تمّت محاورة أدبيّة،بيني أنا(عبدالإله الياسريّ)في كندا وبين الأستاذ(أيمن عبدالله عبّاس)في العراق،قبل بضعة أشهر،ليذيعها على الملأ مشكوراً.ثمّ تعجّلت أنا اليوم(٣أيّار/مايس ٢٠٢٣م) في نشرها بعد أن استأذنته،حيث لم أجد بدّاً من التعجّل،لأني وجدت فيها مايُغنيني عن إالإجابة عن أسئلة مماثلة، طرحها عليّ أحد طلاب الماجستير،في قسم اللغة العربية،(مروان العزاوي)،بواسطة الدكتور(مهنّد عبد العظيم الياسريّ).ولولا طمعي في أن تكون لهذه المحاورة فائدة خاصة في بحث الطالب السائل،وفائدة عامة في الأدب العربيّ،لما تعجّلت في نشرها.ودونكم ــ أعزّائي القرَّاء ــ النص الكامل لتلك المحاورة التي دارت بيننا:
(من الأستاذ أيمن عبدالله عباس بالبريد الإلكتروني الخاص):
((الاستاذ عبدالاله الياسري المحترم.السلام عليكم ورحمة الله.
(…) بتاريخ (21/8/2022م) تشرفت بمقابلة شخصية (عبر منصات التواصل الاجتماعي) مع الشاعر العراقي المغترب الاستاذ عبدالاله الياسري وفرصة اتاحها لنا الشاعر مشكورا لتسليط الضوء على أبعاد تجربته الابداعية الممتدة عبر أكثر من خمسة عقود، وكانت محاور الحديث وفق الرؤية الأتية :-
المحطة الأولى / السيرة الذاتية منذ البدايات وحتى لحظة(هنا والآن) …
المحطة الثانية / السيرة الشعرية ورحلة التجربة وصولا الى الديوان الاخير …))
الأجوبة الكاملة عن أسئلة المحطة الأولى / السيرةالذاتية:
ــ سألني الأستاذ أيمن عبدالله عبّاس :
((س١ – عبدالاله الياسري الانسان منذ الولادة وحتى اللحظة ؟ كيف تصف محطاتك الكبرى وهي تتحرك مع العواصف الطارئة ومواسم الجفاف المطبق أحيانا ومن ثم النفوذ الى العالم الأرحب من خلال الاغتراب والتطواف في بقاع العالم ؟))
ــ أجبت أنا عبدالإله الياسري عن سؤاله :
أوّلاً ـ في العراق(من ١٩٥٠م حتى ١٩٧٩م):
ـ وُلِدت في سنـة خمسين وتسعمائة والف للميـلاد(١٩٥٠م) في قرية (طُبَر سيـد نور)في ناحية المشخاب التابعة لمحافظة النجف.وسيد نور هو جدي الثاني الذي كان يحظى في الفرات الأوسط بنفوذ اجتماعي كبيرلأسباب دينية ووطنية ومالية.(1)
ــ هاجر والدي سيد تكليف الى مدينـــة النجـف في أواخر الأربعينيّات من القرن المنصرم طلباً للعلـوم الدينيــة.وما أن ألحق به أسرته حتّى شرع يفكّر في أن يعدّني لميدان العلوم الدينيّة،فأوكل أمر تعليمي إلى الكُتّاب لحفظ القرآن إلا أنّ استعمال العنف في طريقة التعليم فيه لم يوافق ما ألفته من حنوٍّ وإشفاق في تربيتي العائليه،فأضربت عن الدرس احتجاجاً عليه،فعدل والدي عما كان يفكر به،واضطر إلى أن يسجلني في مدرسة”منتدى النشر”وهي مدرسة أهلية في النجف تجمع بين التعليم الديني والتعليم الرسمي الحكومي،لكنه بعد تغيّر النظام الملكي في العراق (١٩٥٨م)،آثر أن ينقلني إلى مدارس الدولة الرسمية.
وتجب الإشارة هنا الى أن “منتدى النشر” كانت ثمرة من ثمرات التيار الديني الوطني المعقلن الذي كان يشكل خط التنوير مقابل التيار الديني التقليدي في النجف.وكانت لوالدي صلات وثيقة بأعلامه التنويريين.وقد مكّنتني تلك الصلات من ان أتعرف إلى أكثرهم،وأتنوّر بافكارهم المناهضة لجمود التيار الديني التقليدي الغالب بقوته المالية والبشرية وبإغضائه على الصراع السياسي بين نضال الوطنيين العراقيين وقمع النظام الملكي لهم في النجف قبيل العهد الجمهوريّ.ولمدينة النجف مؤثرانِ أساسييان في تكويني الفكري؛تبلورا عندي فيما بعد الى نزعتين فكريتين.الأولى نزعة للتحرر من السلطة الدينية(والتحرر منها لم يكن يعني التحرر من الدين بل تحرير الدين من هيمنتها التي حوّلته الى أداة ظلم واستبداد) .والأخرى نزعة للتحرر من السلطة السياسية التي تستعبد الناس وتقتلهم بدلا من أن تخدمهم وتحميهم.(2)
ـ كان والـدي المعتمد على الزراعة في عيشه فقيراً أو كالفقير،لأنه لم يُعنَ بشؤونها.ولم يكن عيش معظم رفاقه في الدرس الديني باحسن حالا منه ،على الرغم من وجود طبقة علمية دينية اخرى تعيش حياة ملوكية منعمة.وهذا التفاوت الطبقي ليس بغريب على مجتمع النجف.ونتيجة له،كنت أشعر بالحرمان؛لكن مجد جدي سيد نور الذي كان مسؤول النجف الإداري (قائمقام النجف) في العشرينيات(3)،وقصره المنيف الذي كنا نسكن فيه،قد عوّضاني عن ذلك الحرمان وأشعراني بالغنى المعنوي.ولقد علمتني جدلية الفقر والغنى فيما بعد، كيف يمكن أن يعيش الإنسان فقيراً وغنياً في وقت واحد.وصانتني من سقوط الفقراء لأنني غنيّ، ومن سقوط الأغنياء لأنني فقير.فأنا لم أكن أملك شيئا لكني لم أكن محتاجاً إلى شيئ.وفي عــدم التملـك الشــخصي والحاجــة الى الغيــر إنعتــاق من قيــــد المملوكيـــة والإستعباد.وعلى الرغم من دخولي سلك المدرسة الحكومية لم يهمل والدي تعليمي الديني والأدبي بنفسه حيناً وبغيره من أصحابه حينا آخر.على أيّة حال أتـممت في النجف تحصيلي المدرسي الإبتدائي(١٩٦٣م) فالمتوسط(١٩٦٦م) فالإعداديّ (١٩٦٨م).وواصلت تحصيلي الجامعي في كلية التربية (دار المعلمين العالية سابقاً) في بغداد،وتخرّجت في قسم اللغة العربية في سنة اثنتين وسبعين ( ١٩٧٢م) حاصلا على شهادة البكالوريوس ثم سِيق خرّيجو الجامعات من دورتي للخدمة العسكرية الإلزامية؛وكنت واحداً من أولئك الخرّيجين المساقين جنوداً إلا أنّ معاملتي السيئة في الجيش،لعلم مخابراته بعدم سيري بخط الحزب الحاكم يومذاك،قد ميّزتني عن أكثرهم؛ ،فضُيِّقَ علَيّ كلّ التضييق،وكدت أُعدم إلا قليلا.(4)
ـ تسرحت من الجيش العراقيّ صيف سنة ثلاث وسبعين(١٩٧٣م)وعُيّنت مدرّساً لمادة اللغةالعربية في ناحية نائية من نواحي محافظـة القادسيـة ثمّ نُقلتُ مغضوباً عليّ من مدرسة إلى أخرى أكثر من مرّة حتى نُقلتُ إلى إعدادية مسائية في النجف في سنة(١٩٧٨م).ولم تَطل مداومتي فيها إلا أشهراً قليلة ؛إذ انقطعت عن مزاولة التدريس بعد أن قررت سلطة الحزب الحاكم”تبعيث التعليم”في العراق،فأمسى كل من في سلك التعليم بين أمرين.إمّا الإنتماء لحزب البعث الحاكم، وإمّا ترك مهنته التعليمية.فاضطررت مكرهاً إلى أن أهاجر من الوطن في صيف ١٩٧٩م خلاصاً من ذلك الإضطهاد السياسي؛حيث جعلني رفض الإنتماء في صف أعداء الحكومة التي رفعتْ بوجه المواطنين شعارها المشؤوم:”من ليس معنا فهو ضدنا”.هذا السبب الأول لهجرتي وهو تعليمي محض.واما السبب الثاني فهو أدبي ؛لأنّ سلطة الدولة حوّلت أغلب الأصوات الأدبية إلى طبول وأبواق لتأييد سياستها والترويج لها ؛وقد أبيت أن أنحو نحوهم،وأصررت أن أظلّ ،كما خُلقتُ،إنساناً حرّاً.ولا أكاد أفهم كيف يمكن للمعلم المربي والأديب المثقف أن ينتمي إلى حزب ربط مفهوم التعليم والأدب بالسياسة ،وحياة االمعلمين والأدباء بالسير في ركبه الإيديولوجي إجباراً. ؟(5)
ثانيا – في الخارج(من ١٩٧٩م حتى ؟ ):
حـللت في المغـرب الأقصى سنة تسع وسبعين( ١٩٧٩م) وحاولت أن أتمّ دراستي العليا هناك.ولما علمت أن من شروطها موافقة السفـارة العراقية في الرباط آنذاك؛عدلت عن محاولتي،لأني أعرف السبب والنتيجة .بعد ذلك عملت مدرساً لمادة اللغة العربية في إحدى ثانويات المغرب بعقد شخصي مع وزارة التربيـة والتعليــم المغربيــة،وشعــرت بالحريــة في مهنتــي التربوية، وفي حياتي الشخصية اليومية أيضاً غير أن هذه الحرية النسبية لم تستمر طويـلا إذ سـرعـان ما اندلعت الحرب العراقيـة ـ الإيرانيـة في الثمانيـن(١٩٨٠م) ،وتعقدت الإجراءات المغربية بازاء إقامة العراقيين المعارضين للنظام العراقي الذي كان يحاول أن يسدّ عليهم الطرق في الخارج،ليعودوا إليه خاضعين أملاً بتصفية الحساب معهم.ثم انتهت بي هذه الظروف السياسية العربية (أنا وزوجي المغربية واولادي الثلاثة) الى مغادرة المغرب مكرهاً إلى كندا طالباً حق اللجوء السياسي في سنة تسع وثمانين( ١٩٨٩م)(6).وعندما سألتني قاضية الهجرة الكندية في المحكمة:”ماذا تطلب من كندا؟”قلت:”كرامة الإنسان لا غير”.وحصلت فعلاً على ماطلبت،وسرَتْ عليّ وعلى أفراد أسرتي كافة الحقوق والواجبات التي تسري على المواطنين الكنديين وانتهت ازمة الحرية في العراق وازمة الإقامة في البلاد العربية،لتبدأ أزمة جديدة في مغتربي الكندي وهي ازمة العمل فضلاً عن اللغة وتباين التقاليد وأشياء أخرى.وأشهد أني لم أعرف وجودي الفردي إلا في كندا أعني الحرية الشخصية؛حيث لاوجود للفرد في العراق ولا في البلاد العربية مع وجود الهيمنة الجماعية.وعلى الرغم من إغراءات الحياة المادية الكندية التي أنست كثيرا من المهاجرين اوطانهم وثقافاتهم ،فاني ظللت ناشطاً في كل المناسبات الثقافية والسياسية المناهضة للدكتاتورية في العراق.ولقد ساهمت في التسعينيات مع نخبة من الوطنيين العراقيين في تآسيس مجلة “آصداء” في كندا،وفي دعم مجلة “عشتار” في استراليا،ومجلة “المنار” في السويد ،وساهمت مع المفكر الوطني هادي العلوي بسوريا في تاسيس “جمعية بغداد” لمساعدة العراقيين داخل العراق وخارجه وفي تاسيس “لجنة الدفاع عن الرافدين”ضدّ المشروع التركيّ العدواني، وفي دعم “صندوق المثقفين العراقيين”في الخارج،وفي غير تلك من النشاطات الوطنية والإنسانية.ولقد نشطت في نشر شعري ونثري في الصحافة العراقية المهجرية في السويد وبريطانيا وهولندا وكندا واستراليا وفي سوريا مقارعا النظام السابق نظرياً وعملياً باسمـي الصريــــح الكامل. وكنت واحداً من العراقيين القلائـل الذين وقفـوا بعـد سنة إحدى وتسعين( ١٩٩١م) ضد الحكومة الإمريكية في فرض الحصار على العراق وضد الحكومة العراقية في استبدادها في آن واحد؛اذ انقسم العراقيون في الخارج بين مؤيد لإمريكا ضد نظام صدام أو مؤيد لنظام صدام ضد إمريكـا وقلَّ من جمع في احتجاجه بين الإثنين؛بعد أن صار الغـرب الأوربي ـ الإمريـكي ساحـة واسعـة لمن هبّ ودبّ من مدعي المعارضة ضد الدكتاتورية في العراق وقتذاك غير ان تلك المعارضة لم تكن عراقية وطنية حقّاً بمفهومي الوطني الخاص؛لأنها وضعت نفسها في موضع الشبهات حين تحالفت مع الأجنبي على غزو بلدها (العراق) وتقسيمه.ولهذا لم أَمِل اليها أنا ولا أمثالي من العراقيين الوطنيين بعد معرفة هذه الحقيقة المؤسفة. (7)
بعد سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد في السنة الثالثة بعد الألفين(٢٠٠٣م) عدت الى العراق أملاً في أن أعود الى مهنتي التدريس وأعيش في وطني حتى موتي غير أنّ الحكومة الجديدة السائرة في تنفيذ مخطط الاحتلال الإمريكيّ وضعت مالم يخطر ببال من العوائق المصطنعة أمام العراقيين العائدين الى الوطن من غير المرتبطين بها ،لكي يخلو لها ولفسادها الجو.ومهما يكن،فإني حاولت أن أصف حياتي صادقاً.وهل يصدق وصفها دون أن أصف البيئة العراقية التي نشأت فيها،والبيئة العربيّة والغربية التي أقمت فيها؟.وكيف لي أن أصفهما على وجههما الصحيح بكلمة اقتضت الظروف أن تكون مقتضبة جداً ؟
ــ وسألني:((س٢ – من هو الشاعر ؟ ما هي مؤهلاته الخاصة وكيف تصف حساسيته ونفوذ البصيرة التي يتمتع بها وهل هي شرط في شعريته ؟))
ــ أجبته : لايكاد يقوم تعريف الشاعر وتصنيفه منطقيّاً،على اجتماع صفاته وخصائصه؛لأنّها في عدم محدوديتها غير موضّحة لمعناه الكلّي.وهو ليس غير محدود الصفات والخصائص وحسب؛وانما يتفاوت تعريفه بناءً عليها من مفهوم لآخر.فالشاعر عند إفلاطون هو اللامثالي الكائن في الظل وعند أرسطو هو المبدع المحاكي،وعند فرويد هو الحالم.وفي ماقبل الإسلام هو المحامي عن القبيلة ، وفي الإسلام هو المؤمن الصالح.والشاعر في المفهوم الرمزي هو غير الشاعر في المفهوم الكلاسيكي أو الرومانسي أو الواقعي.وفي الشعر الغنائي هو غيره في الشعر المسرحي إلى آخره من المفاهيم المتباينة في تاريخ النقد الأدبي.فهذه المفاهيم المحدودة لاتحتوي معرفة الشاعر على وجهه الصحيح ؛لأنه غير محدود المعنى.وهيهات أن يحتوي المحدود اللامحدود.فالشاعر هو الشاعر في أحسن تعريف لماهيته..أما مؤهلاته الخاصة،فيمكن تقريبها لاحصرها،وأوّلها الإلهام الذي حسبته الأساطير اليونانية هو صلة الشاعر بآلهة الفنون،وحسبته العرب في عهدها الأسطوري هو شيطان الشاعر وسر عبقريتة (نسبة الى وادي عبقر الذي يسكنه الجن)أي أن الإلهام مصدر موهبته.ولا شعر من دون موهبة فضلا عن المؤهلات الأخرى مثل القدرة الخيالية والتصويرية التي هي روح الشعر لاسيما القديم منه والقدرة الموسيقية في التعبيركذلك،ومثلهما قدرته على لغة العاطفة التي هي لغة الشعر،مقابل لغة العقل التي هي لغة النثر؛ غير أن الشاعر الحديث ركزعلى التلميح بالأفكار عن طريق الصور لا التصريح ظناً أن قوة الشعر تتمثل في الإيحاء الذي تكمن فيه الإشعاعات للألفاظ اللغوية.وأما الحساسية الشعرية،فهي تختلف من شاعر لآخر بالدرجة أو بالكيف.وهي المعيار الذي يُميز به الشاعر من غير الشاعر.وقد يكون الشاعر بمعيار الحساسية الشعرية شاعرا؛ولكن لاوعي له ولابصيرة.والوعي والبصيرة من شروط الشعر العظيم . وشعراء العرب الكبار،انطلاقاً من مفهوم الحساسية الشعرية شعراء كلهم،ولكن ليسوا شعراء وعي وبصيرة كلهم مستثنياً القليل منهم كأبي العلاء المعري،لأن أكثرهم روّضوا أنفسهم لجرعربات الدولة وشاركوها في طغيانها وجورها؛إنما الشاعر الشاعرعندي هو من يتجاوز جمال الفن إلى جمال الموقف الإنساني .ذلك هو الشاعر الخلاق الذي يخلق نفسه كما يخلق قصيدته مقاوما لذائذ الجسد وهاجس المال والشهرة،ومتجاوزاً ترغيب الحاكم وترهيبه. إن مسؤلية الشاعر مرّكبة،لأنه لايسئ الى نفسه حين ينحرف عن طريق الحق والخير والجمال وحسب،وإنما يؤثر انحرافه في الناس حين تسمع شعره أو تقرأه،فيسئ إليهم كما أساء إلى نفسه(8)
ــ وسألني:((س٣ – ما الفارق بين الانسان العراقي في الداخل والخارج ؟ وما هي الآفاق التي تفتقت عنها رحلة الاغتراب في صقل السمات الانسانية وتهذيب خبرة التعايش مع المحيط الانساني وبعيدا عن المحددات الشرقية والقيود والمسميات ( الدين , العرق , الطائفة , اللغة …).))
ــ أجبته : انّ الانسان العراقي في الداخل لايقل إبداعاً عن الإنسان العراقي في الخارج الذي مافتئ يشارك في الميادين العلمية والفنية والسياسية وغير تلك من المظاهر الحضارية خصوصاً في أوربا وفي إمريكا الشمالية.لذا أعتقد أنّ الفارق ليس بين جوهر الإنسانين داخلياً وخارجياً،وانما بين المؤسستين السياسيتين اللتين تحكمهما.إنّ الإنسان العراقي في الداخل تحكمه مؤسسة سياسية مرتبطة بالمؤسسة الدينية،وتجمع المؤسستين مصالح مشتركة وأهداف واحدة.وعندما يرتبط الدين بالسياسة،بسلطة الدولة تحديداً، تفرض مؤسسته واجبات على المواطنين من الأديان الأخرى التي تسميهم الأقلية،ولاتساويهم في الحقوق مع الأكثرية التي هي على دينها، فيشعروا ،بهذا التمييز الديني،في أحسن الأحوال،أنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو دونها؛فضلا عن أن المؤسسة الدينية لها تفسير واحد للنص الديني ،وتحاول من خلال سلطة الدولة فرضه على كل المواطنين.،ولايحق لأي عقل أن يرى غير ذلك التفسير الواحد.وهكذا يصبح الإنسان العراقي في الداخل تحت ضغطين:ضغط التمييز الديني إن كان من أقلية دينية أخرى وضغط القمع الفكري،إن كان من المثقفين المتنورين.إذاً هو في الداخل ليس مواطناً له حقوق وحرية تامّتان في وطن ؛وإنما هو في سجن إيديولوجي اسمه(وطن).يطالبه فيه السجان بالخضوع والطاعة كل يوم.وإن لم يطع ويخضع فالإتهامات ،كالكفر والإلحاد والإرتباط بالأجنبي، جاهزة لإعلانها ضده. وعندما تصادر المؤسسة الحاكمة المساواة في الحقوق والحرية الفكرية بين المواطنين؛تقلّ مشاركتهم الإبداعية في ميادين الثقافة والحضارة أو تنعدم .وما من شك في ذلك.وهذا الإنفصال التاريخي بين الحاكم والمحكوم في العراق هو مايؤكده واقع المؤسسة الإستبدادية الحاكمة في الداخل الآن،وهو على العكس من واقع المؤسسة الديمقراطية الحاكمة في الخارج والمبنية سلطتها على أساس مساواة المواطنين في حقوقهم وعلى أساس الحرية في التعبير عن آرائهم،ليبدعوا في ميادينهم المختلفة ويصنعوا المستقبل بإبداعهم.وإذا لم يكن الفارق في المؤسستين الحاكمتين جدلاً،فما سبب اختفاء القضايا الخلافية بين العراقيين في الخارج ؟ولماذا يعيشون في الخارج على اختلاف أديانهم وقومياتهم بسلام في حين يختلف أهل الدين الواحد،والمذهب الواحد،وأهل القومية الواحدة،في الداخل،اختلافاً شديداً إلى درجة تبادل الإتهام بينهم وسفك الدماء؟.وقد يقول قائل:إن الحكومة في العراق ديمقراطية الآن،لانها جاءت بانتخابات المواطنين.أقول:الديمقراطية تربية وثقافة تبدأ من روض الأطفال والبيت والمدرسة،وتحتاج إلى تنظير مفكرين عظام وممارسة فعلية.أما الديمقراطية الحكومية في العراق،فهي اسم آخر للدكتاتورية.وهي شعارات وواجهات لاغير.
ــ وسألني:((س٤ – من هي المرأة في فكر الياسري ؟هل هي بؤرة الضوء المستعصية عن الاحتواء ؟ كيف تروضها ؟ وهل لعالمها تخومه الخاصة أم هو ذلك العالم المنفتح على الآخر ؟))
ــ أجبته : هذا السوال مهم ومفيد جدا،لأنه يطرح مايتعلق باهم مشاكلنا الاجتماعية المسكوت عنها ثقافياً أواللامفكّر فيها جدياً.وهو سؤال مركب من مفهومين عن المرأة: الأوّل تسلّطي ذكوري قديم والآخر إنساني معاصر جديد..واعترف أن نظرتي للمرأة قبيل نضوجي الفكري في شرخ شبابي كانت تتضمن المفهوم الأوّل،على الرغم من أنها كانت مختلفة عن نظرة الرجل التقليدي بالدرجة لا بالنوع.وقد اكتسبتها من بيئتي العشائريّة المصبوغة بالدين ،وأنا ابن بيئتي الذكوريّة،ولست وليد فراغ،لكني حين سعيت إلى خلق نفسي من جديد متأثراً بحركة التنوير الفكرية تغيرت نظرتي إلى المرأة ونظرتي الى الرجل العربي أيضاً.إذ رأيت ،من جانب، أن المرأة ليست وسيلة كما هو سائد في مجتمعي وإنما هي غاية إنسانيّة لما هو أبعد من مفهوم الجنس والإنجاب.وهي ليست جزءاً منفصلاً عن وحدة الإنسان أي ليست جسداً لهدف بيولوجي وحسب؛وإنما هي النصف الإنساني الآخر.وحين تلتقي هي والرجل يكونان إنساناً واحداً في لقائهما الجسدي والروحي والعقلي.وإذ رأيت،من جانب آخر، أن الرجل العربي مزدوج السلوك في علاقته بالمرأة ؛لأنه يطالبها بالحصانة والعفة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؛وهو،في الوقت ذاته،يبيح لنفسه الحرية الجنسية المطلقة.فكيف يمكن للرجل المثقف،مثلاً، أن يحتج على ماتقرره سلطة الدولة المستبدة مبتغياً الإصلاح ،وهو يطالب المرأة،في الوقت نفسه، أن تخضع لما تقرره سلطته الذكوريه المستبدة.؟ لقد فكّرت في هذا الأمر طويلاً مقاوماً أنانيتي االذكورية،وازدواجيتي السلوكية بإزاء المرأة أشدّ مقاومة حتي تحررت من أكثر قيودي المكتسبة تحرراً نوعياً،وتجاوزتها رائياً أن ماهية المرأة العظيمة لاتكمن في شكلها،بل في جوهرها الإنساني الخلاق ،وفي قدرتها على خلق الحاضر بالوعي والإرادة وتخطيه إلى المستقبل الأمثل.فلم أعد أنظر إليها بعين الأمس،بل أصبحت أنظر إليها بعين من يعيش في القرن الواحد والعشرين.أريد لها ماأريد لنفسي.وأريد لها أن تكون شريكتي في الحياة،ورفيقتي في طريق التغيير والبناء. (9)
ــ وسألني:((س٥ـ العراق؟صفه ؟ضع يدك على العيوب برفق ثم اقترح لأزماته المزمنة والمستعصية حلا؟))
ــ أجبته : العراق هو العراق.وإنّ الكلام ليضيق في وصفه لسعة معناه،ولانهائية ضفافه.أما عيوبه بل أزماته ،فهي محصورة في تاريخه الحديث ،بمفهومي الخاص، في ثلاثة أسيجة مغلقة،تمنع الإنسان العراقي من أن يخرج منها فعلاً،وحتى من أن يفكر بالخروج منها نظراً.وأعني بهذه الأسيجة سلطة الدولة المعلن عنها رسمياً،وسلطتين أخريين غير معلن عنهما رسميا .وهما سلطتا الدين والذكورة اللتان لاتكادان تقلان خطورة عن سلطة الدولة في ترسيخ الأزمات السياسية والفكرية والإجتماعية.وللأسف أنّ أغلب المصلحين العراقيين أكدوا على خطورة سلطة الدولة دون التأكيد على خطورة السلطتين الأخريين المذكورتين جهلاً أو خوفاً من أن يُتهموا بالشيوعية والإلحاد وغيرهما من الإتهامات الجاهزة ضد كل مصلح وطني غيور على العراق.ولو كان الأمر مقصوراً على سلطة الدولة وحدها،لتغيرت الحال بتغيرها.وكم من سلطة سياسية تغيرت في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في العشرينيات من القرن المنصرم والحال العراقية مازالت هي الحال من حيث الكيف.لماذا؟.لأن التغيير السياسي الفوقي لم يمسس الأساس عملياً. أعني بالأساس أولاً وضع المرأة العراقية الذي لايعبر عن العصر الذي تعيش فيه.وثانياً تدخل المؤسسة الدينية في السياسة بحيث أفسدت العلاقات الوطنية بين العراقيين. وأكرر أن الدين يجب إحترامه والدفاع عنه؛ولكن يجب الوقوف ضد تسييسه وتوظيفه للتسلط على الناس.وتضاف إلى هذه الأزمات”المزمنة والمستعصية” أزمة الهيمنة الإمريكية والإقليمية على العراق منذ ٢٠٠٣م.وأما الحل للخروج من هذه الأزمات التي سميتها الأسيجة المغلقة ؛فهو بيد الشعب العراقي.هو المفكر الوحيد القادر على اقتراح الحل بالوعي العميق والإرادة الوطنية والتجربة النضالية العراقية.إنما أنا مازلت تلميذاً في مدرسة الحياة أتعلم معاني النضال والثورة من الشعوب.
الأجوبة الكاملة عن أسئلة المحطة الثانية / السيرة الشعرية:
ــ وسألني الأستاذ أيمن كذلك:
((س١- كيف كانت البدايات الشعرية للياسري ؟ بمن تأثرت ولمن قرأت وتقرأ ؟))
وأجبت أنا عبدالإله عن سؤاله:
لاأكاد أَذكر متى تولّعت بالشعر؟أو كيف؟ أو لماذا؟،ولكنّني أذكر أنّ كــلام البيئة النجفيّـة التي نشـأت فيها كـان ممزوجـاً بالشـعـر.وهي بيئـة لا تبعـد عن الكوفـة والحيـرة مركزي الشـعـر العربيّ القديم سوى بضعة كيلومترات.وأذكـر أيضاً أنّ حافظتي كانـت تخـزن كلّ ما يُمتعني ممّا تفيض به موارد الشعـر في تلـك البيئة؛ثمّ بدأ ذلك المخزون الشعـريّ ينبجس على شفتيّ بيتاً مفرداً حيناً،أو نتفة شعرية حيناً آخر.ومن تلك النتف الشعرية، في أوّل الصبا، قولي:
حتى متى أقضي حياتي بين عيبٍ أو حرامْ؟/
ماانفكّ يُطعمني أبي ** وعظاً ويَسقيني مَلامْ/
ولم أكد أَبلـغ درجة القطعـة الشعـريـة في النظـم حتّى اكتشـف معلّمي الشيـــخ محمّـد جعفــر الكرباسيّ باكورة شعريّ وأنا في الحادية عشرة من عمري.فعرفت أني لا أُقرزم،وإنما أقول شعراً؛إذ عُنيَ بها تنقيحاً،ونوَّه بها عند صاحبه والدي،واستحثّه على أن يُعنَى بشاعرية ولـده. غيرأنَّ والدي الشاعر المتفقِّه تَطيّر من الخبر،وصار ينهاني من قرض الشعر ويحذّرني من عواقبه؛لكني مضيت أقرضه رغباً به،رغم نهيه وتحذيره،حتى استقامت لي القصيدة العربيّة وأنا في الرابعة عشرة.ولقد كانت موضوعاتي في ذلك الوقت،رغم شكلها الشعري التقليدي، تعكس تجربتي الطفولية الخاصة،ومافي تلك التجربة من شعور حادّ ومعرفة حسيّة بعيدة عن التجريد العقلي.ومن بواكير شعري في عام 1964م قصيـدتي”غضب الـسماء”التي شرعت أخاطب فيها المطر الذي انصبّ وابلاً على بساتين النخل في غير أوانه،فأتلف ماأرطبت به الأعذاق،وقطع عن أهليها رزقهم في تلك السنة.ومنها هذه الأبيات:
هذا هو الخير منـك الآن تنهمـــرُ؟*** فأين قد كنـتَ قبـــل الآن يامطـــرُ؟/
أَيُغرِق الله في الأكواخ من سجدوا*** لـه،ويُنقِـذ في الأبـراج من كفـروا؟/
أَظنّهم أَسرفـوا في شــكـر نعمتـه *** فـزادَهم فوق حدّ الخير إذ شــكروا/
وقصيدتي”مواساة بلبل”في عام 1965م .ومما جاء فيها قولي:
يا بلبلَ الروضِ السجيـنِ تَصبَّـــرِ*** بيْ مـا بنـفســـكَ من أسىً وتَكــــدُّرِ/ قلبي كقلبــكَ مات فيـه صـداحُــه *** ودجا بــه ألـقُ الصبـــاحِ المُسفِــــرِ/ فانصتْ لمـا أتلــو عليـــكَ فـإنّـني*** مثلُ الطيورِ فـلا تخفْ من منظري/
إنّ ما جعلني أَستشهــد بأبيات هاتين المقطوعتين الشعـريّتين ، دون غيـرهـمـا من المقطوعات الأخرى،هـو مخالفتهما للمضمون الشعري السائد في أغلب الأشعـــار النجفية في ذلك العهد من صباي.وأقـول الحـقّ:إنّ تلـك المخالفـــة المضمونيّة لم تكن نزوعاً فكريّاً إلى الماديّة في المقطوعة الأولى(التعريض بلفظ الجلالة) ولا هروباً رومانسيّاً إلى الطبيعة في الثانية(رفع الطير إلى درجة المظلومية)؛لأنّي لم أكن في تلك السنّ أعـرف شـيئاً عـن الفلسفة ولاعن المذاهب الفنية؛زيادة على أني لم أكن أطمح يومذاك في أن أتجاوز من سبقني من الشعراء،ولكن شيطان الشعر مارد جبار.
ومن بداياتي الشعريـة كذلـك أنّا اتفقنا( أنا وبضعة أصدقــاء لي في المدرسـة المتوسطة)،في صيف عام 1966م،على أن نؤسس ندوة أدبيّـة أسبوعيّـة.وقد تمّ لنا ما أردنـا،وسمينـا الندوة ندوة “شموع الأدب”،وصرنا نجتمع أسبـوعياً في دار أحدهـم.وأشهـد أَنّ تلك الندوة(١٩٦٦م ـ١٩٦٨م) قد فجّرتني شعرياً حين أزاحت عني ستـار التحرج الديني والإجتماعي الذي كنت أواجهه في إظهار قصائدي؛إذ كان كلّ أترابي في الندوة يحسون بمثل ماأحسّ به لتقاربنا في السنّ،وتشابهنا في الأهواء.ومن شعري الجنسي قصيــدتي “ذكريات 1965” التي أقــــول فيها: ألقى الهنــــاء علينـــــا ظلَّ بردتــــــه *** لمّـا التقيــت بهـــــا ليــــلاً بمنعـزلِ/ طوّقتـُهـــا بـــذراع الشـــوق فاندفعـتْ*** نحـوي تـقـبّـلنــي في لهفـــة الجَـذِلِ / جذبتُهـا من دقيــق الخصر فانهصرتْ*** تحتي كطيّـة غصنٍ مرهف خضِـلِ/
ولكني على الرغم من جموح الرغبة الجنسيـة وإلحاحهـا؛لم أكن تامّ التحـرّر من قيود الحفاظ الإجتماعي الذي كان يؤكّد على عفّة العزّاب ويراقبها.ومن شعري في ذلك المضمار،هذه الأبيات من قصيـدة (ياحلوتي(1966:
وبعد أن أتممت المرحلة”المتوسطة”من دراستي في عام١٩٦٦م ،واخترت القسم الأدبي في “إعدادية النجف”؛شاء حسن الحظ أن يكون مدرّسي في العربيـة الشـاعر الأستاذ زهير غـازي زاهـد الذي واءمت شـاعريته وسـيرته شغفي بالشعر واحتجاجي على الواقـع.وممّا قوّى عُرَى التواصل بيننا نشـره قصيـدة غزل له ،ومعارضتي إيّـاهـا بأكثر من ثلاثين بيتاً ،وقد عمدت بذلك الكم الشعري إلى أن أري أستاذي الشاعر مقـدرتي الشعرية،وثورتي الفكرية.وطفقت أقـرأ له القصيدة بدءاً من مطلعها والأبيات التي تليه:
ومتى يـاربّي يَفتـــح لي *** أبــواب الجنّـة نهداها؟/
ومروراً بهذين البيتين:
كـم فرض صلاة أنستني*** مشغول الذهن بذكراها/
خالفـتُ الله وشــرعتــــه*** مرتـدّاً صرت بمرآهـا /
وختاماً بما يأتي:
لم أُتممْ زهرة عشـريني*** وبُليـتُ بشــوكٍ أَذواهـا/ أنا حرٌّ في هذي الدنيـا *** وكما أَختــار سـأحياهـا / فسُـرّ أستاذي بما سمع من شعر.وما أن مضى شهر أو شهران حتى دعـاني إلى أن ألقي في حفـل مجلـس الآبــاء والمدرسين قصيـدةً أخرى لي،فاستجبت لدعوتـه، ثـمّ رشّـحني من بعـد للمشاركة في المباراة الشعـرية للمدارس الثانـويــة في محافظة كـربــلاء(كانت النجف تابعة لكربـلاء إدارياً).ولقد فـازت قصيدتي الموسومـة بـ”الجـراح تتكلـم”بالجائـزة الأولى في تلـك المبـاراة في نيسـان1968م؛فـاذا صيتهـا منتشــر في مدينتي كـربـلاء والنجـف كلتيهمــا.وإذا إنتشـاره لم يقف عند هاتيـن المدينتيـن وحسب بل امتـد إلى ماهو أبعـد منهما،بعـد أن نُشـرت القصيدة في مجلة “الأديـب” اللبنانية الشهيرة التي كانت تُوزَّع في البلدان العربية كافة(10). ومن أبيات تلك القصيدة قولي:
هذه هي أهم بداياتي الشعرية.أما السؤال:”بمن تأثرت؟”،فأظن أن المطلـوب بهذا الاستفهــام العلم بماترك الشعــراء من أثر في شعري.فإن كان هذا هو المطلوب حقاً،فإن التأثير عنصر أوّلي في كتابة أي قصيدة حين يكون ضوءاً لمحتواها ،وليس هو المحتوى نفسه.ولقد تأثرت في بداياتي الشعريـة،برومانسية أبي القاسم الشابي وبثورية الجواهـري أكثر من أن أتأثر بسواهمــا من الشعــراء الآخريـن لقرب شـعرهمـا من العاطفة الجياشة الملائمة لطبيعة الصبي والشاب،ثم تخطيت تجارب غيري مهتمّاً بما يعبـر عن تجربـتي الشعـريـة الخاصـة بصدق.وأما الســؤال:”لمن قـرأت ،وتقرأ؟”،فإني أكـاد أقـول :إني قرأت أغلـب الشعــر العربي قديمـه وحديثـه،محترمـاً شعراء الجاهلية لاسيما الصعاليك منهم أكثر من شعراء مابعد الإسلام الذين شاركوا الدولــة في استبدادها وإجرامها وسرقتها أموال الأمة طامعين أو خائفين.وقلّ من لم يشــاركهــا من الشعراء من قدماء ومحدثين.ولئن قرأت أغلب الشعر العربي بالأمس ،فأني ،اليـوم،لم أكد أقرأ من الشعر الا النزر القليل؛لانّ أغلبه لم يعد يغريني بجمـال ولا بموقف فأقرأه.وهو يعكس سوء الوضع العربيّ العام.هذا رأي خاص لاغير مع احترامي لكل الآراء.
ــ وسألني:((س٢ – الشعر والالتزام والواقع /الواقعية ؟ هل من الممكن أن نصنف الياسري بأنه من أكثر الشعراء التصاقا بالواقع وتحسسا لمطباته ووقائعه ؟ هل هو شريك الكتابة بالنسبة لكم ؟))
ــ أجبته : الإلتـزام في الفن عامّة،وفي الشعـر خاصة،هو مفهـوم معاصر.أكّد أهميته مذهب “الواقعية الإشتراكية” مقابل مذهب “الفن للفن ” إنعكاساً عن الصراع السياسي بين المعسكر الإشتراكي (الإتحاد السوفييتي وتوابعه سابقا)؛والمعسكر الرأسمالي (إمريكا الشمالية وأوربا الغربية)”من ١٩١٧م حتى ١٩٩١م.ثم تناولت هذا المفهوم الفلسفة الوجودية من بعد،لكنها اختلفت عن الواقعية في نظرتها إلى الشعر؛إذ رأت الوجودية أن الإلتزام يخصّ الناثر قبل الشاعر، لاختلافهما في طريقة التعبير،على عكس الواقعية التي لاتفرّق بينهما في بلوغ الغاية الاجتماعية.وغائية الشعر ليست مفهوماً جديداً استحدثته الواقعية،وانما هو قديم.وقد أشار إليه إفلاطون وأرسطو في فلسفتهما زعماً أن الشاعر هو مُعلّم الإنسان.وتأثراً بذلك الصراع السياسي الذي ذكرتُ، إنقسم الشعراء العرب المحدثون إلى ليبراليين يرون الشعر للشعر ،وإلى ثوريين يرون الشعر للمجتمع،غير أن هذا الإنقسام الشعري لم يكن في أغلبه مولوداً طبيعياً للظروف الداخلية في البلاد العربية،وانما كان امتداداً للإنقسام الثقافي الخارجي بين الشرق الإشتراكي والغرب الرأسمالي، دون النظر العميق في البيئة التي يعيش فيها الشاعر أو الطبقة التي ينتمي إليها.وبتعبير أبسط:يصحّ أن أقول:إنه كان مستورداً مثل أي مادّة استهلاكية أجنبية. أما أنا،فـ”نعـم”لـم أكن منفصلاً عن الواقـع العـراقي والعربي،ولا مـستقـلاً في شعـري عنه.ولو كان الحال في المجتمع العراقي أو العربي مثل الحال في المجتمعات الصناعية المتطورة التي حلّت مشاكلها المتعلقة بالسياسة والدين والمرأة منذ سنين؛لأبقيت شعري للشعر استمتاعاً باللذة الجمالية،ولما تدخلت في تلك المشاكل الاجتماعية التي عرّضتْ حياتي للخطر إضطهاداً داخل العراق وتشرداً خارجه؛ولكني كنت ملزماً بالتدخل في مشاكل مجتمعي بطريقتي التعبيرية الشعرية،بل كان من واجبي الوطني والإنساني أن أواجه سلطات العبودية الثلاث في المجتمع (السلطة السياسية والسلطة الدينية والسلطة الذكورية)حتى يتحرر الوطن والدين والمرأة.وأنا بمواجهتي هذه لم أُدِنْ السياسيين،بل دعوت إلى أن يكونوا صادقين ومسؤولين،ولم أُدِنْ الديانة بل دعوت إلى ان تكون حرة غير مستغَلة،ولم أُدِنْ الرجل بل دعوت إلى أن يكون مساوياً للمرأة.وبهذه الدعوات المترابطة لتغيير الواقع كليا لاجزئياً عبّرت عن مسؤوليتي الثقافية ،مفكّراً في اللامفكر فيه عملياً،ومتكلّماً عن المسكوت عنه شعرياً أملاً في تحقيق العدالة والحرية والمساواة.وما أنا إلا قطرة عراقية في بحر من سبقني إلى التغيير والتضحية في بغداد والكوفة والبصرة قبل أن تنحط الحضارة العربيـة ـ الإسلاميـة،ويصبح الكلام في الله والدولة والجنس محرّماً(11)
ــ وسألني:((س٣- ما الآثار التي ترتبت على مواكبتك لتجربة الحداثة العراقية شابا يافعا ؟ كيف انطبعت على شعريتك في مستويات القصيدة شكلا ومضمونا ؟ وما هي المدارس والاتجاهات التي يمكن أن تضغط في تشكيل هويتك الأدبية ؟))
ــ أجبته : أدركتُ الحداثـة الأدبيـة في منتصف الستينيات إدراكاً حسيّاً متأثّـراً بمدرسـة “المهجر” الأدبية،في الشمال الإمريكيّ وبمدرسة “أبولو” ومدرسة “الديوان” الشعريتين المصريتين،وبما في مجلة “شعر” ومجلة “الآداب”اللبنانيتين؛ومتأثّراً بالشعر الحر في العراق،وبالتيار الأدبي الحديث الذي تبنته في مدينة النجف، في الستينيات من القرن الماضي، ندوة”الآداب والفنون المعاصرة”وندوة”عبقر” ومجلة”الكلمة” مقابل التيار الأدبي القديم الذي كانت تمثله”جمعية الرابطة الأدبية”وتجاريه مجلة” الإيمان” ومجلة “الأضواء” وغيرهما.وعلى ضوء هذه المؤثرات الأدبية المرتبطة بالتغيرات العربيـة والعراقيـة سياسياً وفكرياً؛فهمت أن الحداثة ،خصوصاً العراقية منها،هي حركة احتجاج إبداعي على السكون الثقافي،يوازي الإحتجاج الثوري والفكري على جمود المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية .وفهمت أيضاً أن قيمة الحداثة،وأعني الشعرية ، تكمن في الاختلاف الشكلي والزمني لقصيدة الشباب عن الشعر العربي القديم،وفي مواكبتها الشعر الأوربي الحديث(الفرنسي والإنجليزي)؛لكني سرعان ماتخطيت أوهام مفهومي الحسي بعد نضج تجربتي الشعرية،إذ رأيت فيه تعصباً للشعر الحديث لايكاد يختلف عن تعصب شيوخ الشعر للشعر القديم.فضلاً عن انّه مبني في أغلب أحكامه على جهلين: جهل لحقيقة الشعر العربي القديم من جهة،وجهل لحقيقة الشعر الأوربي من جهة أخرى.ومهما يختلف أصحاب القديم والحديث،ويطلْ سجالهم، فإن الشعر القديم يظلّ للشعر الحديث مثل الجذر للشجرة؛حيث لا انفصال بينهما.وقد أفادني في الوصول إلى هذه الرؤية الموضوعية اطـلاعي على الآراء النقديـة للمفكـر الدكتور طه حسين ،والشاعـر الإنجليزي ت.س إليوت ،واطلاعي على التعبير الرمزي في الأدب الصوفي، وعلى فلسفة الثورة عند ماركس وفلسفة الجمال عند كنت.إذ أخذت هذه المصادر الثقافية وغيرها بيدي إلى طريق الحق والعدل والجمال، فأيقنت أن الحداثة الشعرية ليست زيّاً للتظاهر والتفاخر؛وإنّما هي موقف حياتي يتضمن أوّلاً أن يكون الشاعر شاعراً قبل أن يكون حديثاً،وثانياً أن يكون هو متغيّراً فكرياً ونفسياً قبل أن تتغيّر قصيدته ،وثالثاً أن يكون حراً في نظرته وممارسته في الحياة.ولم تعد الحداثة بهذا المفهوم الشخصي خاضعة عندي لزمن محدد ولا لشكل معين؛وانما صارت هي حركة الإنسان في إبداعه الفني في الحياة مقابل الجمود والثبات أي هي بقاؤه السرمدي مقابل فنائه البيولوجي. وقد عبّرت بمضاميني الشعرية عن هذا الموقف محتجاً على سلطة الدولة غير
سائر في ركب حكّامها،ومتحرّراً من مشاركة قوى التخلّف في قمع الفكر التنويري وفي استغلال الإنسان الآخر وازدرائه؛ كما أنه انعكس أي الموقف في أشكال شعرية كثيرة لي؛لم تكد توافق مدرسة أدبية معلومة لتعدد صور التعبير فيها واختلافها.أما السؤال عن هويتي الأدبية فقد سُئلتُ عنها من قبل.سألني طالب الماجستير الأستاذ( عباس الأنيس)في عام ٢٠١٩م وهو يعد رسالته عن شعري: “في أي اتجاه أدبي يمكن أن يصنّفك الناقد؟ أنت شاعر عمود كلاسيكي في مجموعتك(أرق النجم) وفي غيرها،وأنت شاعر تفعيلة حديث في مجموعتك(جرح ومنفى)وفي غيرها أيضاً،وأنت شاعر واقعي في قصائدك (البغداديات)في حين أنك شاعر رمزي في قصائدك(غربة اللؤلؤ) .وكلتا الواقعية والرمزية في مجموعة شعرية واحدة(جذور الفجر)،وأنت شاعر اجتماعي أخلاقي في مجموعتك(أجراس البقاء)؛لكنك شاعر غزلي حسي في مجموعتك(في ظل حواء). وماأكثر الإتجاهات المتباينة التي اجتمعت في شعرك!”.قلت له:لاأعرف ما اتجاهي.إنما أنا صرت حديقة شعرية بعد أن طالت السنين على تجربتي. فيها من النبات الطبيعي الحي مااختلف طوله ولونه وشكله وعبيره.وأنتظر من يتعهدها بالإهتمام النقديّ ويجيب عن أسئلتك. كلّ ماأعرف عنها أنْ لامكان لنبات مصطنع فيها.
ــ وسألني:((س٤- هل نستطيع أن نصف نتاجاتك الشعرية وفق المنهج الافقي ومع أولى المجموعات الشعرية وحتى الآن ؟ ما هي مشاريع الآن ؟ وغدا ؟))
ــ أجبته : أظن أن إجابتي عن الجزء الأول من هذا السؤال ستكون ذاتية متحيّزة مهما حاولت الموضوعية والحياد نقدياً؛لان نتاجاتي الشعرية هي نتاجاتي ؛لذا أترك الحكم عليها لدارسها وناقدها مع كل الإعتذار.أما مشاريعي بل مشروعي الآن هو أني أحاول أن أجمع شعري المنشور والمخطوط ،وأعده كله للطبع في سفر واحد مادمت على قيد الحياة؛إذ ضاع أكثر شعري في العراق ـ الوطن بعد هجرتي القسرية منه،كما ضاع بعضه لكثرة ترحالي وتجوالي في المنافي.وأما مشروعي غداً،فاني أحلم أن أعود إلى العراق،وأن أشارك أهل الوعي في احتجاجاتهم السلمية،كما شاركتهم سابقاً؛وأن يضمني ترابه؛لأني لا أحب أن أموت غريباً؛ ولكن كيف لي أن أعود من دون سكن ولاعمل وأنا مثقل بالسبعين من عمري؟
ــ وسألني:((س٥- في شكل القصيدة تنزع الى العروض الكلاسيكية وتنطلق منها في دق اجراس الشعر ؟ هل صوتها هو الاعذب والاكثر نفوذا , وهل الخروج من البحر الى التفعيلة يحدد ضمن اشتراطات الحالة الشعرية ؟ شاهدنا خروجك على استحياء في (قصيدة وائل غنيم في حضرة الشهداء). ولماذا تعمقت تجربة قصيدة (التفعيلة) في ديوانك (جرح ومنفى) ؟))
ــ أجبته : أود أن أشير،قبل كل شيء، إلى أن علم”العروض” الذي يتناول بحور الشعر العربي أي أوزانه هو شيء واحد لم يتعدد كالمذاهب الفنية التي فيها مايوصف بالكلاسيكي وغير الكلاسيكي ؛وأن أشير كذلـك إلى أن إيقـاع “التفعيـلة” في “الشعـر الحـر” هو جزء من إيقاعـات التفعيـلات التي اكتشغها “الخليل” في علم “العـروض”؛لأنّ تفعيلتـه(الشعرالحر) مأخـوذة من بحـور الشعــر التي توصف بـالصافيـة في العروض أي ذات التفعيلة الواحدة غير الممزوجة .وهي سبع تفعيلات لسبعة بحور من بحور الشعر العربي الستة عشر(الصافية والممزوجة).وتلك التفعيلات السبع هي مستفعلن لبحر الرجز وفاعلن لبحر المتدارك أو الخبب وفاعلاتن لبحر الرمل ومتفاعلن لبحر الكامل وفعولن لبحر المتقارب ومفاعلتن لبحر الوافر ومفاعيلن لبحرالهزج.وبناءً على هذا أقول:لا بحر جديد للشعر الحر البتَّة؛وانما الجديد هو أن شاعر القصيدة الحرّة يتصرف حرّاً في عدد التفعيلة الواحدة من تفعيلات تلك البحور السبعة التي ذكرت،في حين يلتزم شاعر القصيدة العمودية بعدد التفعيلات وترتيبها في البيت.وللعلم والفائدة أن إيقاع شعر”البند” الذي ظهر في العراق قبل ثلاثة قرون خلت هو المؤسّس لإيقاع الشعر الحر،إذ تصرّف شعراؤه في عدد التفعيلة الواحدة بحرية يومذاك ،كما تصرف في عددها روّاد “الشعر الحر” من بعد؛من دون أن يطلعوا على من سبقهم في الريادة(12)
وعلى الرغم من ازدراء شباب الأدب للشعر القديم (الشعر العمودي)من دون حق،وإنكار شيوخ الأدب للشعر الحديث( شعر التفعيلة أو الحر) من دون حق أيضاً ؛فإني شُغفت بإيقاع الشعرين القديم والحديث كليهما،ولم أفاضل بينهما مستدلاً على عدم مفاضلتي بينهما بإحصائية موسيقية لشعري،تكشف أني استعملت في شعر”التفعيلة” أو الشعر الحر إيقاعات ست تفعيلات أُخذت من ستة بحور صافية .هي الرجز والمتقارب والوافر والكامل والرمل والمتدارك أوالخبب.وهذه التفعيلات الست هي كل مافي شعر”التفعيلة” الواحدة أو الشعر الحر من موسيقى في تجربتي الشعرية(13)،وأني استعملت،كذلك،في شعري العمودي إيقاعات أربعة عشر بحراً من البحور الستة عشر الصافية والممزوجة.هي البسيط والكامل والسريع والرجز والوافر والرمل والهزج والطويل والمتقارب والمتدارك أو الخبب والخفيف والمجتث والمديد والمنسرح مهملاً بحر المضارع وبحر المقتضب اللذين ذكرهما الخليل في دوائره الشعرية ؛ولم أجد من استعملهما من الشعراء العرب من قبلي (14).
ولئن ساويت في شغفي نظراً وممارسة بين الإيقاعين اللذين تمثّلهما التفعيلة في الشعر العربي القديم والحديث؛فإن الإيقاع في البحور الشعرية هوأغنى كماً(ستة عشر بحراً)،وأغنى نوعاً (بحورصافية وبحور ممزوجة) من الإيقاع في التفعيلة الواحدة المستعملة في الشعر الحر.ولاشك في أن لهذا الغنى الكمي والنوعي امتيازاً للتعبير عن حالات الشاعر النفسية المختلفة،فضلاً عن القافية التي تزداد قيمتها الموسيقية بتكرارها في البيت.ولها دلالة مهمة في الشعر العربي.أما جوابي عن السؤال المتضمن خروجي من إيقاع البحر إلي إيقاع التفعيلة أو العكس؛فإني لا أكاد أجد جواباً مقنعاً حتى لنفسي.إنني لا أعمد إلى ذلك التحوّل الموسيقي شعورياً،بحيث مافكرت في يوم أن أكتب قصيدة على إيقاع الشعر الحر أو على إيقاع الشعر العمودي.ولا اخترت هذه التفعيلة دون الأخرى في الشعر الحر ،ولاهذا البحر دون الآخر في الشعر العمودي.إنما شيطان الشعر كان هو الذي يفكر ويختار. وبتعبير آخر:اللاشعور.ورغم عجزي عن تعليل اختلاف الإيقاع الشعري بشكليـه القديـم والحديـث في شعـري؛فإني أظن أن الإيقاع في شعر التفعلية هو أصلح للنظر لا للسمع،وللظروف الغربية حيث تطغى الكتابة على الشفوية وتتداخل الأحداث والأشخاص في عالم صناعي معقد يضاد العالم العربي البسيط.ولعل ديواني”جرح ومنفى” الذي ساد فيه إيقاع التفعيلة الواحدة كان انعكاساً من الناحية الموسيقية لحالتي النفسية في إبّان هجرتي إلى كندا.وإني أظنّ،أيضاً، أن حالات الإنفعال العاطفي السريع عند الفرح والإبتهاج تتتطلب إيقاعاً سريعاً خفيفاً في قصائد قصيرة كما هو الحال في ديواني”في ظل حواء”،وحالات التأمل والأناة عند الحزن والإغتراب تتطلب إيقاعاً بطيئاً هادئاً في قصائد طوال،كما هو الحال في قصيدتي”انتصار الشهيد” التي تجاوزت أبياتها مائتين وأربعين بيتاً ،جارية على بحر “الخفيف”وعلى قافية واحدة.هذه ظنون وليست يقيناً؛ولكن الدارسين الغربيين يؤكدون قوّة العلاقة بين أوزان الشعر وحالة الشاعر النفسية.وكشف هذه العلاقة يحتاج إلي ناقد فطِن ومحيط بعلم النفس الموسيقي.
ــ وسألني:((س٦- تمتاز في العنونة بحالة مستدامة من التلوع والشعور بالنقمة والخطر (كما في ديوان جرح ومنفى ) ؟ هل مرد ذلك الى التركة الثقيلة لحكومات القمع في العراق , أم هي ترسبات تجربة سياسية واقتراب من مقصلة الجلاد , أم صدى للحروب التي يهرع اليها العراق في كل فرصة في ماضيه وحاضره ؟))
ــ أجبته : أجيب على الأسئلة الثلاثة بـ(نعم) مريداً الإثبات لا النفي؛لأنّ (هل) هنا يُطلب بها (التصديق) كما يقول البلاغيون.
ــ وسألني:((س٧- هل تستطيع وصف الاغتراب في تجربتك الشعرية بصفته دافعا ومحفزا مبرزا في الخوض في تجربة الكتابة ؟))
ــ أجبته : لإغترابي في تجربتي الشعرية معنيان:معنى ظاهري سطحي.وهو بعدي القسري عن أهلي ووطني ـ العـراق. ومعنى نفسي عميـق. وهو أني ــ بتأثيــر القوى السياسـيـــة والدينـيــة والإجتمـاعيـة في العـراق ــ فقدت شيئين لايتحقق جـوهـري الإنسـاني في الحيـاة من دونهمـا. وهمـا حقي في التفكير ،وحريتي في التعبير عن فكري ،فدفعني ذلك الفقدان بل وعيي به الى الثورة في شعري على تلك القوى الثلاث لاستعادة كينونتي البشرية المفقودة وتأكيد وجودها. وقد أنجز الدكتور مهنّد عبد العظيم الياسري مشكوراً رسالته في الماجستير عن ذلك الإغتراب، في عام ٢٠١٨م ،تحت عنوان”الإغتراب في شعر عبدالإله الياسري”
ــ وسألني:((س ٨ـ في ديـوان (أجراس البقاء) كانت ثيمة الرثاء هي الشراع الذي أبحرت من خلاله ؟ ونقرأ لك في مقدمة الديوان (مدخلا) يصف رؤيتك لهؤلاء العابرين بصفتهم قيمة ابداعية واخلاقية وثورية خالدة ؟ هل من الممكن أن يكون جوابا لسؤال (ما) عن الموت ؟))
ــ أجبته : لاينفصل الموت عن الحياة،ولايضادها.انما هو وإياها مترابطان في علاقة شبكية دائمة.جاء في التنزيل:”يُخرج الحيّ من الميت،ويخرج الميت من الحي”.فليس الموت هو الذي يزيل الحياة عمن كانت فيه،وانما الموت هو الذي يزيل عن الإنسان قيمته وهو مازال يتحرك حياً. ذلك هو الموت الحقيقي للإنسان؛لأنه يسحقه.الذل في الحياة هو الموت.والذليل هو الميت حقاً.قال أبو الطيب المتنبي:
وقال أحدهم:”إن الشعوب لاتموت من الجوع ؛وانما تموت من الذل”
وهيهات أن ينتصر الإنسان على هذا الموت أي الذل،ويستعيد حيـاتـه أي قيمته من دون وعيه بذله،ومن دون موقـف بطولي لمواجهة مذليه من جبابرة السلطة والمال ،لا لاستعادة ذاته وتأكيدها افتخاراً؛وانما لنشرها في المسحوقين لبعث ذواتهم التي ماتت من الخوف والفقر والإستكانة.إن البطل الذي يواجه أولئك الجبابرة حتى الشهادة هو حي.إنه لايموت حباً بالموت،أو طمعاً بما وراء الموت ؛ولكن يموت حباً بالحياة الكريمة،وحباً بقيمة الإنسان التي يتغير عندها مفهوما الموت والحياة إذا اجتمعا مع الذل.وحسبي دليلاً على ذلك قول الإمام الحسين بن علي لأعدائه في المعركة:”ما أرى الموت إلا سعادة،والحياة مع الظالمين إلا برما”.
ــ أجبته : العـراق هو جرح كالسكين وكنـــــدا هي خيمـة والشعــرهو حلم الواقـع والمــرأة هي الخالـق والـزمـن هو الغيمة العابرة والانسان هو الكائن المُفكِّـر والمـوت هو التَحوُّل أو فناء الكم لبقاء النوع..
ــ وسألني:((س١٠- ما هو قادم نتاجاتك الادبية ومشاريعك للمستقبل ؟))
ــ أجبته : أما قادم نتاجاتي الأدبية،فخطتي مازالت غير معلومة لضيق وقتي،وأما مشاريعي للمستقبل،فقد أجبت عمّا يتعلق بمشروع الغد في السؤال الرابع /المحطة الثانية.
ــ وسألني:((س١١ – كلمة أخيرة تتلطف بها نصيحة وعلاجا لجبل الأوجاع في هذا الحياة – أو خريطة سحرية تختصر الطريق لصنع الانجاز الحقيقي في هذه الحياة القصيرة ؟))
ــ أجبته : أنا مازلت تلميـذاً في مدرسـة الحياة،كما قلت في جواب سابق لي.أتطلع إلى من يكتشف أخطائي ويصححها لي.ولكن إذا كان لابـد من النصح؛فإني ألتمس من جيل الشبـاب الجديـد أن يتجاوز أخطاء أسلافه العراقيين ، فيفصل السياسة عن الدين والقومية احتراماً للأديان والقوميات.وحسبنا أوربا عبرة لمن يعتبر.لولا العلمانية لما جفّت فيها أنهار الدماء والدموع .لماذا لانتعلم من تجارب الغير اختصارا للطريق؟.أما الشباب الشعراء،فإني أقول لهم :من حقنا أن نقول نحن شيوخ الشعر؛ولكن من الحق عليكم أن تسمعوا .إهتموا بالشعر العربي القديم كلّ الإهتمام.لا لأنه قديم تشتاقه النفوس وتحنّ إليه العواطف ،بل لأنه أساس لصرح ثقافتنا العربية،وقَوام لشخصيتنا، ،وعصمة لوجودنا من الذوبان في الغير.إهتموا به اهتموا به ،ولاتصدقوا مايقال فيه من أقوال سوء من دون أن تتحقّقوا وتستقصوا.
(1) للتوسع في معرفة بيئة المشخاب تاريخيّا وثقافيّا وسياسيّا إنظر:عبدالرزاق الحسني ـ تاريخ الثورة العراقية،وانظر حنا بطاطا ــ العراق،الطبقات الاجتماعية القديمة ج١).
(2) للتوسع في معرفة النهضة النجفية دينيا وسياسيا إنظر: حنا بطاطا ـ العراق ج٣،وانظر في مؤلفات الشيخ محمد رضا مظفر، وفي مقدمة ديوان السيد مصطفى جمال الدين الهاشمي،وفي خطب السيد محمد باقر الصدر والخطيب الشيخ أحمد الوائلي).
(3)إنظر:صحافة النجف ـ محمد عباس الدراجي ـ ط١ـ١٩٨٩م ـ ص١٩
(5)إنظر: قصيدتي(سفر) في ديواني الورقي(جذور الفجر)ص١٢٨
(6)خير مصدر لتصوير سيرتي في المغرب قصائدي في ديواني (أشرعة بلا مرفأ/عبدالإله الياسري).
(7) إنظر: جريدة( المؤتمر الوطني) الصادرة بالعربية للمعارضة العراقية في لندن ـ بريطانيا
(8)إنظر :مقالتي(رسالة الشاعر الاجتماعية/عبدالإله الياسري)ــ صحيفة المثقف ــ العدد٥٨٣٤،المصادف٢٦/٠٨/٢٠٢٢م.
(9)إنظر: ديواني(في ظل حواء)،وقصائدي(مع النصف الآخر) في ديواني(جذور الفجر).
(10)إنظر:مجلة الأديب ـ ديسمبر١٩٦٩م ـ ج١٢ ص٤٠ ـ الجراح تتكلم/عبدالإله الياسري
(11)كانت حرية التعبير قبل ألف سنة أكثر من اليوم .وكان الجاحظ والتوحيدي من أكثر المفكرين جرأة في التعبير .وبلغ حوار المسلمين إعجاز القرآن في العصر العباسي ولم يكفر بعضهم البعض الآخر.
(12)البند في الادب العربي: تاريخه ونصوصه ـ عبد الكريم الدجيلي ـ بغداد ـ مطبعة المعارف ـ 1959م.
(13)قلت: ست تفعيلات أُخذت من ستة بحورصافية ،ولم أقل ثماني تفعيلات أُخذت من ثماني بحورصافية؛لأن تفعيلة السريع تختلط بتفعيلة الرجز(مستفعلن)،وتفعيلة الوافر تختلط بتفعيلة الهزج(مفاعيلن) في الشعر الحر أو شعر التفعيلة الواحدة”لذا أسقطت بحري السريع والهزج من العدد.
(14)إنظر مجموعاتي الشعرية السبع راجياً الإلتفات إلى أن قصيدة بعنوان”مراهقة”على وزن المنسرح سقطت سهوا من المجموعات المطبوعة/عبدالإله الياسري.