واقع العلاقة بين الثقافة والعلوم
عادل كنيش مطلوب
حوار بين الدكتور عادل كنيش مطلوب مستشار وزارة العلوم والتكنولوجيا السابق والبروفسور محمد الربيعي الاستاذ المتمرس في جامعة دبلن ورئيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج
هناك علاقة وثيقة بين زيادة التحصيل العلمي والثقافي؛ وتسهيل التحول الاجتماعي والتنمية البشرية والنمو الاقتصادي. يعد الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا والثقافة بفروعها المختلفة، ولا سيما في المستوى العالي، أمرًا بالغ الأهمية لتطوير المهارات اللازمة للاندماج في سوق العمل اليوم وتعزيز الابتكار والقدرة التنافسية الاقتصادية. يعد الوصول إلى التعليم التخصصي رافعة قوية للشباب ليصبحوا دعاة وعاملين في المستقبل، ولا سيما في بلدنا العراق. يمكن لمجموعة من التدابير أن تضمن مشاركة النساء والفتيات في العلوم والتكنولوجيا والابداع. وتحقق مشاركة متساوية للنساء والرجال في صنع القرار في مؤسساتها، وتشجع استخدام التحليل القائم على النوع الاجتماعي وتقييمات الأثر الجنساني في البحث والتطوير في مجال العلوم والتكنولوجيا والابداع.
فالأمثلة من ابتكارات علمية ثقافية هائلة لمؤسسات كبرى مثل مايكروسوفت، أبل الى فيسبوك، كوكل وديب مايند التي بدأت من حاضنات تكنولوجيا بسيطة كان للجامعات او عدد من الشركات الكبرى او مراكز بحوث الدور الأساس في نشوئها الى أن أصبحت مؤسسات هائلة تقدم خدمات تدفع للأبداع في معظم المهام الإنسانية ليتحول أبداعها هذا الى وعي ثقافي متزايد للبشرية. والمساهمة في زيادة الوعي الانساني تأتي من الاعمال الإبداعية الانسانية بشكل عام سواء كان ذلك من خلال إنجاز علمي جديد او لوحة فنية او مسرحية أو قصيدة شعر الخ.. لذا فإن العلم والثقافة يشتركان في تشكيل مجتمعات المستقبل المتطور.
ما هي رؤيتكم لهذه العلاقة بتجلياتها المختلفة؟ وهل من الجائز ان نفترض ان العلوم والتكنولوجيا هي ثقافة العصر وعلى التخلف فيهما هو تخلف ثقافي؟ وبالتالي هل يمكن ان يتبلور التقدم العلمي كمعيار اساسي يمكن ان يستخدم للدلالة على التطور الثقافي والاجتماعي للبلد؟
محمد الربيعي
العلم نتاج الثقافة لذلك هو جزء منها. هو فهم القوانين الطبيعية، اما التكنولوجيا فهي تطبيق المعرفة العلمية في إنشاء المنتجات أو الأدوات التي تعمل على تحسين الحياة. وبينما توفر الثقافة المنصة الاجتماعية والقيم المشتركة التي تجمع الافراد وتحافظ على قيمهم، يحدد العلم بشكل متزايد ما هي كينونة الإنسان، من خلال علوم كالوراثة والطب وتكنولوجيا المعلومات، وتتجسد قيمة هذه العلوم وتتجنس في المفاهيم والتقنيات وأولويات البحث والأدوات العلمية.
يتم في المجتمعات المتطورة رسم أيقونات التقدم بالاستناد على نتائج العلوم والتكنولوجيا والطب، ويتم الاحتفال بها أو شيطنتها، فغالبا ما يُخشى من التقدم العلمي بأنه “غير طبيعي”، وانه “غير عقلاني”. ومع ذلك، فإن ثقافة العلم مفتوحة للدراسة مثل أي ثقافة أخرى. تحلل الدراسات الثقافية دور الخبرة في المجتمع وتتناول العديد من المجلات العلمية التاريخ والفلسفة والدراسات الاجتماعية للعلوم ونشرها.
العلم جزء من الثقافة، لكنه يعتمد إلى حد كبير على الثقافة المحلية التي يمارس فيها. ومع ذلك، فإن معظم الدراسات الحديثة للعالم من حولنا هي دراسات تجريبية، ومن الواضح أن هناك الكثير لفهمه أكثر مما يدرسه العلماء. يظل فهم الأنظمة المعقدة تحديا كبيرا للمستقبل، ولا يمكن لأي عالم اليوم أن يدعي أن لدينا الأساليب المناسبة لتحقيق ذلك.
يشير عمل العلماء إلى أنهم يتحدون التفسيرات المقبولة للحقائق ويقترحون طرقا جديدة ومبتكرة لتفسيرها. تعد الأصالة واستقلال الفكر والحرية الاكاديمية من سمات الثقافة العلمية، وبالتالي فهي تحدي للقيم الثقافية الراسخة. ضمانات الاستقلال الأكاديمي والعلمي هي حرية الاستفسار وحرية الفكر وحرية التعبير والتسامح والاستعداد للتحكيم في النزاعات على أساس الأدلة. هذه القيم ليست مهمة للعلم نفسه، ولكن كان لها تأثير قوي على تطور المجتمعات الديمقراطية اليوم فقد أدى نجاح العلم واستخدام المعرفة العلمية إلى تغيير عميق في الحياة اليومية، وخاصة في البلدان المتقدمة. لقد زاد متوسط العمر المتوقع بشكل مذهل وأصبح العلاج متاحا للعديد من الأمراض وزادت الإنتاجية الزراعية لتلائم التطورات الديموغرافية، وقد حررت التكنولوجيا الانسان من العمل الشاق.
لقد جلبت الأساليب الجديدة للاتصال ومعالجة المعلومات والرياضيات فرصا وتحديات غير مسبوقة. لقد غيرت هذه الاكتشافات أو الاختراعات بشكل جذري طريقتنا في وصف العالم الطبيعي، وأثرت على حياتنا اليومية. اليوم، حتى تنظيم المجتمع نفسه مدين بالكثير للتفكير العلمي (اليونسكو 1999).
كيف يؤثر المجتمع والثقافة في تطور العلم والتكنولوجيا؟
عادل كنيش مطلوب
إن البلدان والأفراد الذين يفتقرون إلى القدرة على الوصول إلى التقنيات الحديثة لتكنولوجيا المعلومات، على سبيل المثال، وتطبيقاتها والتكيف معها والاستفادة منها بالكامل قد تخلفت عن حدود العلوم والتكنولوجيا والابتكار، في حين اتسعت فجوات الإنتاجية والرفاهية بين من يملكون ومن لا يملكون فيها. كما إن كل مجتمع أو منطقة أو بلد يمتلك معرفة وابتكارات أصلية تم تطويرها واكتسابها من خلال الممارسات التقليدية على مدى فترات طويلة من الزمن. ومن وجهة النظر الشائعة أن هذه الابتكارات والممارسات التكنولوجية الشعبية يمكن تعزيزها بنشاط من خلال تدابير سياسة العلوم والتكنولوجيا والابتكار المناسبة. وفي هذا السياق، فإن تعميم المعرفة الأصلية والابتكار التكنولوجي الشعبي في أنظمة العلوم والتكنولوجيا والابتكار الحديثة من شأنه أن يسهم في تطور استخدام العلوم والتكنولوجيا. لن تؤدي هذه الجهود إلى التحقق من صحة الابتكارات الشعبية ونشرها من خلال تطبيق العلوم والتكنولوجيا الحديثة فحسب، بل يمكنها أيضًا توفير حلول منصفة وميسورة التكلفة للمستفيدين المستهدفين. لعبت مؤسسة الابتكار الوطنية – في الهند (NIF) دورًا رائدًا في تعزيز الابتكارات التكنولوجية على مستوى القاعدة والمعرفة التقليدية في البلاد. تهدف هذه المبادرة السياسية إلى مساعدة الهند على أن تصبح مجتمعًا إبداعيًا قائمًا على المعرفة من خلال توسيع السياسة والفضاء المؤسسي للمبتكرين التكنولوجيين على مستوى القاعدة.
إن العلاقة بين العلم والثقافة لها أبعاد متعددة؛ يستلزم العلم ثقافة الاستقصاء، وتضع الثقافة العلم في سياقه. في الوقت نفسه؛ يمتلك العلم القدرة على تغيير الثقافة باستخدام الاكتشافات العلمية لإعلام وتغيير طرق الحياة. كيف تدعم المجتمعات تطوير العلوم والتكنولوجيا والابتكار، وتعالج تطوير العلوم والتكنولوجيا والابتكار بطريقة متكاملة عبر المناطق لمعالجة القضايا المحلية والعالمية. يجب معالجة الأبعاد المتعددة للعلاقة بين العلوم والتكنولوجيا والابتكار والثقافة بحيث يرى المجتمع اكتساب المعرفة كقيمة ثقافية مهمة، ويمكن أن يساهم بشكل كامل في تغيير السلوك والتحولات الاجتماعية المطلوبة لتحقيق التطور.
محمد الربيعي
تتشكل الثقافة من القيم المشتركة للمجتمع. تحدد القيم ما يعتبر أولوية، وما هو مناسب أم لا، وما هو صواب وما هو خطأ. وتؤثر الثقافة على ما يتم البحث عنه من جديد في العلوم وغيرها من فروع المعرفة، وما الذي يجب أن يركز عليه العلم والتكنولوجيا ووقت هذا الاهتمام والتركيز. على سبيل المثال: في الوقت الحالي، يحظى علم الفيروسات بالكثير من الاهتمام والتمويل لتفشي وباء الكوفيد.
تؤثر الثقافة أيضا على كيفية تطوير العلم والتكنولوجيا: ما هي الأساليب المفضلة للتطوير، ومدى صرامة عمليات التطوير، ومدى السرعة ونوع النتائج التي يجب إظهارها ونشرها.
كل ما نقوم به يتأثر بالثقافة. تطوير العلم والتكنولوجيا ليست استثناء. مع ذلك يتصرف العلماء بشكل مختلف في أجزاء مختلفة من العالم، متأثرين بثقافتهم. يمكن أن يكون العمل على تطوير التكنولوجيا مختلفا تماما في الصين أو ألمانيا أو أمريكا او حتى في العراق لو كان هناك اي اهتمام بتطوير التكنولوجيا لمجابهة التحديات البيئية كالتصحر او التلوث او شحة المياه.
علاقة العلوم والتكنولوجيا والثقافة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية
عادل كنيش مطلوب
في بداية تمّوز/ يوليو من عام 2013، عقدت دورة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة تحت عنوان “العلوم والتكنولوجيا والابتكار وإمكانات الثقافة من أجل تعزيز التنمية”.
منذ ذلك الحين وموضوع “العلوم والتكنولوجيا والثقافة تشكل عناصر أساسية في أي خطة إنمائية”، وإنه لا يمكن فصل عملية دعم الابتكار عن تعزيز الثقافة والتنوع الثقافي. وما من ابتكار ممكن من دون بيئة ثقافية ناشطة. وجرت الدعوة في هذا الاجتماع الى وضع “مراجع واضحة لإعداد استراتيجيات تُسخِّر إمكانات الإبداع والصناعات الثقافية – بوصفها قوة موجِّهة، ومصدرا للهوية والابتكار، وقوة للاندماج الاجتماعي والقضاء على الفقر.
وخلال المناقشات، قام المشاركون بتوفير أمثلة تُبرِز كيف أنّ الصناعات الإبداعية تعزّز التجارة، وتوفّر فرص العمل، وبخاصة للشباب، وتشكّل محفّزا للاندماج الاجتماعي ومحرّكا “للاقتصاد الجديد” المرتكز أيضا على التكنولوجيا والابتكار، وكيف أنّ الاستثمار في الإبداع يمكن أن يحوّل المجتمعات، وبيني الاستقرار والسلام.
كما شدد المجتمعون على الدور الحيوي الذي تضطلع به النساء في تقدم العلوم وعلى الحاجة إلى النساء في العلوم في عصر جديد يتسم بالقيود – من حيث الموارد وحدود كوكبنا.
في حين إن الوثيقة المنشورة في عام 2017 عن مكتب العراق لمنظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) في عمان – المملكة الأردنية الهاشمية تحت عنوان ” ملخص السياسة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا والإبداع من أجل الجمهورية العراقية” الذي تقع في 42 صفحة لم ترد كلمة ثقافة فيها الا في موقعين؛ في اسم المكتب ” مكتب العراق لمنظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)” وضمن مهام ” مؤسسة وطنية لرعاية العلوم والتكنولوجيا والإبداع” أن “تنشر ثقافة مواتية لتوليد واستثمار المعارف العلميّة والتكنولوجية وإنجاز الأنشطة الإبداعية”.
هنا يبز تساؤل حول واقع مؤسساتنا التعليمية والبحثية وعن امكانياتها للقيام بتوفير الكفاءات التي تكون مصدر لتوفير فرص العمل وليس عبئا على مؤسسات مثقلة بالعمالة الزائدة ذات إنتاجية عمل تعدد بالدقائق لليوم الواحد؟
محمد الربيعي
لا يمكن تحقيق الازدهار والتقدم والتنمية للبلد إلا عندما يكون مواطنوه على درجة من الثقافة والتعليم ولديهم رغبة بالتعلم وباكتساب المعرفة الجديدة. بدون هؤلاء المواطنين، لا يمكن للبلد أن يحقق التقدم في أي مجال، والتعليم هو أهم أداة لخلق مثل هذه الأنواع من المواطنين.
يلعب التعليم العالي دورا حيويا في التنمية والنمو الشامل للبلد وعن طريقه تنقل المعرفة المتعمقة المتعلقة بمختلف مجالات الحياة. علاوة على ذلك، فهو لا يوسع فقط القدرات العقلية للفرد ضمن تخصص محدد، ولكنه يعطي أيضا منظورا أوسع للعالم من حوله. ولم يعد التعليم العالي رفاهية، بل أصبح ضروريا لبقاء البلد على قيد الحياة. تتمثل المهمة الأساسية للتعليم العالي في التثقيف والتدريب وإجراء البحوث وتقديم الخدمة للمجتمع. ويتزايد نطاقه والطلب عليه يوما بعد يوم ولا يمكن تلبية هذا الطلب إلا من خلال تحسين جودته. تحسين جودة التعليم العالي هو حاجة الساعة. لم يتم تصنيف التعليم العالي في العراق في أي مكان بين أنظمة التعليم العالي العالمية من حيث الجودة. تعتمد جودة التعليم العالي على عوامل مختلفة مثل البيئة المواتية للتعليم والتعلم، والبنية التحتية، والتدريسيين، والمناهج الدراسية، وفرص البحث الحقيقي وأنظمة ضمان الجودة والمراقبة.
التعليم العالي أداة قوية وضرورية لبناء مجتمع حديث ومثقف وانساني يمكنه أن يقود البلاد نحو مستقبل مشرق. كما أنه يعتبر من أهم وأقوى أدوات التنمية في أي دولة. وبينما التعليم المدرسي ضروري لإنشاء قاعدة يوفر التعليم العالي أحدث ما توصلت إليه علوم وثقافات الشعوب فهو يساهم مساهمة كبيرة في النمو الاقتصادي والاجتماعي للبلد من خلال توفير المعرفة المتخصصة والقوى العاملة الماهرة.
بحق انا اشعر بعدم الارتياح إزاء أوجه القصور في نظام التعليم العالي العراقي ومؤسساته، لا سيما من حيث الجودة والمعايير. إن حالة التعليم العالي ليست فقط غير مرضية تماما، بل إنها مقلقة. هذه المعايير تتراجع بينما يزداد نطاق التعليم العالي بسبب الجامعات والكليات الجديدة مما يجعل التعامل مع كل شيء أكثر صعوبة. لذلك علينا أن نجهز آلية نظام التعليم لتحقيق تطلعات الشعب العراقي وأن نكون مدركين للحفاظ على الجودة. مطلوب من الجامعات ان تغير سياساتها وتحسن جودة مناهجها. فهي ليست مجرد أماكن لمنح الشهادات حيث تقع على عاتقها مسؤولية تسهيل التنمية الفكرية والثقافية لطلابها، وتحويلهم إلى قوى ملائمة لسوق العمل. لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال توفير تعليم لائق، وليس مجرد شهادات.
إن الشعب العراقي ليس ناقصا في المواهب ولا في الصفات الأخلاقية والثقافية مقارنة بأي دولة أخرى في العالم، بل عقود من الحصار الذاتي والفساد والمحاصصة، الحقت اضرار بقدرة العراقيين الفكرية والحقت بهم سمعة سيئة. لسوء الحظ، فإن العراق متخلف حقا فيما يتعلق بالتعليم، كما هو الحال في مجالات أخرى من النشاط الفكري والثقافي، ولكن لحسن الحظ فإن شعبنا ليس غير كفء بطبيعته أو غير قابل للتشافي من الناحية الأخلاقية والفكرية والعلمية.