عبد الكريم كاصد: الترجمة لا تحتمل الفهلوة!
حوار: عاطف محمد عبد المجيد
موقع الكتابة الثقافي
عبد الكريم كاصد شاعر ومترجم عراقي كبير ولد بمدينة البصرة في العام 1946، ويقيم منذ سنوات طويلة في لندن. له العديد من الأعمال الشعرية منها: رقعة شطرنج، ولائم الحداد، حذام، الفصول ليست أربعة. ومن ترجماته: البحث عن سيرة هيجل، كلمات، أناباز، عن الملائكة.
يرى كاصد أن الترجمة إبداع موازٍ للنص الأصلي، ومؤخرًا صدرت له أعماله الكاملة عن مؤسسة أروقة للنشر والتوزيع، وفي هذا الحوار نعرف آراءه في الشعر والترجمة، ورؤيته لكل من الثقافتين العربية والغربية والفرق بينهما. هنا يفتح كاصد قلبه لنا معبرًا عما يشعر به في اللحظة الآنية خاصة وهو يعيش العزلة في منفاه منذ سنوات عديدة.
* أنت شاعر يعيش في المنفى منذ سنوات..حدثني عن آلام هذه الرحلة، وكيف تتحمل عذابات المنفى؟
** المنفى هو الحاضر المربك أبدًا في علاقاته وعاداته ولغته، وقد يظلّ نائيَا حتى وأنت تقيم فيه، لكنه سرعان ما يصبح ماضيًا ما إن يكون لك فيه قبر لأعزّ الناس إليك، وأطفال يتكلمون لغته، ويجهلون لغتهم ليكتشفوا بأنفسهم اختلاف ما لم يفطنوا إليه، وقد أخفته اللغة وأظهره الواقع.غير أن ما يعمّق المأساة أن الوطن لم يعد هو الحلم، وقد أصبح منفًى آخر، منفًى ليس فيه من سمات الوطن غير ماضيه الذي تحمله معك منفردًا، والذي لم يبق منه سوى آثارٍ من الصعب أن تتبينها، ووجوهٍ حائلة ما زالت تحتفظ بتلك النضارة التي تلوح أطيافًا في مخيلتك.إنه الفقدان حقًّا. ومع ذلك، يا للإصرار والمتعة الغريبة التي يشعرها المنفيّ وهو يعود إلى آثاره المتخفية، بحنين الشاعر الجاهليّ المؤرق، وإن لم يعد يخاطب آثاره: بيا خليليّ، لأن الخليلين لم يكونا غير نفسه المشطورة إلى أكثر من شخص.أتساءل أحيانًا ما الذي يشدني للذهاب إلى آثاري شهرين كل عام، لأعذب نفسي بما هو غائب، وحتى بما هو حاضر من تردٍّ للحياة عمومًا؟ أجل ثمة ضوء، ولكن أين هو الضوء في هذه الظلمة التي أخوضها بعينين كليلتين؟
* في أشعارك تبدو النافذة بديلًا عن الحرية..أريد أن أعرف منك هل ينال العربي المهاجر حريته في المنفى؟ أم هي قيود الحرية توجد في كل الأماكن؟
** لم تبقَ لي غير هذه النافذة، وها هي الكورونا تجيبك نيابةً عني.ما الفرق بين نافذة في الوطن وأخرى في المنفى؟
* في قصائدك تحضر ثنائيات كثيرة منها الأبيض والأسود، الضوء والظلام، الحضور والغياب..هل لابد من وجود الشيء ونقيضه؟
** الديالكتيك هو جوهر كلّ شيء ماديًا أو روحيًا.لدى هيغل أو ماركس لا فرق على الرغم من الهوة التي تفصل بينهما.وحين يكون للبعض مأساة فقد تكون ملهاة لدى البعض الآخر.أتذكر منطق هيغل الذي درّسنا إياه في قسم الفلسفة في جامعة دمشق الراحل الأستاذ أنطون مقدسي كم كان مرهقًا، حتى لدى الطلبة الأذكياء، بتناقضاته وتركيباته، ولكنه كان لدى شاعر عظيم مثل بريشت ملهاة باعثة على الضحك.إنه الكرنفال حقًّا، ولكنه الكرنفال الذي نسي باختين، وربما بريشت، أن يذكرَ أن خاتمته لا تنتهي بالفرح دائمًا، وإنما بالعذابات أيضًا، ففيه تختلط المأساة بالملهاة مثلما تختلط الكرنفالات، في ماضي البلدان الأوروبية، لتنتهي بالشجارات والاعتداءات على المومسات والمثليين والمشردين، أي كل أولئك الذين يعيشون في هامش المجتمع، كما تذكر ذلك مصادر عديدة في الردّ على باختين. يمكنك البدء معي بثنائية الوطن والمنفى، مرورًا بثنائيات الحياة التي لا حصر لها، وقد تنتهي أو لا تنتهي بثنائيات أخرى ساكنة في أغوار النفس واللاوعي، لأختفي عنك فلا تراني أبدًا.أما الديالكتيك في أوطاننا فهي مأساة صرف حتى وإن تخللتها الملهاة.
* في ديوانك رقعة شطرنج تحتفي بالنوافذ..قل لي لمَ؟
** لعل إجابتي يلخصها هذا البيت الوارد في خاتمة قصيدتي ” نوافذ “، الذي ينفي هذا الاحتفاء:
” أنا عبدالكريم كاصد
أتبرأ من نافذتي “.
* عبد الكريم كاصد ليس شاعرًا وحسب، بل هو مترجم أيضًا..هذه ثنائية أيضًا في حياتك.. حدثني عنها دون أن تنسى أن تذكر لي لماذا تترجم؟
** هذه الثنائية هي جزء في صميم ثنائيات حياتنا التي تحدثنا عنها، فأنا أعيش هذا العالم المترامي الأطراف أتحسس أشياءه وتفاصيله وأفراده، أعراسه ومآتمه، وأتأثر بها وأتمثلها صورًا وأخيلة ليست مفارقة، بل هي جزء من واقع حيّ في هذا العالم المسمى شعرًا.وفي هذا العالم، مثل أيّ عالم آخر، هناك الحقيقيون والزائفون، الممثلون والمتفرجون، من تنتسب لهم وينتسبون إليك، في عزلتك واجتماعك، بلا طقوس أو مواثيق.إنها الرابطة السرية المعلنة ليس عبر الاحتفالات المبهرجة، بل عبر ما هو حميميّ من علاقة تعلن عن نفسها بصورة أخرى؛ تتشكل بها روح النص الأصلي الذي هو نصك ونص الشاعر الآخر الذي تترجم له وتقدمه عليك معلنًا عنه، مثلما تعلن عمن تحبه وتؤثره وتقدّمه، قبلك، للقارئ.هناك من يمحو أي أثر للمؤلف ليعلن، في لافتة كبيرة، عن نفسه، وهو في فعله هذا يمحو نفسه والمؤلف والنص معًا.الترجمة لا تحتمل ” الفهلوة “، مثلها مثل أي عمل إبداعيّ آخر، بل التواضع.لا أقوم بالترجمة عن تصميم، بل عن محبة ووجد فإن كان ثمة تصميم فهو لاحق، لذلك كثيرًا ما أقوم بالترجمة على الكتاب الذي اقرأه، لينتظم، بعد ذلك، في ما يسمى كتابًا مترجمًا هو ليس بمترجم لأنه كتابي أيضًا.ما أكثر الترجمات البليدة في الشعر حتى عند أمهر المترجمين!
* الغربة جعلتك تشعر كما لو أنك وحيدٌ في الصحراء..أخبرني أيهما أفضل: أن تكون وحيدًا تتمتع بحريتك في مكان بعيد؟ أم تضحي بحريتك لتظل في وطنك؟
** الحرية لن يُضحّى بها أبدًا.والعبد لن يكون كفؤًا للوطن.كذلك فإن المكان البعيد لن يهبك بالضرورة الحرية.الحرية لا تعني العزلة التي قد تكون اضطرارًا له دوافعه العديدة، وهي، أي الحرية، قد تكون مع المجموع في منعطفات تاريخية معينة؛ وهذا شكل من أشكال مفارقات الواقع.ثمة من يتحدث عن المجموع ويعني نفسه، مثلما هناك من يتحدث عن نفسه ويعني المجموع، وهذا ما كان يردّده ما ياكوفسكي الشاعر الروسي في دفاعه عن شعره، بل إن هناك من يتشدق في حديثه عن الأنا المتفردة المتعالية، وهي صورة باهتة للمجموع الشائع.الشعر الحقيقي النابع من تجربة حية هو شعر الفرد والمجموع معًا، حتى وإن لم يكن لهذا المجموع علاقة بهذا الشعر كما يطرح إليوت ذلك في مقال له عن شاعر الأمة.
* تقول في إحدى قصائدك: ” أنا الطائر في الهواء أبدًا / ولا مستقر هناك “..تُرى متى وأين يجد الشاعر مستقره؟
** لا أعتقد أنّ ثمة مستقرًا للشاعر وسط هذا العالم المضطرب، بل إن الشاعر لن يستقر حتى لوعاش في أعظم أنظمة العالم كمالًا.سيظل الرافض أبدًا إنْ كان شاعرًا حقيقيًا؛ لأنّ للبشر تاريخًا من الهمجية لا يدعو للاطمئنان، حتى في أفضل الأنظمة وأكثرها رقيًّا، وهذا ما لم نره أو نعثر عليه حتى في بطون الكتب.ما أكثر المثاليين والثوريين ومعتنقي السرديات الكبرى الذين التقينا بهم لنكتشف أنهم من أسوأ البشر قاطبة.ولعلني أجد نفسي هنا أقرب إلى منطق هيجل منه إلى ماركس، لأن النقائض فيه لا تنتهي أبدًا، فهي تتعانق في أبسط الأشياء وأعقدها: حتى في أرقى النظم التي ستتوصل إليها البشرية لن نعدم وجود اللا نظام، أي أن النظام واللا نظام سيتلازمان أبدًا.وما دام الأمر كذلك فإنّ قدر الشاعر هو الرفض والكشف عن اللا نظام المتمثل في الكثير من بشاعات الواقع التي نراها تتراكم يومًا بعد آخر.
* يندر أن نجد شاعرًا لا تحضر المرأة في قصائده..ماذا عن المرأة في شعر وحياة عبد الكريم كاصد؟
** المرأة هي الأم والحبيبة والأخت والصديقة والحاملة لنقائض الواقع ذاته التي أحملها أنا في هذا العالم المشوّه.قد تكون المثال في الواقع والحلم، وقد تكون نقيضه في الاثنين، لكنها تبقى الأقرب إلى الشاعر في عذاباته، وتوقه، وحنينه، وصراعه الذي يمتد من عتبة بيته إلى البرلمان وخارجه من سلطات فاسدة.حين خرجت إلى المنفى هاربًا على جملٍ عبر الصحراء، مرغمًا لم تخرج معي حبيبتي لأنها تتبعني، بل لأنها هي أيضًا المطاردة مثلي لتلتحق بي، بعد تجربة مريرة ليست أقلّ غرابة عن رحلتي عبر الصحراء، مقتسمة المنفى معي مثلما نقتسم الخبز، ولعلها ما زالت تقاسمني المنفى والخبز حتى هذه اللحظة، بعد رحيلها قبل عشرين عامًا، فهي ما زالت حاضرة في كتبي، وفي المجموعة المسماة باسمها، وقصائدي وآخرها قصيدة قصيرة كتبتها قبل ما يقرب من شهرين أسميتها زيارة في ذكرى حذام التي غادرتني في مثل هذا اليوم قبل ما يقرب من عشرين عامًا:
” تسألني
حين أُضعُ الأزهار على القبر،
وأطرقُ:
“هل آتي معكْ؟”
عندئذٍ أمسكُ كفّيها الناحلتَين
ونهبطُ منحدراً،
أخضرَ،
فرحَين
إلى مقهىً
عند الضفّةِ،
حيث المقبرةُ تلوحُ هنالك خلف الأشجار
وضوءٌ أزرقُ
لقواربَ عائدةٍ
أتذكّر ضحكتَها حين سألتْ:
هل في الموت مقاهٍ أيضًا؟
* منذ سنوات أصدرت كتابك ” غبار الترجمة ” تتحدث فيه عن قضايا وإشكاليات الترجمة..في رأيك هل سيتم الوصول إلى اتفاق ما حول كل ما اُختلف فيه وحوله من هذه القضايا؟
** ولماذا الاتفاق والبشر مختلفون ثقافة وذوقًا؟ وكيف يكون الاتفاق إن كان الحدس عنصرًا أساسيًّا في الترجمة، كما يشير إلى ذلك بعض الباحثين مثل إمبرتو إيكو في أحد كتبه، وحتى لو كان هناك اتفاق فهو قد يكون في ما هو عام من مصطلحات وتعابير، وليس في ما هو جوهريّ في العمل الأدبيّ.وحين أتكلم عن الشعر يصبح الاتفاق محالًا.الترجمة ليست نقلًا فحسب، وإنما هي إبداع له من الخصائص، مثلما للعمل الفني في الأصل.أليست الترجمة قراءة إذن لا بدّ من فسحة للإضافة والإبداع، بديلًا مكافئًا للحَرْفية، وليس الحِرَفية، والفقد.
* دعني أسألك: ” من أين يأتي غبار الترجمة “؟
** لغبار الترجمة أسبابه العديدة: ثقافة المترجم، ظرفه الخاص، زمنه الخاص، التطور الحضاريّ الذي يعيشه، ذائقته، حدسه، تجربته الطويلة أو المستجدة، روحه قبل كل شيء.ثمة ترجمات تكاد تكون أمينة في مظهرها ولكنها تولد ميتة، محنطة لا رواء لها، حتى وإن حافظت على المعنى.
* وماذا عن خيانات الترجمة؟
** لست مع هذا التعبير الذي أراه لا يعكس حقيقة الترجمة.ثمة ترجمات تضاهي الأصل، وقد تمنح الأصل روحًا، هي ليست بأقل حيوية من روح الأصل إن لم تكن تفوقها.إذا كان ثمة ديالكتيك حقَا في كل شيء، فهو يتجسد في الترجمة، لما تحتويه من تنقاضات شتى: خسارة وربح، إضافة وفقدان، حدس وتمثّل لما هو مباشر حي، إلى آخره من تناقضات أخرى يدركها جيدًا من خبروا الترجمة ومتاعبها. وحين تكون ثمة خيانة فهي ليست خيانة للأصل وحده، وإنما هي خيانة للغة الهدف، لأني كما قلت في إجابة سابقة إن النص الذي أترجمه هو نصي أيضًا، وحين يكون غير مفهوم أو بلا معنى كما يحدث في الكثير من الترجمات فهو خيانة للغتي أنا أيضًا. إنه لا يسيء إلى النص الأصلي الذي يمكن أن يقوم بترجمته آخرون، بقدر ما هو يسيء إلى النص مترجَمًا ولي أنا بصفتي مترجمًا وكاتبًا.هنا تفقد الترجمة هويتها لتحل محلها هوية المترجم التي هي: اللا فهم.بعبارة أخرى أكثر وضوحًا إننا لسنا هنا إزاء ترجمة، بل اقتراف خطأ لا علاقة له بأصل ولا نسخ لأنه بلا نسق ولا تفاعل مع أجزاء النص الأخرى.وحين تكون الترجمة بلا معنى فلا تنطبق عليها حتى لفظة خيانة أو أمانة أبدًا، لأن الخيانة مدْرَكَةٌ، وهي هنا غير مدْرِكةٍ للخطأ وينتفي هنا أيضًا الحديث عن التأويل لأن التأويل لا ينبثق إلاّ من الفهم وغنى النص.
* عاش عبد الكريم كاصد في العراق لسنوات، ويقيم منذ سنوات طويلة في أوروبا..لو سألتك عن الفرق بين الإنسان العربي والإنسان الأوروبي ماذا تقول؟
** لم يعد العرب بعيدين عن الغرب في هجراتهم الكبيرة في أواخر القرن الماضي وبداية هذا القرن، مثلما لم تعد سلطات الغرب بعيدة عن أغلب سلطات العرب، في خططها وصراعاتها وعودتها من جديد بهيئة محتلّ، عبر جيوشها وأساطيلها وقواعدها.ثمة شعوبٌ هاربة من سلطاتها إلى الغرب، وثمة سلطات غربية متحالفة مع هذه السلطات التي كانت سببًا في هذه الهجرات الكبيرة، أو متحاربة معها؛ وهي في كلتا الحالتين الطرف الأقوى الذي يسهم في تقرير مصير المنطقة المختلفة بتراثها كليًّا عن التراث الغربيّ.وهذا ما يتجلى خاصة في مجتمعنا العربيّ الذي ما زال محافظًا في تقاليده وممارساته وشعائره التي تتعارض لا مع تراث الغرب وحده؛ وإنما مع العديد من تقاليد السلطات العربية وممارساتها وإعلامها الذي هو نسخة أخرى، مشوهة في الكثير من الأحيان، من الإعلام الغربيّ ذي التأثير الساحق في العالم لما يملكه من كفاءات عالية في تزييف الوقائع والأحداث.هذه التناقضات والتناظرات تجعل العلاقات بين الغرب والعرب الذين يخوضون حروبًا في أكثر من منطقةٍ، بالغة التعقيد والتداخل ولا سيما أنّ للغرب دوره المباشر فيها، ويجعل الافتراق هو العامل الحاسم في العلاقة بين الاثنين.ولعلّ هذا الافتراق سيكون عاملاً آخر في المستقبل في توجه العرب باتجاه ما يسمى ببلدان الشرق.
* حدثني أيضًا عن الاختلاف في التعاطي مع أهمية الثقافة والإبداع والفن بيننا كعرب وبينهم كغرب؟
** حين نتحدث عن الثقافة يصبح الافتراق أشدّ وضوحًا.شتان ما بين مجتمعات مستقرة تشهد ثقافتها تطورًا هو، على خلاف ما لدينا، وليد تناقضاتها ذاتها، ثقافة تحكمها ثوابتها وأصولها وتسعى مؤسساتُها للحفاظ على استقلاليتها، على الرغم من كل محاولات السلطات في اختراقها، عبر شرائع هذه المؤسسات نفسها، بينما نشهد أنّ مجتمعاتنا معرضةٌ للتهديد، لا بثقافتها وإنما بوجودها أيضًا، أو للارتداد إلى مرحلة سابقة قد تمتد إلى ألف سنة في التاريخ أو أكثر، عبر العودة إلى شرائع هي متخلفة أصلاً حتى بالقياس إلى زمنها، وهذا ما شهدناه في أكثر من بلد عربيّ اُحتلت نصف أراضيه أو ما يزيد على النصف، من قبل ميليشيات وتنظيمات أصولية متطرفة ليس الغرب بعيدًا، عن نشأتها وتسليحها وبعثها من جديد في أماكن أخرى إن اُستنفدت فاعليتها في المكان التي نشأت أو أُنشئت فيه.وهنا نجد أن الافتراق لا الاختلاف هو ما يهيمن في علاقتنا بالغرب وما يعمق الهوة بين الثقافتين.لكن علينا ألا نذهب بعيدًا في تقييمنا لثقافة الغرب فهي، من جهة أخرى، تعاني أيضًا من تشويهات وتناقضات هي صورة أخرى للأنظمة السائدة هناك والصراع الدائر بينها وما تحتويه من إثنيات وقوميات وطوائف، هي بدورها تعاني من تناقضاتها وصراعاتها المستمرة في تلك البلدان.التقيت مرة، عند بداية إقامتي بلندن، بقسّ وتحدثت معه باعتباره إنكليزيًا فأنكر ذلك وصحح لي أنه ويلزيّ وله لغته الويلزية، ودعاني لأرى فيلمًا ويلزيًا مترجمًا إلى الإنكليزية، لا يتحدث شخوصه إلا باللغة الويلزية.الغريب أن الفيلم يحمل في عنوانه اسم لينين، يتحدث عن وفد من الحزب الشيوعيّ يضمّ رفاقًا من أعمار مختلفة، يزور موسكو في زمن البريسترويكا، ثم يصف لنا ردود أفعالهم المتنوعة ورجوع بعضهم ساخطين على التجربة، بينما فضّل البعض منهم البقاء هناك ولاسيما الشبان منهم؛ ولكن رد الفعل الوحيد الجامع بينهم هو احتجاجهم حين يظنهم الروس إنكليزًا.كان القس فخورًا بالفيلم ولم يضره أنه عن شيوعيين، أو أن عنوانه يحتوي على اسم لينين، ولعلّ من المصادفات الغريبة أن من بين كتبي المترجمة عن الإنكليزية كتابًا لشاعر ويلزيّ هو قسٌّ أيضًا كان مرشحًا لجائزة نوبل، وحاز جوائز عديدة يمقت الإنجليز مقتًا شديدًا، ولا يجد حرجًا في التصريح عن مقته هذا في مقابلاته في أهم المجلات والصحف البريطانية كالغارديان.حاز جوائز عديدة كما تقلد أوسمة بعضها بحضور ملكة بريطانيا، ولكنه مع ذلك يعبر عن ندمه لأنه لا يستطيع كتابة الشعر باللغة الويلزية، ولكنه كتب سيرته باللغة الويلزية التي تعلمها أواخر حياته لأن كتابة النثر، كما يرى، أقلّ صعوبةً.وفي الديوان الذي ترجمته ثمة قصائد في هجاء الإنكليز باعتبارهم محتلين عاثوا فسادًا في بلاده الجميلة.الشاعر هو: آر. إس. توماس والمختارات التي صدرت هي بعنوان: ” ربة الشعر هي الكمبيوتر ” ويمكن إيراد الكثير من المشاهد الحياتية من واقع الحياة اليومية بالنسبة إلى الإيرلنديين والإسكتلنديين وآخرين أيضًا. وليس أدل على ما أقول من النُّصب التي لا تزال تزين الساحات في العديد من المدن لقادة عنصريين وطغاة وقراصنة تشير إلى ثقافة هي السائدة وسط ثقافات أخرى، هي ليست في موضع تجاور أو تحاور، إن لم تكن متناحرة أصلاً أو مهيّأة للتناحر مستقبلاً.الصراع القائم الآن في فرنسا أو في الولايات المتحدة دليل آخر على هيمنة هذه الثقافة حتى وقتنا الحاضر وما رافقها من صراع هو امتداد، بشكل ما، لحروب أهلية سابقة.ولعلّ ما رأيته في إنكلترا، في لندن بالذات، من أحداث وتظاهرات، وتعامل شرس مع المتظاهرين هو وراء كتابتي قصيدتي القصيرة ” ما يحدث في المنفى أيضًا “، المنشورة في مجموعتي الأخيرة ” من يعرف الأرض؟ من يعرف السماء “:
” إثر التظاهرات الأخيرة في بعض عواصم أوربا
يأخذون الناسَ مخفورين في الشارع
أطفالٌ يُساقون إلى الحبس
رؤوسٌ ترتدي الأكياس
وحشٌ يقحمُ الأبواب
ماذا؟
هل نسمي جائعًا وحشًا؟
وذاك الوحش إنسانًا؟
وما نسمعُ، من خشخشة الأوراق في الغابة، ترتيلاً؟
وهذي الصفحة السوداء ما تحوي الأناجيل؟
إذنْ
فلنلبس الأكفانَ
وليأتِ إلى ساحاتنا الموتى
لتأتِ الشرطةُ السرّيةُ البلهاء في زِيّ المجانين
ليأتِ القسسُ البيضُ
– وإن شاؤوا –
ليأتِ الله
محروسًت بآلاف الجنود “
ما أردت قوله إن الاختلاف ليس مقتصرًا على ما بيننا وبينهم من فروقات جمّة وحسب، وإنما هو في صميم ثقافتهم التي تعيش الآن أزمتها الحقيقية، لأن التناقضات لم تعد معزولة بعضها عن بعض في أيّ بقعةٍ في العالم.وقد ينطبق هذا إلى حدّ ما على ثقافتنا التي أضحت أو ستضحى ثقافات مختلفة بسبب التناقضات الحادة في المواقف والصراعات التي رافقت هذه المواقف إن لم نقل الحروب والكوارث المتتالية التي ألمت ببلداننا.