حين رفعت الحرب دُخانها واتخذت هذه العجوز التي شاخت وهي جاثمة فوق جسد الإنسانية من الأشلاء والجماجم سُبحة لها.. وتقلدت حبات الدمع عقداً على عنقها ذو الحنجرة الكهفيّة السبطانية المرعبة.. شعرتُ أن قرص الساعة انتُزِعَ عن الجدار واتسع بحجم المدينة وأصبح أرضيَّة لها وباتت عقاربه العملاقة المرعبة كرمحٍ هائلة لمجانين دونكيشوتيين .. كأن عقارب الساعة مقصٌّ هائل يُزيل من المدينة ماشاء.. يا أيتها المناجل التي تحصد ذكرياتنا ، أوابدنا ، أحلامنا ، أطفالنا في تكة واحدة .. يا أيتها الحرب القبيحة التي تتخذين منهم جميعاً تسلية تدخنينهم جميعاً وتنفثينهم جميعاً غباراً ورماداً في أفق البلاد.. ساعاتنا على الجدران فقدت ألوانها .. ملامحها كل ما فيها ، وترهلت وأضحت كدائرة المشانق.. كل الوقت بطعم الفناء.. الساعة الآن الثانية قبل منتصف الموت !! الساعة الآن الثامنة بعد منتصف الموت !! الجثة آمنة الآن.. ويمكن أن تعود الروح إليها.. لولا أن الجراثيم استفحلت في داخلها.. غلفتها بالشعارات وأخذت تقضمها تحت الشِعار. يزدحم العالم الافتراضي بالطيبين وصراخهم ، ويزدحم الواقع بالخبائث وصخبها.. والساعة على الجدار فقدت كل شيء واستحالت نفقاً كي نُهاجر.. أو طلاقيَّة كي نُعفِّشَ ونعيش.. وبعض الساعات تعرَّت وتقلصت وسقطت حبوب مخدرات في أكف المتعبين.. ضاع زمان البلاد.. مللت من رؤية تلك الطقوس طوال السنوات الماضية ، طقوسٌ كطقوس الهنود الحمر البدائيين ، بركان ينفجر وهم يقدمون بعض فلذات أكبادهم قرابيناً ويرقصون ويطبلون ويهللون. الدخان النابت من الأرض يشد خيوط النور يفكك كرة الشمس وهم يرقصون.. السماء تمطر سكاكينا.. بساتينٌ تنمو سكاكيناً سكاكينا.. وهم يرقصون .. لعل رقصة الطائر الذبيح ، سخرية الحياة من الموت.. ذلك أن طائراً آخر يكسر القشرة على ذات الأرض ليرى السماء.. ليتنا نرى السماء !! نحن نكاد نقتلع عيوننا ونضعها في جيوبنا لنواكب ونرى كم تبقى من مسافة رغيف كي لايجوع صغاراً.. بنوا سماء تحت سمائنا.. ليس فيها الله بل فيها هم ، غيومها دخان سجائرهم ودخان اطارات سيارات أبنائهم وهم (يخمسونها) في الشوارع ومطر تلك السماء خيوطٌ تخوِّلُهم اللعب بنا ، بأحلام أطفالنا ، بمصائرنا كي يملؤوا جيوبهم.. انظر الى الساعة على معصمك تراها مرآة تريك شيبك ونزف السنين من مساماتك.. قصورهم سياراتهم تزداد شباباً والرغيف هو الرغيف غدا كعجلتين لكرسي عاجز.. يحرك ذراعيه طوال الحياة كي يمسك الرغيف ويستمدَّ منه القوة للوصول إلى رغيفٍ آخر.. آهٍ ياشمس البلاد كم تشبهين الرغيف حتى غدى الشعب دموعاً وطحين يخبزنا كل ذو ذراعٍ طولى قوية ، كما يشاء.. آه يامستقبلنا يا أمانينا سامحينا سامحينا.. لا.. لاعناق .. لاتعاتبينا.. لا نجرؤ أن نبعد عن حواف الرغيف أيادينا..