العلامة العراقي جواد علي صاحب ..المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام
شعوب الجبوري و إشبيليا الجبوري
ت: عن الألمانية أكد الجبوري
صراع تناقضات الاختلاف في دلالات المفاهيم المتصلة بتنزيل المعرفة التاريخية
يذكر العلامة العراقي البارز جواد علي (1907 ـ 1987م) مؤلف أشهر ألمع موسوعتين (تاريخ العرب قبل الإسلام، 1968/1947) بثمانية مجلدات و موسوعة (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 1965/1965) بعشرة مجلدات، وهي من أهم المصادر الموسوعية التي تظهر خفايا فترة ما يطلق على سكانها (بالجاهليين) في الكتب والمقالات، عن المعرفة التاريخية التي جاء منها ظهور الإسلام وجذوره. يذكر المؤرخ في مقدمته لمفاصل التاريخ قبل الاسلام عن المسمى للكتاب، فيقول (.. رأى أستاذي العالم الفاضل السيد محمد بهجت الأثري تسميته: “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، لما فيه من تفاصيل لم يرد في الكتاب السابق، فوجدت في اقتراحه رأيا صائبا. ينطبق كل الانطباق على ما جاء فيه، فسميته بما سماه به، مقسما إليه الشكر الجزيل على هذا التوجيه الجميل”.) أنتهى الاقتباس.
وأن الغرض من تأليفه له فيقول:(.. والكتاب بحث، أردت جهد طاقتي إن يكون تفصيليا، وقد يعاب علي ذلك، وعذري في هذا التفصيل أنني أريد تمهيد الجادة لمن يأتي بعدي فيرغب في التأليف في هذا الموضوع، وأنني أكتب للمتتبعين والمختصين، ومن حق هؤلاء المطالبة بالمزيد. وقد فعلت هذا في الكتاب ما فعلته في الأجزاء الثمانية من الكتاب السابق من تقصي كل ما يرد عن موضوع من الموضوعات في الكتابات وفي الموارد الأخرى، وتسجيله وتدوينه، ليقدم للقارئ أشمل بحث وأجمع مادة في موضوع يطلبه، لأن غايتي من الكتاب أن يكون “موسوعة” في الجاهلية والجاهلين، لا أدع شيئا عنها أو عنهم إلا ذكرته في محله، ليكون تحت متناول يد القارئ. فكتابي هذا وذاك هما للمتخصصين والباحثين الذين يطمعون في الوقوف على الجاهلية بصورة تفصيلية، ولم يكتب للذين يريدون الإلمام بأشياء مجملة عن تلك الحياة… وأنها ستتناول كل نواحي الحياة عند الجاهليين: من سياسية، واجتماعية٬ ودينية، وعلمية، وأدبية، وفنية، وتشريعية.) أنتهى الاقتباس.
إذن٬ الغرض؛ في هذا الكتاب٬ أنه أثبت فيه لنفسه والآخر المتخصص على جهة التذكرة متن مسائل المعارف٬ ودلائل الأحكام٬ المتفق عليها٬ والمختلف فيها٬ بأدلتها. والتنبيه على هزل الخلاف فيها ـ وما يجري؛ مجرى الأصول٬ والقواعد٬ في الكتابات التاريخية. ومنه من هاجروا بها إلى الأماكن المعروفة؛ التي استقروا فيها؛ بين هذه الشعوب والقبائل، وما لبس عليهم من ضيم هذه الشعوب إليها؛ لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها؛ في متصل الشرع٬ والمعرفة التاريخية؛ لإثبات إنها ذات أصل٬ تؤول إليه، وأعطى للعرب تاريخا٬ نبت في القديم جوره٬ ولم يراجع سبب القيود المفروضة٬ على فهمه. جمعت الاعتبارات؛ في تحبيرها٬ وتحريرها٬ إلى غير فك٬ في الحضارة العربية الإسلامية٬ من تفاصيل؛ على أنفاق في التوجيه٬ والاجتهاد، ما يغنيهم عن سماع التبخيس والإشفاق والاتهامات المزرية ناشروها، بنعتها “بالجاهليين” و”السراق” و”اللصوص والقتلة…الخ فليس لهم غير”عقد مركبة بالنقص”، كما لا أحد يستطيع نقد الماضي دون تصور بيئتها السائدة من توافق العموم، ليثبتوا من هم في تصورها له. وليس طمع بجديد فما جمع وتطور لشعوبها من تمكنهم بالظفر بها، وثابروا في غرس الحضارة العربية الإسلامية، متيسرة٬ على استطاعتها٬ لتقصي منح الشعوب الأخرى ألمع المعارف ثقافة وعلم وفن، وما جمعت مكتسبة بها من العلماء٬ بواطن تسجيله وتدوينه في العالم الإسلامي، فكانوا أصحاب حضارة وسعة الثقافة.
وهذه المسائل في الأكثر هي مسائل المنطوق بها في بواطن الشرع و متن المعارف التاريخية. أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا ترى أنهم “غير عتات” أو من الأسرة العربية المعروفة بلفظة العرب الجاهليين، إلا إذا تداهمت الأدلة بدهماء معارضيها، في نفي الإثبات والتلاحق بنصوص المستشرق عن تركته. وأن الأدلة المتوفرة ـ وهي المسائل التي وقع الأتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى أن فشا التقليد ونبشوا في تربة غير صالحة، فما هو معروف من تاريخ اليمن وبقية الجزيرة والبادية لا تحتاج إلى ترقيع زمانها ولا تغريب شرحتها من وحدة الثقافة والجنسية وعمق التراث في أصدق اصلاحاته في روابطه وتاريخية ما تنزل بها من معارف.
الذي أبدع مؤرخنا فيه، وجود تمهيد محتوى الموسوعة، فكانت دليلا على وجوده وعلمه ووحدته وأقدامه وبقاءه، فالمؤلف مؤرخ موسوعي. وأهميته، تنبهه على موضوع التخصص بتاريخ العرب القديم، في دراسة علم آثاره والكشف عن تاريخ هذه الأمة العربية القديم، ولهجاتها قبل الإسلام والمعارف الجاهلية، لأجل تقويم الطلبة والباحثين من عدم الإغفال، والانجرار وراء الإملاءات، في النظر إلى التماثيل كأوثان وأصنام فقط، وإغلاق التنقيب عن العادات، بل إحياء المعارف وتناقضات خلافاتهم في البعث والتأملات القيمة، وهذا ما بحثه ووجده المؤرخ والبعثات المتخصصة من الباحثين في اليمن وجنوب اراضي الجزيرة العربية، التي كشفت المسخ المعربد في مؤلفات المستشرقين في إشاعة اللغط والخرافة في اتساع التخريف عن شعوب المنطقة وتاريخها ونعتها بـ(الجاهليين) .
أغنت للمؤرخ مؤلفاته عدد مجلداتها الضخمة، وأظهرت بإجادة دقة التمرس للباحث في صنعته وتحير المؤلفين الأجانب من تاريخ الجاهلية، في نبوغه بحثه العلمي وحياديته، عن ترجمته إدراك حقيقته لصراع تاريخ أفكار العقلاء في تاريخ الجاهلية عما زعموه باطلا، فهو الظاهر للمعرفة والباطن في أثرها.
اتم عن منهجه نظام وجود لزوم الرصانة٬ وجبته الحيادية عند الباحث، سافر عالما مطلعا ببعثة موضوعات (الآثار واللهجات القديمة لمواطنها القديمة)، اختارها عن صفوة الصراع في تناقضات الاختلاف في دلالة المفاهيم، حيث الاماكن، فبلغ الرسالة بتنزيل المعرفة التاريخية كما وجد، فبلغ رشد أشدها جلدا، ما أشاد العلماء العراقيين والعرب غير العرب، زهوا وترفعا بما جاد به، وربط شكيمته محلها (محمد بهجت الاثري) متناولا تقصيه، كما شجعوه و أيدوه زملاءه من الداخل والخارج، بالمعلومات والمعرفة الناطقة بصدقية أسانيده ومعرفة دوافعه، فتمت بعثة بحثه العلمي متمرسا منهم، بما يجب أن يكون عليه منهج العالم، فكان من زملائه وأساتذته أمناء، وأقاموا الحجج، فكانوا فطناء عصمهم إخلاصهم مما يشين فوجب تباعهم. هذه الأمور بسطها يحتمل مجلدات، لكن نشير إلى المهم منها لاحقا.
أما بعد فنتقدم بمقالنا هذا إلى العقلاء أجمعين، راجين، من كل شخص يريد أن ينتفع، يلقي الضوء في ألفة تبادل الآراء، في حسن تقويم عوجه وتعديل أغلاط، مبديا آراءه وإرشاده وملاحظاته، لتعم الفائدة، إن وجب تصحيحه، وتلك بغية المبتغى قلائد الأفذاذ في البحث والاستيعاب، ويعم النفع به من قدم رأيا من درسه أو أعان على درسه، والعلم يم عميق قراره.
٢ –
2 ـ 3 …(تابع)
العلامة العراقي جواد علي٬ خير من تبحر في آثار تاريخ العرب قبل الإسلام وآدابها.
والحق أن الكلام في هذا المقام عن المؤرخ جواد علي ليس بمثل يسر الكلام عن (محمد بهجة الأثري 1904 ـ 1996م)٬ أو ( هشام جعيط/تونس 1935 2021م)٬ بل وحتى عن (آرثر جون آربري 1905 ـ 1969) ذاته، لأن هذا العلامة قد وضع تغيير الملتبس في المجال الفكري العربي الإسلامي، رغم كونه بأمتياز منفتح التفكير، فقد سعى إلى الانفتاح على خارج الفلسفة من اللغة/الكلام و تمكنات سياسية ورفعة الأدب وسعة العلوم أنسانية، بل إنه جعل من التحقيق مفاصل تتابع التأويلية الفلسفية في حوارية دائمة مقابل منطقية وعي المستشرق والمتغرب، من دون ان يهمل حوارها مع تاريخها التحليلي الخاص، أو مع نهج وعي ذاتها.
وقد كانت شكلت بداية تلك المقاصد عندما أفقدته الحرب العالمية الأولى التأويلية الفلسفية٬ القواعد الأصولية لأهداف الحداثة؛ في تحريف دراسة علم الأدلة في سائر الثقافات والأمم؛ التي كانت نفير أزمة قيم الحداثة والعقل. بل أيضا توجيه المنطوق الفلسفي “التأويل التحليلي” بإتجاه المسكوت عنه على سائر ثقافات الشعوب٬ الوقائع العاكسة لمجريات ومخرجات الحرب العالمية الثانية التي كانت أوج أزمة تفتك الحداثة٬ فقد جعلته يعيش تجربة المراجعة من نماذج كتابة التحليل التاريخي والزمان الثقافي؛ التي مثلت له تحدي أولي تجل للبربرية الحديثة مقابل محور وعي منطلقه استعداد التحقق تجاه الجاهلية، في فعل الاستعارة و حياتها٬ بل نموذج التفكر الأخلاقي الناظم؛ الذي ينسق الشر على ما يظهره في حول الذاكرة والتاريخ٬ وفق النحو التحليلي التاريخي٬ والهوية والواجب استذكارها بدقة٬ استعادة المنطلقات ذاتها؛ التي دشنها مفارقة٬ لتخليص التاريخ العربي ماقبل الإسلام من التعريفات التأويلية الفلسفية٬ لما تعنيه الوقائع الجديدة على الأفكار الغربية والمستشرقون الذين ينظرون إلى أنفسهم بمنظر الرأي والاجتهاد في تحسين أسانيد الثقافة والتفكير والتدريب على القواعد والأصول بإتجاه المسكوت عنه٬ للنطق به.
فالمعرفة التاريخية في بناء نوع الهوية السردية صلة ذاكرة جماعية عند (جواد علي)٬ تستوي إليه بالـ”نحن ـ العربي”، فمن البين أن فكره يحضر بقوة في إنتاج عديد من المفكرين العرب “الناجين من هيمنة الاستشراق” أو من “ذاكرة المحتشدات التأويلية الفلسفية” الذين يشتغلون على قضايا الزمن والتاريخ والتراث والهوية من الفلاسفة، ومن نقاد الأدب ومن علماء النفس، بل ومن دارسي الأديان، كذلك من المسيحيين العرب والمسلمين. ولقد كان من المعارضين الصارمين لتلبيس الشعوب هويات ثقافية تأويلية٬ لغرض التسلط والهيمنة، وكان من الذين نادوا على خلفية نوع الإنصاف العلمي والتحقيق المعرفي بوجود دلائل في المكان والزمان٬ واحدة للمكان٬ وأخرى للزمان. ولم يتوان عن التحول في التحقق الميداني إلى الذهاب لهذه البلدان ـ النبع “اشتقاق المعرفة الحضارية وتاريخها” في الجزيرة للفحص والتنقيب والاستكشاف. ليفيدنا نحن بها أيضا.
ورسالة الموسوعة واضعة وظيفة فن دلالة المفاهيم العلمية (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) إذن استعراض المسائل المختلف فيها بين مشاهير المؤرخين، وكذلك المسائل المتفق عليها فيما بينهم، وذلك على سبيل المقارنة والمعارضة من أجل التدرب والاستعداد لبلوغ رتبة المؤرخ. فرتبة المؤرخ تقتضي نظرا في المسائل المسكوت عنها؛ وذلك ما يقدر عليه التحقق إلا إذا كان قد عرف أراء المؤرخين ومناهجهم في الاتفاق والاختلاف؛ وفي تأويل الاختلاف والتباين والتعدد على الخصوص أكثر مما هو عليه حالات الإتفاق.
ويعني ذلك من ضمن ما يعنيه العلامة الأستاذ (جواد علي) أن يمسك هنا بحافة الضفتين من جهتين: جهة تاريخ أحكام توثيق المراحل، وظهور اجتهاد مؤرخيها ومنهجهم/مذاهبهم، بالإضافة المستشرقون وأهداف مشارب مدارسهم إلى وجهة فنون الأدلة والمناهج المتعددة. وقد عبر عن المسألة الأولى ضمنا عندما أعتبر استعراض آراء المؤرخين والفقهاء أو العلماء والباحثين أو المجتهدين إعدادا ضروريا لبرهنة الأحكام عن أدلتها، بينما استعرض فعلا جوامع مسائل المخطوطات التاريخية وتاويلات الخطاب الشرعي/الفلسفي٬ قبل أن ينصرف لاستعراض آراء العلماء المستشرقون و المؤرخون والفقهاء على أصول الأحكام٬ كما هو معروف في كتب الاختلاف الأخرى في شتى المناهج والمدارس.
والواقع أن جواد علي كان رائدا في اختبارين ففيما يتعلق بالمسألة الأولى، وأعني بها تاريخ رموز اللغة، وما تطور إليها من وجوه اتفاق واختلاف، نجد أن العلامة احتفظ لنا في طوايات كتاب الموسوعة٬ بإيضاحات الوثائق الضرورية على نحو الاستعادة لتتبع ذلك ودراسته. فضمن أبواب الموسوعة المختلفة حسب موضوعات المؤرخناتية العلمية نجد فيها؛ اختلاف المؤرخين العرب والمستشرقين، اختلاف جماع العلم، وسرديات إبطال القبول والوفاق بالاستحسان، وكتاب الرد على محمد بن الحسن الشيباني، وأيضا هناك الرد على سير سرديات الرموز في مسائل الزمان التاريخية. ومن تفحص تلك الوقفات٬ أو٬ الرسائل؛ـ يتبين لنا أن الاستاذ جواد علي٬ أخذ بعضها من البلاد التي استعاد قراءة التفكير في إنتاجيتها٬ وجديدها في نماذج التفسير المؤول التحليلي٬ في ذات الوقت٬ الخبز الأخلاقي الناظم للذاكرة السردية عنها٬ بينما جمع بنفسه بعضا أخر، وقد قام بمناقشتها ونقدها تمهيدا للخروج باجتهاداته الجديدة في هذه المسائل كلها ـ وقد كان من حسن الطالع بقاؤها ضمن كتاب “الموسوعة”٬ لتطلعنا على التحقيقات المبكرة في الاختلاف بين المؤرخين من جهة، وعلى طريقة جواد علي في التحقيق والتوثيق والرأي من جهة ثانية.
أما المسألة الأخرى، والتي كان الأستاذ (جواد علي)٬ رائدا فيها مما يتعلق باختلاف المؤرخين، بل باتفاقهم بعلم الأدلة الوظيفية. فالمعروف أن الأستاذ (جواد علي) الذي عرف البحث التنقيبي للمتمرسين العراقيين والعرب، وأرخنة الاستشراقيين وخاض نقاشا مع الأوائل، وجدلا مع الأواخر، قام بعمل آخر قبل صياغة مذهبهم القديم، بل ربما أثناء صياغته، تمثل في تأليف كتاب الرسالة الذي قعد فيه لعلم الأدلة الوظيفية: المكان، والزمان، والإجماع، والقياس. وبسبب نشأة ذلك العلم في جو جدالي أو خلافي؛ فقد ظهر ذلك في رسالة الموسوعة مثلما ظهرت في أهداف أجزاء وفصول الموسوعة.
على أن البينة الخلافية التي تظهر لدى (جواد علي) في المستويين الرمز النوعي وفروع جزئيات التأويل التحليلي الثقافي. بحيث أن مستوى مناهج الأدلة، لا يظهر منها لدى تاريخ الفكر الاستشراقي غير المستوى الأول، مستوى الرمز النوعي وفروع جزئيات التأويل التحليلي الثقافي. ويرجع ذلك إلى المسافة الزمنية التي تفصل (جواد علي) وأرخانياته وخلافياته المحققة؛ التي شكلت منعرجا علميا٬ جعلته يصبح معاصرا حقيقيا لما حصل في تاريخ الأبحاث العلمية الحديثة٬ من تحول في تفكير محور الوعي بالتأويل التحليلي “لدى المستشرقين”٬ واللاوعي كذلك٬ في أدوات الأبحاث في فعل الاستعارة٬ أدوات غرائمهم التحليلية٬ في الإطناب المعرفي الهوياتي٬ عن تاريخ العرب والمسلمين قبل الإسلام.
فنحن نعلم اليوم أثر “مهنيته العلمية المتمرسة” أن علم الأدلة العلمية في التحقيق عن “الجاهلية” استقرت إلى حد بعيد منذ زمن في تقسيم الأجناس البشرية الصلبة٬ بذات المسائل الهوياتية٬ صراعات تقترحها على التاريخ الأجناس الحضارية ومسائل فكر الزمان التاريخي.
هذا ما دفعته إلى الاضطلاع بذات الجغرافية٬ انطلاقا من أمتحان ما تقترحه تلك الأقوام٬ و كذلك ما أنتجه من ردة فعل معاكسة في اللاوعي في مستحدث اللغة ـ تغريبة غربية ـ مع استثناءات ضئيلة ـ، فما عادت هناك نقاشات خلافية إلا على مستوى القواعد الخاصة بكل مدرسة/منهج، والخلافات الجزئية التأويلية التحليلية الثقافية٬ هي الأخرى المتعلقة بالدلالات اللغوية (مباحث الرموز النوعية)، و دلالات المفاهيم المتصلة بتنزيل الإطلاق اللغوي على تأويلات الوقائع. وهذا معنى ذهاب ـ العلامة جواد علي) إلى أن دراسة (اختلاف المؤرخون) في عصره إنما هي دراسة تدريبية و توثيقية، ودراسة مقارنة؛ ذلك أن الخلفية التأصيلية كانت قد صارت واحدة في ذات الوقت؛ دفعته تربيته العلمية وفهمه بمقدرات التفكير والمسؤولية العلمية٬ رافد تفكيره الأول هو الاشتغال عليها بمهنية علمية عالية٬ في طرق التحقيق والتنقيب للمكان وفق معلومات توجيهية من أجل المعرفة٬ الذي ظل طوال حياته يعتبرها مهمته الأولى٬ عند محاولة فهم ما جرى “في الفترة الجاهلية”.
و بالتوثيق: هناك اتفاق على الأدلة في سائر المناهج، بل وهناك اتفاق على أكثر القواعد التي تبلورت في ظل علم الأدلة ـ فيكون على المؤرخ الذي يريد أن يخطو باتجاه التاريخ في المناهج أو في الأحداث بشكل عام أن يقوم بالأمرين معا أيا يكن مدرسته أو منهجه، دراسة علم الأدلة دراسة معمقة، والاطلاع على القواعد اللغوية والأصولية في سائر المراحل و التأرخة المنهجية، وهذا كله يدخل في باب المبحوث فيه٬ موثق منطوق به. وهو الذي يمكن المؤرخ من الخطو بإتجاه المسكوت عنه؛ ذلك أن المقصود بالمسكوت عنه، الوقائع الجديدة، التي يستطيع المؤرخ الطالع الذي أتقن علوم المبحوث به موثق به أن ينظر فيها ويصل إلى رأي بدليل أو وثيقة بشنها استنادا إلى الثقافة والتحقيق. ….
(يتبع)
3 ـ 3) …تابع)
يظهر العلامة (جواد علي)٬ من حيث تصميم و خطواته المنهجية التطبيقية “الاحترافية”٬ لما شكلت له مكانة مميزة في المراجع التاريخية٬ لدقة متابعته العلمية الرصينة٬ في مادتها الدسمة الخطى٬ وما شكلته من أختلاف المؤرخون والمستشرقون بين من يعلى رفعة شأنها٬ ومن يحط من مكانتها. أي٬ أن هذا الاختلاف حول مكانة (جواد علي) في دراسته تاريخ (الجاهلية) يستقيم دليلا على حضور “الأثر” بروافده العلمية المحققة٬ حتى عند معارضيه٬ وفي مقدمتهم المستشرقون أو المتغربون من العرب الذين لم يسلموا من حدة تأثيره. فقد مهدت استراتيجيته بنى منهجية لا على التأويل التحليلي٬ بل على قوة الأثر لمكان وزمان تاريخ المنطقة العربية قبل الإسلام٬ وعلى النصوص؛ التي بناها التأويل التحليلي الفلسفي؛ لدى المستشرقين والدارسين من العرب وغير العرب. كما بنيت أبحاثه الاحترافية٬ محتكما إياها إلى الأثر تارة٬ والنصوص التحليلية مرة. فهو عالم حصيف٬ ومؤرخ يوقف على التصورات الفلسفية مثلما اختلفوا بها٬ فجعل من أبحاثه عصامية٬ محتكمها الاعتداد بالنفس٬ فهو ذو إرادة قلبته٬ إرادة عزمته كيفما جاءها٬ عصامي بين المستشرقون والمؤرخون والباحثون. يندفع إلى الحقيقة التي يسعى إليها اندفاع السبيل٬ مشقة الأثر٬ من الثراء النافح الذي يختزنه تاريخ المنطقة٬ الذي كان يجرف كل من يقف في طريقة قيامها الأرث الحضاري الضخم٬ وهذا ما جعل طريقته البحثية؛ الأنتقال من النصوص التاريخية؛ مواجه نقدية لوصاية المعرفة الاستشراقية التأويلية٬ و حولياتها التحليلية. ملأت تسمع وتبصر الأخرين٬ على بصيرتها وتصوراتها من تجريف تاريخ المنطقة٬ و وصمها بمرحلة الجاهلية٬ التي فضح فيه طريقه من نصوص “الوصاية العلمية” ليس حيثما يشاؤون٬ بل أزدادت حصافته العلمية شهرة٬ نبراسا بعد مماته٬ وتناولت أبحاثه لدى كثير من الجامعات الغربية والعربية من مؤيديه ومعارضيه٬ حتى إننا لو جمعنا المصنفات حول مدونات وما كتب عنه٬ لألفنا بذلك مراكز علمية ومكتبات خاصة بالدراسات والمراجعات النقدية بالعلامة “جواد علي”.!!٬ ،هذا ان دل على شيء إنما يذل على كثرة الباحثين من العرب وغير العرب ومن المستشرقين٬ وقوفا على عبقريته ومنهجه٬ دافعا به إلى المفكرين٬ للفائدة والتعلم.
ولا غرابة في ذلك٬ ما دام أن ثقة الرجل بنفسه تشكل منعطفا حاسما في نقد الاستشراق٬ ونقد المسمى للجاهلية” وكأنها “المرحلة البربرية” تبعا لتأويلات الفلسفة التحليلية٬ هذا النقد الذي عرف مع المؤرخ (جواد علي) نقلة علمية٬ يستهل بها “موسوعته”٬ بالإشارة الواضحة من العنوان٬ والمقدمة إلى الصعوبات التي تعترض الدارس لفكر ومنهجية (المؤرخ جواد علي)٬ مثال الاحترافية الرصينة٬ متعددا في غزارة ملاحظاته وكتاباته ووقفاته٬ وكون بعض الاختلافات في الأبحاث كشفت عجز النصوص الفلسفية التأويلية من عجزها دقة متابعتها التاريخية العلمية٬ أو من النصوص التي تعزى إلى تلك المرحلة٬ والتغيرات التي لم تحسب على التغيرات التي طرأت عليها٬ وعلى الأقوام والمواقف خلال مسيرة التدوين أو الإشهار في اشتغال الباحثين عليها.
لذا فإن المادة النقدية التي كان يصنف إليها الأسباب تحت أتقاد/وهج معرفي في الإنتاج٬ أخضعها إلى جانبان:
الأول: إن (جواد علي )٬ ارتكزت على مسحه الموسوعي منهجية منظمة ومصممة٬ و ظافرة باختصارها٬ في طبيعة اللغة الواضحة من جانب٬ بفضل أبحاثه الميدانية٬ فأنهرس على دراستها وتأملها… ولأن حرص انتماءه عن المكان والاتجاه الفكري ـ والعلمي في إتقان مباحث المكان والزمان واللغة أداة المنهج والبناء والمخاصمة٬ ولأبحاثه الميدانية يرجع الفضل في تمكنه من دراسة إشكالية عصيبة في التأويل التحليلي التاريخي في الأقوام٬ المعنية هنا ـ بالتوصيف “الجاهلية” للأقوام بالمنطقة شبيه أو تعميم لمصطلح “البربرية بالتوصيفات الغربية٬ في دعوى استشراقية لأفاق طوت على حياة وثقافة العقل العربي.
أما الجانب الآخر: وهذا ما قد يعد غير مألوفا٬ هو استكشافه آفاق تتعدى طور العقل الاستشراقي وثقافة “الظاهرية” الضالة في حزم المعرفة تجاه الاختلاف و الإتقان٬ مما جعله يحفر ليختم معظم المسائل؛ التي يخاصم فيها المستشرقون والباحثون العرب وغير العرب٬ بالحكم بأن الإرث الثقافي ومعطيات المنجزات الحياتية٬ تفوق التأويلية التحليلية للمستشرقين٬ بل أن الدراسات التي أوجدها تتعدى “الظاهرية الغربية التحليلية”٬ حكم عليها بالعجز٬ عن الاحاطة بمعطيات الأقوام للمنطقة قبل الإسلام. فلا نجد لدى المؤرخين السابقين عليه ـ هذا بعض من دعاة التغريب/ الاستشراقي من قبيل الموائمة على دراساتها الاستشراقية وتأملاتها التحليلية٬ وإن كان المستشرقون يطلقونها على الأقوام في المنطقة قبل الإسلام في اتجاه معاكس لما فعل–(جواد علي)٬ فالمستشرقون يعادون كل دعوى تخالف توجهاتهم “نظرياتهم”. فقد كان المؤرخون يخاصمون أبدا من منطلق العقل٬ ويعتقدون أن المنتج الذهني للفكر الإسلامي “فكر بربري”٬ بحسب “الجاهلية”٬ ويعتقدون أن الأفكار التي يخاصمون منتجها الاجتماعي والفلسفي٬ فسادها راجع٬ لخللها “الجاهلي”. غير أن المؤرخ العراقي المبدع ( جواد علي)٬ استوضح في خصامه واختلافه معهم عن العجز التأويلي التحليلي من عجز العقل٬ اللاحق عن تبني تحليلات تبتعد عن الحقيقة في أمور الدراسات والأبحاث الدقيقة الميدانية. لكنهم ونعني هنا٬ أن الدراسات تثبت ما يختلفون به٬ في هذا الميدان٬ لأختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الفكرية. أما ما يتصل بالعلامة العراقيـ جواد علي)٬ فقد تعداهم بذلك.
ولذلك٬ فلا يمكن للباحث المنصف٬ أكثر دقة مما جاء به “صاحبنا ـ جواد علي” من حيث وضعه الشيء موضعها٬ وهو معنى العلمية٬ الحق الاستكشافي الرفيع٬ وهو معنى المؤرخ عند البحاثة القدماء والجدد. ولا يمكن أن نكون أقرب إلى جادة الحق العلمي أو الميل بالأدنى إلى الصواب٬ إذا لم نجد القواسم لحفرياتنا خارج عقلانية الفلسفة في التحليل الظاهراتي أو تأويلات تحليلية٬ التي تحتاج إلى فهم اللغة وزمان ومكان دورة المنهج البحثي٬ التي جاء إليها متحدثا بها على الصعيد العقلاني٬ والكشف عن موضعات المؤرخين التي تزعم فيها على “صعيد تدني العقل أو رقيه ” لدراسة الأقوام٬ والتي إلى الآن تعاني النظرة العربية من غطرسة بعض التصورات الاستشراقية للمنطقة وتاريخها.
لقد واجه (جواد علي) المستشرقون بأسلحتهم٬ وتمرس بإشكالياتهم في الميدان التوثيقي والتاريخي. برغم أبحاثه التوثيقية الحادة على المستشرقون والاستشراق٬ فهو مؤرخ ومؤرخ واضح دقيق. وفي أبحاثه أثار عروبية لا يمكن تجاهلها. بل إنه صارع الاستشراقيون. والأكثر من ذلك: كانت الروح الانتقادية عند (جواد علي) دؤوبة ومثابرة٬ أقوى منها من عند الباحثون الغربيون والعرب٬ فكيف يمكن أن يستمر في منأى عن أفكارهم وتأثيرهم في موسوعته٬ بل وكذلك في أبحاثه التي لم يفرط فيها بأصالته٬ وهذا الذي نقره٬ ونعتز بصدده رصانة أصالته في قراءاته التاريخية٬ بلا أدنى شك٬ كما نلاحظه في عمله الموسوعي الاستثنائي الرائع “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”
فالعلامة العراقي (جواد علي)٬ عالم ومفكر ممتاز٬ محقق ومؤرخ يمثل الحلقة الأقوى في سلسلة كبار المؤرخين العراقيين والعرب وغير العرب ٬ ولذلك فليس اعتباطا أن نجد المصادر والمرجعيات العلمية التاريخية٬ لها من العطاء المعرفي التأريخي٬ وإشارة رصينة إلى مكانته الجليلة التي يتبوأها٬ حين تعطى مكانته أعظم مؤرخ لتاريخ العرب قبل الإسلام٬ موسوعته التي تتعدى الحلقة الثقافية٬ له منها خصام الرحلات الاستشراقية التي تشبهت تأويلات التحليلية٬ وأن الرحلات التي قام بها “ميدانيا” عززت كشوفات انطلاقه الجغرافي التاريخي٬ بمعية الحقائق٬ وعاد بها إلى نقطة الانطلاق٬ مع نصوص الآنف الذكر في متن الموسوعة٬ ليعيد إحياء نقطة انطلاقه كعراقي وعربي ما لا يعيب على مج المنطقة وتاريخ أبناءها٬ لذا له رسم ثقافي وتاريخي في أعيننا٬ يغزل إليها من العلم والمعرفة عرفانا لمجد إرادته العصية٬ ما ذهب بناإليه ليس بأن نعده مرآة عاكسه من ارث هذه المنطقة التي توصف في “الظاهرية” الاستشراقية ٬من جاهلية ما قبل الإسلام٬ به رسم حد الحديث كأعظم مؤرخ٬ عندما نراجع إنجازاته٬ إنه كان مؤرخا أكثر منه عالما ومفكرا٬ لكنه ليس مؤرخا فحسب بل أجاد أحسن الفروسية العلمية٬ أظهر فيها جليا جشم العناء والتمحيص وتطويل الأنفس الذي استهله٬ من أنه من أبناء هذه “الهوية”؛ حين استهل بها وسم موسوعته الرائعة ” المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام”.