ذات فجرٍ هبطت الآلهة من ذُرا الأولمب إلى الأرض وانبثت تلهو فكان أن صنع أحدها حيواناً ضخماً له أنفٌ طويلٌ طويل وسماه الفيل .. وصنع آخرٌ حيواناً يشبه الغزال لكنه أضخم بكثير وله عنقٌ طويلٌ طويل وسماه زرافة ، وكان من لهو الآلهة ما هو رماديٌّ وبني وأخضر و ما دبَّ وزحف وطار وما اعترش وافترش في جنبات الأرض ، وفي الفجر التالي اجتمعت الآلهة حول جلمودٍ عظيم وقال قائلٌ منهم : لنجعل هذا في أحسنِ تقويم ، فجعلوا ينحتونهُ حتى تجلى جسداً عظيماً قويماً هائلاً يملأ ما هو فيه من مكان حتى لكأنه يتقعَّرُ نحوهُ الزمان ! وسموه ” الكائن البشري ” لكن الآلهة عجزت عن نحت عيونٍ لهذا التمثال فما تحت جبهتهِ كان صلباً تكسرت عليه كل ما في يمينهم حتى مَلّوا المحاولة و تركوا صنيعتهم العمياء وانبثوا .
تصدّى التمثال الضخم الأعمى للشمس – وما عَلتهُ قط – وامتدَّ له ظلٌّ هائلٌ كالليل غشي ما غشي من الأرض ، ذبلت في رحابه الحياة ومن بين مزق الغابات ظهرت غاباتٌ أخرى عالياتٌ تناطحُ السحاب ، غاباتٌ صاخبةٌ من حجرٍ وإسمنت سكنها الظلُّ وسكنتهُ..
حارت الآلهة في أمر التمثال هل هو ثابتٌ أم هو يتحرَّك قُدماً ؟!! فالشمسُ كانت تعلو كلَّ شيءٍ دون أن تعلوه !
ومع مضي الزمن ضاقت جلُّ الآلهة ذرعاً بصخب الظل العملاق وفوضاهُ المُنظَّمة فسخَّر إله الرياح على الظل والأصل رياحهُ العاتيات فما اقتلعهُ ولا استطاع له تحطيماً وذات مساء تنزل إلهٌ آخر بالصواعق على الظل والأصل فما استطاعَ لهُ تحطيماً وذات فجر همَّ نبتون[1] يمدُّ أمواجه العاليات الجارفات لتُعمل بالتمثال صفعاً وحَتّاً فما نال التمثال من أفعالهم إلا خدوشاً سرعان ما تلاشت .. وهابت ايريس[2] بالآلهة : أن ويحكم دعوه ، انظروه كم هو جميلٌ بهي .
وزعمت أن التمثال حيٌّ ويتحرَّك ، اذ قالت: كلَّ الخلائق تتحرك في دوائر .. وإن هذا التمثال حيٌّ وهو ليس بثابتٍ ، لكن لفرطِ امتلاء المكان به باتت دائرتهُ أشبه بنقطةٍ فما بانت حركته.
وذات رحمةٍ سماوية جلست مينيرفا[3] تتأمل التمثال من فوق العنان ، وقد ساءها أن الظلَّ العملاق أثقلَ الأرض وجفف دماءها ، فحدثت نفسها قائلة ً: لعلي إذا تناولتُ ريشة ً من العنقاء الجاثمة على كتفي ، وقطفتُ ساق سنبلةٍ من تاجي ، فبرمتُ الثانية على الأولى ، و رسمتُ على وجه التمثال الأعمى الموضع الذي ينبغي أن تكون فيه المَحاجر والمُقل ، لعلي أستطيع أن أجعله يُبصر..
وهابت بأبوللو[4] أن اشدُ من ورائي وداعب قيثارتك النورانية ، حتى دنت سحابة ٌ مُضيئة ٌ هي ائتلافُ كل روحٍ حكيمٍ ، وأمطرت السحابة – حيث خطّت ريشة ُ العنقاء – حِبراً قطراً فقطراً حتى غدا التمثال بصيراً ، ومع كلِّ مرّةٍ ضربت عيناهُ فيها قطرة حِبرٍ ، تصدّعَ الجسد وشفَّ عن جوهرةٍ عظيمةٍ فيه ، فعبرهُ شُعاع الشمس قُزحاً يمدُّ في لون كلِّ ملون ٍ وشدو كلِّ شادٍ ، وعذوبة كلِّ عذبٍ ، وخضرة كلِّ أخضرَ دفّاق . ثم وثب ما كان تمثالاً إلى الأجرام والأقمار يُحييها .. حتى بات كلُّ ما حولهُ خضرة ، كبيرةٌ فيها حبات الندى ، وشربت زُرقة ٌ عجيبة ظلام الكون رشفة ً فرشفة ، حتى أضحى هذا المخلوق أشبه بسفينة ٍ تحمل ما سواها من حياةٍ إلى أجرام الكون حولها.
سقطت مينيرفا الحالمة عن العنان فأيقظتها دغدغة الهواء وما أن وطأت الأرض حتى همَّت تبحثُ عن التمثال تريد لرؤياها تحقيقاً لكنها أسرفت في الحُلم فتأخرت ، لفرط ما تكاثفت الظلال تبدد الأصل !
ليس لكِ الآن يا مينيرفا إلا أن تتمزقي تحت ثقل الظلال المُكدسة ، إنه ليلٌ ليس بعده فجرٌ جديد ، ليس بعدهُ جديد ! إنه ليلٌ نبت من الأرضِ من نهضة الظلال ! وظلام العمى لكل مُبصرٍ حولهُ هو العقبى والمآل .