لا يهمُّ كمُّ الشعارات الوطنية التي نرددها، فالواقع المعيش هو الذي يفرض نفسه في النهاية.. لطالما كانت أزمة الكثير من العرب هي أزمة هوية وانتماء.. بمعنى أن الشّاب الذي يتحمّس لهويته الوطنية التي لُقّنها تلقيناً ويشرع في ممارسة نشاطهِ الاجتماعي في نطاقها، سرعان ما يكتشف أن لا عدالة اجتماعية حقيقية، وأن المواطنة هي مفهوم ونصوص لم تخرج إلى حيّز التطبيق بعد، فيُصاب بالإحباط والصدمة، وتستغل التكتلات الطائفية والمذهبية إضافة إلى التنظيمات الرجعية هذا الأمر، فتسعى لمنحهِ انتماء وهوية تخدم مصالح القائمين عليها، وتلبي جزءاً من تطلعات ذلك الشّاب، وتصون جزءاً من حقوقه المستلبة أو المهددة. تكمن خطورة انتشار الأحزاب الحاكمة العربية البيروقراطية المترهلة البليدة التي تُهيمن على موارد البلاد وتُكرّس الشوفينية في المجتمع وتُحوّل الأحزاب الأخرى إلى أحزاب كرتونية، تكمن في أنها تُصادر خيارات الأجيال الصاعدة وتجعلها ترى أنه لا يمكن إحداث تغيير إلاّ من خلالها، ممّا يجعل البعض يلجأ إلى البديل الوحيد الذي يحظى بإمكانات مالية تتيح لهُ أن يكون فاعلاً. ومع الأسف فذلك التمويل في معظم الأحيان خارجي وتلك المنظمات ليست أصيلة بل وكيلة عميلة تدسُّ نفسها في ثوب الحضارة والموروث.
وباختصار أرى أن جزءاً من الحل يكمن في تعزيز الفكر التحليلي الذي يقوم على ثقافة الحوار والسؤال والبحث والتمحيص، وهذه الأمور هي نقيض الممارسات الخاصة بالأنظمة الشمولية الإقصائية. وفقط من خلال عدم سلب الأحزاب الكبرى للسلطة وإتاحة الفرصة للتعددية الحزبية ذات الفاعلية، يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية والمواطنة، وعند تحقق ذلك سيشعر الإنسان العربي أنه يمتلك هوية وانتماء حقيقياً متكاملاً يستحق التمسك به وصيانته في مواجهة أي انتماء آخر يتعارض مع انتمائه الوطني الأسمى.
إن الأحزاب المُتكلّسة وكل المؤسسات التي تُدار من قبلها، خاصة المؤسسات الإعلامية التي تُكرّس الواقع الذكوري الكهولي الأبوي الإقصائي فالجيل الأكبر سنّاً لا يؤمن بمقدرة الأجيال اللاحقة له على التفوق عليه في إدارة شؤونها، هذه الأحزاب هي المسؤول الرئيسي عمّا نعيشه اليوم من أزمات ناتجة عن عقول مُستلبة.
إن التبعية الفكرية وانبعاث الحركات الرجعية، وغلبة الفكر المُحنّط على الفكر التقدمي المعاصر أمورٌ تدفعنا إلى التساؤل: أين الخلل في الذهنية العربية التي تسمح بمثل تلك الأمور؟
للعقل البشري آليات عمل تتمثل بـ(المقاربة، المقارنة، الاستدلال، الاستقراء، التفاضل، التكامل الاسترجاع.. الخ) ولكن يبدو أن هناك عيوباً في الذهنية العربية التي تُغلّب التفاضل على التكامل على سبيل المثال، وعدّة عيوب أخرى لا مجال لذكرها هنا.. إن كل آليات عمل العقل التي ذكرناها تخدم ثنائية التحليل والتركيب، فالإنسان هو الكائن الحيّ الوحيد الذي يمتلك أفكاراً مركبة ومفاهيم وأيديولوجيا، ولعلّنا إذا أردنا الحديث عن استلاب العقول وما يشبه غسيل الدماغ، إذ تقوم فئة من الناس الأذكياء بترويج فكرة ما ونشرها، وهي لا تؤمن بها بالضرورة.. ويضمن انتشار مثل هذه الفكرة منح تلك الفئة نفوذاً وامتيازات ضمن نطاق اجتماعي ما. لا بدَّ لنا من الحديث بداية عن الخلل أو القصور في ثنائية التحليل والتركيب التي يمارسها العقل البشري.
وإذا أردنا الحديث عن عدم تعزيز ملكة التحليل في العقل العربي، فهناك عدة نقاط لنتناولها :
– العائلة : الطفل هو أكثر كائن فضولي نعرفه في هذا الكون والفضول يعني الكثير من الأسئلة، وطرح الأسئلة هو مفتاح تطوير الفكر التحليلي وتعزيزه، لكن لدى المجتمع الذي يكون الوالدان فيه منهمكين في تأمين متطلبات الحياة الأساسية، كثيراً ما نلحظ أنهما يتجاهلان أو يؤنّبان الطفل عندما يطرح الكثير من الأسئلة، ويطلبان منه الذهاب للّعب مع إخوته أو مشاهدة التلفاز، بمعنى إسكاته، ولأن الطفل كائن حساس يلحظ أقل تغيّر في طبقة صوت والديه إضافة إلى لغة الجسد الخاصة بهما، فهذا يولّد لديه شعوراً يترّسب في لاوعيه أيضاً أن السؤال (ذنب) ومن هنا يبدأ القصور في ملكة التحليل الذهني.
– المدرسة: إن المناهج الجديدة من شأنها أن تحدث تطوراً في ملكة التحليل لدى الأطفال لأنها تعتمد العصف الذهني والتعليم التفاعلي.. لكن ذلك رهين بتأهيل الكوادر التدريسية كي تتمكن من تفعيل ميّزات تلك المناهج .
وهنا، لابدَّ من القول بأن الأنظمة العربية والأبوية فيها تسعى لإبقاء الإنسان العربي في الحدود الدنيا من إنسانيته، بمعنى يعيش ليلبي احتياجات غرائزه لا أكثر.. لأن أي نهضة فكرية حقيقية تعني بالضرورة إزالة الأنظمة الملكية والملكية المُقنّعة.. وعشرات المسائل الأخرى التي لا تناسب أهل المال والقرار في معظم الدول العربية.