في زمن كان المسرح العراقي فيه يشكِّل وجدان الناس، كانت خشبته تنبض بالحياة، تحاور العقول، وتواجه الطغيان بالسخرية، والجمال، والتأمل الفلسفي. لم يك مجرد ترفيه، بل نافذة تعكس الأوجاع والأحلام، تسائل السلطات، وتدعو الجماهير إلى التفكير والمواجهة. لم يك هناك انفصال بين الخشبة والشارع، بين الممثل والجمهور، كان المسرح بيت الجميع، حيث يمتزج الواقع بالخيال ليولد وعي جديد.لكن، ماذا تبقى اليوم من هذا المسرح للناس؟ وهل ما يُقام من مهرجانات، وما يُلقى من وعود عن عودته، إلا مجرد أوهام في زمن ضاع فيه كل شيء؟ هل تنقذ العروض المتناثرة على منصات المهرجانات بقايا المسرح، أم أن المشهد برمّته أصبح مجرد استعراض لا يمتّ بصلة للمسرح الذي كان يومًا لسان حال الأمة؟حين نعود إلى البدايات، نجد أن المسرح العراقي لم يولد على هامش الثقافة، بل كان جزءًا من صيرورة الوطن نفسه. منذ عروض حقي الشبلي في ثلاثينيات القرن الماضي، إلى المسرحيات الجريئة التي أنتجتها الفرق الأهلية في خمسينيات القرن العشرين، ومن ثم العصر الذهبي في الستينيات والسبعينيات، حين كان المسرح ركيزة أساسية في تشكيل الوعي الثقافي والسياسي. كان المسرحيون، كتابًا ومخرجين وممثلين، أشبه بمقاتلين، يخوضون معاركهم بالفكر والخيال والإبداع، ضد كل أشكال القمع، وضد الجهل الذي يهدد الروح العراقية.في ذلك الزمن، كان الجمهور يتدافع للدخول إلى العروض، وكانت خشبة المسرح تتحول إلى ساحة للجدل الفكري والسياسي. من عادل كاظم إلى يوسف العاني، ومن سامي عبد الحميد إلى قاسم محمد، كان المسرح فضاءً للحقيقة، حتى عندما تُروى عبر الرموز والمجازات.لكن بعد عقود، ومع حلول الخراب، أُطفئت الأضواء الحقيقية، ولم يبقَ إلا شبح المسرح يطل من خلف الركام. سنوات الحرب، ثم الحصار، ثم الاحتلال، وأخيرًا الفوضى المطلقة، كلها لم تترك للمسرح سوى أطلال تُنَظَّم عليها مهرجانات تعجّ بالتصفيق، لكن بلا جمهور حقيقي. كأنما صار المسرح طقسًا للداخلين في لعبة التفاخر الثقافي، دون أن يكون له أثر على الناس، أولئك الذين من أجلهم وُجد هذا الفن في الأساس.اليوم، نشهد نزاعات بين المسرحيين أنفسهم، صراعات حول من يملك الحق في تمثيل المسرح العراقي، حول الشرعية، وحول الفرص الضائعة. تحولت القضية من “كيف نعيد المسرح للناس؟” إلى “كيف نثبت أننا ما زلنا موجودين؟”. لكن هل هذه الحروب الصغيرة تعيد الروح للمسرح، أم أنها تقتل ما تبقى منه؟
ماذا تنفع المساهمة في مهرجانات لا يخرج منها المتفرج بشيء سوى خديعة أن المسرح بخير؟ ماذا يعني أن تُنتَج مسرحيات بلا روح، بلا خطاب جريء، بلا قدرة على الصدمة أو التحريض على التفكير؟ المسرح الذي ينحصر في عروض المهرجانات أشبه بمرايا مكسورة تعكس صورًا مشوهة لمجدٍ قديم، لكنه لا يمتلك القدرة على خلق واقع جديد.لم يعد المسرح في العراق قضية فنية فقط، بل قضية وجودية. هل نملك القدرة على استعادته من أيدي السماسرة، والمهرجانات ذات الشعارات البراقة؟ هل يمكن إعادته إلى الناس الذين لم يعودوا يرونه سوى كذكرى بعيدة؟ أم أن المسرح قد دخل في مرحلة اللاعودة، وصار مجرد خطاب مكرّر لمن يريد أن يثبت أنه ما زال هنا، ولو كان وحيدًا على خشبة خاوية؟
إنّ إعادة إحياء المسرح ليست مجرد شعارات، ولا تتحقق عبر مهرجانات تلتهم الميزانيات، بل تحتاج إلى مواجهة حقيقية مع السؤال الجوهري: لماذا مات المسرح؟ ومن قتله؟ وكيف يمكن بعثه من جديد؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب شجاعة، لا في الطرح فقط، بل في الفعل أيضاً. إن المسرح العراقي لم يمت بفعل الزمن وحده، بل قُتل عمدًا، على مراحل، بأيدٍ متعددة، بعضها كانت تدّعي أنها تعمل على إحيائه. لا يمكن فصل انهيار المسرح عن الانهيار العام للثقافة في العراق، وعن سيطرة منطق السوق والمصالح الضيقة على كل شيء، حتى على الفنون التي لا تعيش إلا بحرية الفكر وعمق الرؤية.
لقد بدأ الخراب حين تحوّل المسرح من منصة للتعبير عن هموم الناس إلى مجرد واجهة تُستخدم لخدمة السلطات، أيًّا كان شكلها. فمنذ أن أصبح المسرح يُستخدم كأداة دعائية، فقد جمهوره الحقيقي، وتحول إلى مسرحٍ للنخب، أو مسرحٍ وظيفي يُقدم ما يُطلب منه دون أن يتساءل عن دوره الحقيقي. ثم جاء زمن المهرجانات التي صارت تُقام فقط لإثبات أن “المسرح ما زال حيًا”، بينما الحقيقة أنه لم يكن كذلك. كان هناك حشدٌ من العروض، وأسماء كبيرة، وجوائز، لكن المسرح غاب عن الشارع، عن الناس، عن الوعي الجمعي الذي كان يومًا ما يراه ضرورة وليس ترفًا.المشكلة لم تك فقط في المسرحيين أنفسهم، بل في البيئة التي أُجبروا على العمل فيها. أين هي المسارح التي كانت تضجّ بالحياة؟ أين هي الفرق المسرحية التي كانت تنتج عروضًا تثير النقاش والجدل؟ أين الجمهور الذي كان يملأ القاعات لأنه كان يرى المسرح امتدادًا لحياته، لا مجرد استراحة ثقافية عابرة؟
ثم جاءت الطامة الكبرى: الفوضى السياسية والأمنية، التي دفعت المسرح إلى زاوية ضيقة. لم يعد هناك دعم حقيقي، لا من الدولة، ولا من الجمهور، ولا حتى من المسرحيين أنفسهم، الذين انقسموا بين من اختاروا الصمت، ومن غرقوا في مشاريع بلا روح، ومن هاجروا بحثًا عن مكان آخر يمكن فيه للمسرح أن يتنفس.ولكن هل انتهى كل شيء؟ هل يمكن القول إن المسرح العراقي مات تمامًا؟ ربما لم يمت، لكنه صار كجسد يعيش على أجهزة الإنعاش، ينتظر معجزة ما تعيده إلى الحياة.المعجزة لن تأتي من المهرجانات، ولن تأتي من الجوائز، ولن تأتي من العروض التي تُنتج فقط لتُعرض في مناسبات معينة. لن يعود المسرح إلا حين يصبح ضرورة للناس، حين يخرج من صالاته المعزولة إلى الشارع، إلى المقهى، إلى أي مكان يمكن أن يعيد إليه جمهوره الحقيقي. المسرح ليس بحاجة إلى المزيد من الكلام، بل إلى الفعل. بحاجة إلى نصوصٍ تُكتب بروح جديدة، وإلى مخرجين لا يخافون التجريب، وإلى ممثلين يدركون أن المسرح ليس مجرد أداء، بل موقف من الحياة.المسرح العراقي لن يعود عبر التراكم الكمي للعروض، بل عبر ثورة حقيقية في المفهوم، في الشكل، في المضمون. بحاجة إلى مسرحيين لا يُشغلهم السؤال عن “كيف نكون موجودين في المهرجانات؟” بل “كيف نكون موجودين في ذاكرة الناس؟”.
وإذا لم يتحقق ذلك، فإن كل ما يُقال عن “عودة المسرح” سيظل مجرد وهم، وسنظل نحتفي بمسرح بلا جمهور، ونقيم مهرجانات تصفق فيها النخبة لبعضها البعض، بينما يبقى المسرح الحقيقي غائبًا، منتظرًا من يعيد إليه روحه المفقودة.لكن، من سيعيد هذه الروح؟ هل ننتظر معجزة تأتي من العدم، أم أن على المسرحيين أنفسهم أن يكونوا هم المعجزة؟ إن المسرح لا يعود من تلقاء نفسه، ولا يُبعث بقرارات رسمية أو جوائز، بل يُستعاد بالفعل، بالتجريب، بالخروج من دوائر الوهم إلى صميم الواقع.
لن يكون هناك مسرح حقيقي ما لم تكن هناك إرادة لكسر القوالب الجاهزة، والتمرد على الخطابات المستهلكة، والتحرر من فكرة المسرح المناسباتي الذي يُنتج فقط لمجاملات المهرجانات والاحتفالات الرسمية. المسرح ليس فعلاً موسميًا، بل حالة مستمرة من الجدل والتفاعل مع المجتمع. فإذا لم يعد المسرح قادرًا على تحفيز الأسئلة، وعلى إرباك السلطة، وعلى كشف الحقائق المسكوت عنها، فهل يظل مسرحًا أم يتحول إلى مجرد ديكور ثقافي فاقد المعنى؟إن إعادة المسرح إلى الناس تتطلب مواجهة جذرية مع الواقع. يجب إعادة التفكير في طبيعة العروض، في أماكن عرضها، في لغتها، في أدواتها التعبيرية. يجب تحرير المسرح من عزلته، ليعود إلى الساحات، إلى الأزقة، إلى فضاءات الحياة اليومية، حيث يمكنه أن يتنفس مجددًا. المسرح الذي يظل محاصرًا بين جدران صالات فارغة، لا يمكنه أن ينهض، لأن الحياة نفسها ليست جدرانًا مغلقة، بل فضاءٌ واسعٌ تتصادم فيه الأفكار والمشاعر.إذا كان المسرح العراقي قد فقد دوره، فذلك لأن المسرحيين أنفسهم توقفوا عن الإيمان بقدرة المسرح على التغيير. وإذا استمر هذا الحال، فسيظل المسرح مجرد ذكرى جميلة، مجرد شبح يطوف في كتب التاريخ، بينما يُترك الجمهور ليبحث عن الحقيقة في أماكن أخرى، بعيدًا عن الخشبة التي كانت يومًا ما مرآةً لحياته. السؤال الأخير الذي يجب أن يُطرح: هل بقي هناك من لديه الشجاعة ليعيد إشعال هذا الضوء الخافت، قبل أن ينطفئ نهائيًا؟ أم أن الجميع باتوا يكتفون بالمهرجانات والوعود، تاركين المسرح يتحول إلى أنقاض تحتفي بها الذكريات، لا الحياة؟!!
(يتبع)
المسرح العراقي بين الحقيقة والوهم: هزيمة الفعل المؤثر/—٢—؟!!
(اشارات تحريضية من أجل اعلان عن الوجود)!!
شوقي كريم حسن
#المسرح العراقي، ذلك الكائن المتأرجح بين الحياة والموت، بين الحقيقة التي يحاول أن يرسخها، والوهم الذي زُرع فيه عمدًا، حتى بات أضعف من أن يكون شاهدًا على الخراب. حين تأسس، كان صرخة ضد العتمة، ضد الاستبداد، ضد التجهيل، لكنه سرعان ما أُحيل إلى خادمٍ مطيعٍ لأنظمةٍ تعاقبت على نهشه، حتى لم يبقَ فيه من أثر الفعل سوى ديكورات خاوية وأصوات تتكرر على مسارحٍ لم تعد تؤمن إلا بالمساومة.كان (قاسم محمد )يصرخ: “المسرح هو الحقيقة”، لكن أي حقيقة تُركت لهذا المسرح بعدما صار التجار والسلطات هم من يتحكمون بخيوطه؟ كان (يوسف العاني) يقول: “نحن نقدم المسرح لأنه ضرورة، لا ترفًا”، فأين هذه الضرورة اليوم عندما صار المسرح العراقي إما مساحةً للابتذال أو محاولاتٍ فرديةً تختنق في زاويةٍ معتمة؟ حتى (سامي عبد الحميد)، الذي ظل يرفع صوته بأن المسرح فعل تغيير، رحل وهو يشهد انحدار هذا الفعل حتى بات أثرًا بعد عين.
في السبعينيات، وُهِب المسرح العراقي دعمًا رسميًا، لكنه كان دعمًا مشروطًا، فإما أن يكون الممثل بوقًا، أو يُحكم عليه بالنفي إلى الهامش. كانت العروض تُبهر بصريًا، لكنها خاوية من روح التحدي، وحين حاول البعض كسر القاعدة، كان مصيره الإقصاء. ثم جاء الحصار، فتحوّل المسرح إلى حالةٍ من البؤس، حيث كانت النصوص تُكتب لتُرضي ذائقة جمهورٍ يبحث عن مهرب من جحيم الواقع، لا عن مواجهة معه. وبعد 2003، حين ظن البعض أن الحرية ستعيد للمسرح ألقه، جاءت الفوضى لتسلبه ما تبقى له من كرامة.لم يعد المسرح العراقي ساحةً للأسئلة الكبرى، بل صار دميةً تحركها أيدٍ لا تؤمن إلا بالمكسب السريع. اختفى الفعل المؤثر، أو كاد، بعد أن صار المسرحي يُطالب بالتصفيق بدل أن يُطالب بالحقيقة. وما تبقى من محاولاتٍ جادة تُحارب في زوايا ضيقة، لا تجد لها منصاتٍ حقيقيةً تعرضها، فيما يسيطر على المسارح من لا علاقة له بفكرة المسرح أساسًا.“لا مسرح بلا وجع”، هكذا كان يقول (سعدي يونس)، لكن المسرح العراقي اليوم بلا وجع، بلا ألم، بلا صرخة. مجرد قاعةٍ مغلقة، وممثلين يكررون ذات الكليشيهات، وجمهورٍ فقد الثقة. هوامش المسرح صارت هي الأصل، أما الأصل فصار أثرًا يرويه المتقاعدون بحسرة. لكن المسرح، حتى وهو في ذروة انكساره، لا يموت. ربما يُهان، يُدجَّن، يُهمَّش، لكنه يبقى كالندبة في وجه الزمن، تذكيرًا بأن هناك من قاوم، حتى وإن لم يُسمَع صوته. المشكلة ليست في انحدار المسرح وحده، بل في انحدار الذائقة، في انطفاء الرغبة لدى الناس في سماع الحقيقة، بعد أن اعتادوا على وهم الخلاص السريع، على كوميديا تهريجية تُضحكهم ساعة وتتركهم فارغين بعدها، على دراما خاوية تُعيد تدوير الخيبات بدل أن تصفعهم بها.حين كان( فاضل خليل) يصرخ بأن المسرح موقف، لم يكن يتخيل أن يأتي يوم يصبح فيه الموقف تهمة. صار المسرحي الحقيقي يُعامل كغريب، كمنبوذ، كمن يُصرُّ على الكتابة بلغة انقرض قراؤها. لا أحد يريد مسرحًا يفضح، يكشف، يصدم، لأن الواقع نفسه صار أقسى من أي مشهد يُعرض على الخشبة. لم يعد الجمهور بحاجة إلى مسرح يقول له إنه مسحوق، منهوب، مخدوع، فهو يعيش هذه الحقائق يوميًا، لكنه يبحث عن مسرح يمنحه ولو قليلًا من الأمل، حتى لو كان زائفًا.الأسوأ من كل ذلك، أن المسرحيين أنفسهم استسلموا، أو تواطؤوا بصمت. بعضهم صار جزءًا من اللعبة، يكتب نصوصًا تناسب السوق، يصنع عروضًا تُباع كسلعة، لا كحلم. والبعض الآخر انسحب، فضَّل العزلة على أن يكون شاهد زور في جنازة المسرح. أما القلة التي لا تزال تحاول، فتواجه حربًا من التجاهل، وكأنها مجرد صدى لزمن لم يعد له مكان.لكن، هل يمكن للمسرح العراقي أن يعود؟ ليس السؤال في العودة، بل في الكيفية. هل هناك إرادة حقيقية لإعادته إلى جوهره، إلى كونه سلطة موازية، لا مجرد فرجة عابرة؟ هل يمكن أن يظهر جيل جديد لا يرضى بأن يكون تابعًا لمعادلة السوق والاستهلاك؟ أم أننا سنبقى ندور في دائرة المسرح الذي يُرضي، لا المسرح الذي يواجه؟
ربما لا تزال هناك خشبة تنتظر، ونصوصٌ لم تُكتب بعد، وربما هناك من لم يفقد إيمانه بأن المسرح، حتى وهو في أقسى لحظات ضعفه، يظل أكثر صدقًا من كل شيء آخر. لكن الإيمان وحده لا يكفي. المسرح لا يقوم على النوايا الحسنة، ولا يُبعث من موته بالصراخ في الفراغ. يحتاج إلى ثورة، إلى صدمة تهزّ أوهام السائد، إلى من يملك الجرأة ليكسر القواعد التي حوّلته إلى ديكور في مشهد ثقافي متهالك. المشكلة ليست في غياب النصوص، فالعراق لم يتوقف يومًا عن إنتاج الكتابة، بل في غياب الشجاعة، في من يجرؤ على إعادة المسرح إلى دوره الحقيقي دون أن يخشى العزلة أو التهميش.حين وقف (إبراهيم جلال) يومًا على المسرح، قال: “المسرح العراقي سيظل واقفًا ما دام هناك ممثل واحد يؤمن بأن الخشبة وطن”. لكن هذا الوطن اليوم بلا سكان، أو أن سكانه قرروا الهجرة إلى عوالم أخرى، أكثر أمانًا وأقل تكلفة. الذين ظلوا يحلمون بمسرح يصنع الوعي، لا مسرح يُباع كمنتج رخيص، صاروا قلة، غرباء في وطنٍ لم يعد يؤمن بالفن إلا كترف أو وسيلة تخدير.الجمهور نفسه تغيّر. لم يعد ذلك الجمهور الذي ينتظر مسرحية تعيد صياغة وعيه، بل صار يبحث عن مهرب، عن ضحكة عابرة، عن ساعة من النسيان في زمنٍ مثقل بالأوجاع. المسرح لم يهزم فقط بفعل السلطة، بل أيضًا بفعل مجتمعٍ لم يعد يراه ضرورة. في السابق، كان الناس يذهبون إلى المسرح ليكتشفوا أنفسهم في مرآة النصوص، أما اليوم، فلا أحد يريد أن يرى وجهه الحقيقي.
الجيل الجديد من المسرحيين أمام خيارين: إما أن يستسلموا لهذا الواقع ويصبحوا جزءًا منه، أو أن يختاروا الطريق الأصعب، طريق إعادة المعنى إلى المسرح. لكن السؤال المرير: هل هناك من لا يزال مستعدًا لدفع هذا الثمن؟ أم أن الجميع قد تعب، واختار السلامة على المواجهة؟
ربما ستبقى بعض المسارح واقفة، ربما ستُكتب نصوصٌ لن تُعرض أبدًا، وربما سيظل المسرح العراقي عالقًا بين ماضيه المجيد وحاضره البائس، لكنه لن يموت تمامًا. سيبقى هناك دائمًا من يرفض أن يكون جزءًا من هذا الوهم، من يصرّ على أن المسرح ليس للبيع، حتى لو اضطر إلى الوقوف وحيدًا على خشبة خاوية، يخاطب جمهورًا قد لا يأتي أبدًا.!