل شعره الحرّ أيضاً! بل ماأجمل شعره كلّه! وليت آل بيته ومحبّيه يُعنون بموروثه الشعريّ، فيجمعوه إن لم يكُ مجموعاً؛ويُعنون،كذلك، بكتابة سيرته التي أجهل صيرورتها مذ هجرتي القسريّة من الوطن ــ العراق في أواخر السبعينيّات.وآخر ماتحفظ له ذاكرتي أنّه قد أسّس ندوة أدبيّة في مدينة (النجف)، أسماها (ندوة الأدب المعاصر). ومازلت لاأدري حتّى الساعة:كيف كانت عقبى ذلك المشروع الثقافيّ،في وقت،كانت فيه جميع المشروعات الثقافيّة، تحت سيطرة سلطة الدولة القمعيّة ورقابتها؛وجميع المثقّفين بين موالٍ لها،أو منكفئ لائذ بالصمت عنها.؟رحم الله الخطيب الشاعر الشيخ عبد الصاحب البرقعاويّ، وطيّب ثراه،وأخلده.