منذ أن عرف الإنسان الكتابة ومهاراته تتطور بإستمرار حتى وصلت الى ما هي عليه اليوم من تقدّم خدمة للبشرية على مختلف الصعد، وستبقى تتطور الى ما لا نهاية. فالمعرفة والتطوّر العلمي وهما تراكم كمّي ونوعي للمهارات والتجارب التي أكتسبتها البشرية على مرّ العصور لن يتوقفا في محطّة ما مطلقا، بل يستمر قطارهما بالسير قُدُما كلّ ما عبر محطة من محطات العلم والمعرفة. وعندما يدور الحديث عن المعرفة والتطوّر العلمي علينا الإشارة الى العلوم جميعها كحزمة واحدة تتطور بتتطور أي حقل فيها، لتساهم في رقيّ الإنسان وتقدمّه.
تعتبر المدرسة اللبنة الأولى في التعليم، فهي البيئة التي توفّر المعرفة عن طريق مناهج دراسية تنمّي مواهب الطلبة علميا وأدبيا، وهذه البيئة أي المدرسة بحاجة الى كادر تخصصّي متمرّس في زرع المعلومة العلمية عند الطلبة. لكن المدرسة تبقى عاجزة عن إنتاج جيل قادر على مواكبة العلوم والآداب، إن لم تتوفر في مناهجها التعليمية الحيادية في عرضها وتدريسها، ويبقى الطاقم التدريسي والإداري هما من العناصر الهامّة جدا في تقدّم العملية التعليميّة وجودتها.
لقد إهتمّ الإسلام الذي يدّعي رجال الدين والأحزاب والميليشيات الإسلامية ومعهم النسبة العظمى من أبناء شعبنا الإيمان به، بالتعليم وإنتشاره. وكان طلب النبي محمّد من أسرى بدر ممّن كانوا لا يملكون مالا بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ليشتروا به حريّتهم، دلالة على إهتمامه بالتعليم بإعتباره اللبنة الأساسية لقيام الدولة التي كان يعمل على تأسيسها. وكان هذا التعليم للأولاد وقتها أشبه بأوّل مدرسة للأولاد في الإسلام.
إنّ التعليم حرب لا تقل ضراوة عن الحروب الحقيقية، ومتى ما أنتصرت دولة في حقل التعليم فأنّها لا تعرف الخسارة بعدها، كونها إستثمرت في مجال الإنسان وعقله. وهذا الإستثمار بحاجة الى إرادة سياسيّة ووطنية عالية تضع مستقبل الشعب والوطن ضمن أولوياتها، من خلال تخصيص نسبة عالية من ميزانيتها لتطوير حقول التعليم المختلفة وفي مختلف المراحل الدراسية. فهل العراق بعد عشرون عاما على وصول الإسلاميين وحلفائهم من قوى المحاصصة للسلطة قادرين على خوض هذه الحرب والإنتصار فيها..؟
تنص المادة (٣٤) اولاً من الدستور العراقي على أنّ : التعليم عامل اساس لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة، وهو الزامي في المرحلة الابتدائية، وتكفل الدولة مكافحة الامية . ثانياً : التعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله . ثالثا : تشجع الدولة البحث العلمي للاغراض السلمية بما يخدم الانسانية، وترعى التفوق والابداع والابتكار ومختلف مظاهر النبوغ. هنا يكون الإسلاميون قد بدأوا معركة التعليم، لكن على الورق وليس في المدارس والمعاهد والجامعات. وخسارتهم لهذه المعركة التي هي هزيمة ساحقة لشعبنا ووطننا تأتي من خلال فساد المؤسسات التعليمية وقلّة الأموال المخصصة للتعليم في الموازنة العامة، مقارنة بتلك المخصصة للدفاع والداخلية والحشد والأوقاف الدينية والهيئات الرئاسية وغيرها من أبواب الفساد. وبعيدا عن مقارنة الميزانية المخصصة للتعليم بالعراق مع غيره من البلدان، نعود الى ما تناولته اليونيسيف حول سوء التعليم في تقرير لها من ” أنّ العراق أنفق في السنة 2015 – 2016 ، ما يعادل 5.7 % فقط من الأنفاق الحكومي على التعليم الأمر الذي يضع البلاد أسفل السلّم بالمقارنة مع دول الشرق الأوسط في أي سنة معينّة”. ولو عرفنا مداخيل العراق المالية مقارنة مع مداخيل البلدان التي هي أعلى منّا في سلّم التعليم وجودته، نكتشف حجم الكارثة الحقيقية التي يرتكبها الأسلاميّون بحق بلدنا وشعبنا وخطرهم على مستقبلهما. أمّا لو قارنّا نسبة الأنفاق الحكومي عهدهم مع نسبته المخصصة لوزارة المعارف إبّان العهد الملكي في السنة المالية 1957 – 1958 والتي كانت 20.3 ، وهي بالحقيقة مقدار ما صرفته الوزارة لتطوير التعليم ونشره متجاوزة الميزانية المخصصة لها. فأننا نقف أمام مفارقة كبيرة وهي توجيه الأنتقادات لهذه الميزانية من قبل قادة الرأي وقتها، إذ ومع هذه الميزانية و” مع إهتمام وزارة المعارف بزيادة الأنفاق على تطوّر التعليم ومؤسساته الّا أنّها لم تسلم من كثرة الأنتقادات الموجهّة اليها من قادة الرأي في العراق، لقلّة أنفاقها على ميادين التعليم قياسا بأنفاقها على الدوائر الأمنية، ممّا يدل على عدم إكتراث الدولة في تثقيف الشعب وممارسة حقوقه الأساسية ليكون مواطنا صالحا”!! (1). أمّا في السنة المالية 1962 – 1963 فقد وصلت ميزانية التعليم الى 23% من ميزانية الدولة، ولترتفع في السنة المالية 1963 – 1964 الى 25%. (2) أعود هنا لأقول من أننا لو قارنّا ميزانية التعليم في عهد هيمنة الأسلام السياسي الأسلامي اليوم مع السنوات الأخيرة للعهد الملكي والأولى للعهد الجمهوري فأننا نكتشف حجم الجريمة التاريخية لحكّام اليوم بحق أطفالنا ومستقبلهم ومستقبل وطننا.
لنعود الآن الى الأخلاق التي ما أنفكّ الأسلاميون ورجال دينهم على وعظ شعبنا بها، وكأنّ شعبنا لم يكن يعرف الأخلاق قبلهم، علما أنّ الأخلاق عندنا تدهورت بشكل مخيف عهدهم الكارثي الذي وصل فيه الى تدمير شبه كامل للمنظومة الأخلاقية. لقد كانت الأديان منذ نشأتها لها ركيزتين أساسيتين هما العقيدة/ الإيمان والأخلاق، والأخلاق عند الأسلام والاسلاميين يدور حول الخير والشر والصالح والطالح والجيّد والسيء والحسن والقبيح والفضيلة والرذيلة. وكل ما يفيد الناس ويشذّب أخلاقهم هو خير وصالح وحَسِن وجيد وفضيلة، وكل ما يضرّ الناس وتسوء أخلاقهم بسببه هو شرّ وطالح وسيء وقبيح ورذيلة. ومفهوم الأخلاق عند الفلاسفة المسلمين يعني أستعمال العقل في تصرف الأنسان مع المفاهيم الأخلاقيّة في مجتمعاتهم، فهل الفساد على مختلف الصعد ومنه الفساد الأخلاقي اللذان أصبحا ظاهرة في العهد الأسلامي بالعراق اليوم، مقبولة عقليّا، وما هو موقف رجال الدين المتحكّمين بالشارع العراقي في دفع الناس لأستخدام عقولهم في تفسير الظواهر الأجتماعية الخطرة كضياع الأخلاق، على أعتبار أنّ الفساد هو الحاضنة الطبيعية لكل الموبقات وهو نتاج ضياع الأخلاق؟
يُعتبر فساد الخاصّة أساس لفساد العامّة في الفقه الشيعي، وفي هذا يقول الأمام علي بن أبي طالب: قوام الدين والدنيا بأربعة: عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وجواد لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه (3).
فإن كان الإمام علي يعني بالعالم رجل الدين، فلنا منهم جهلة وطائفيّون ولصوص وفاسدون ومفسدون بنسبة كبيرة، وإن كان يعني بهم أصحاب العلوم الدنيوية وهم الكفاءات التي نحتاجها لبناء بلدنا، فقد خلا العراق منهم تقريبا. أمّا جاهلنا فهو يريد أن يتعلّم، لكنّ المجالات أمامه بفعل أخلاق الحكّام وفسادهم مسدودة، أمّا الجَواد والذي يجب أن تكون الدولة محلّه فهو يسرق الفقراء والبسطاء، أمّا معروفه في بناء الوطن فهو بخيل به وسارقه، أمّا فقراء بلدنا فهم باعوا آخرتهم بدنياهم وهم ينتخبون لجهلهم عديمي الأخلاق والضمير من الفاسدين واللصوص والخونة والقتلة في كلّ إنتخابات.
إيذاء الناس ليست من أخلاق الإسلام، وفي هذا يقول النبي محمّد وقد ذُكرت له إمرأة من أنّها تُكثر من صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنّها تؤذي جيرانها بلسانها أن: هي في النار. فكيف حال ساسة العراق الأسلاميين وهم يقومون بشعائر الدين ويسرقون الناس أموالهم ويدمرّون بلدا بأكمله!؟ يبدو أنّ أهل جهنم ومنهم هذا المرأة سيثورون إن أدخل الله أسلاميي العراق الى جهنم حيث تقيم ويقيمون، وحينها سيخلق لهم أي إسلاميي العراق جهنم تليق بهم وسعيرها أضعاف أضعاف سعير جهنم االتي يتحدثّون عنها ويصفونها لنا..
لقد بدأ الإسلام بكلمة إقرأ التي قالها جبريل للنبي محمد في غار حراء “اقرأ باسم ربك الذي خلق ” ، وشعبنا اليوم بين أمّي ونصف أمّي وشبه أمّي. وآخر كلمة قالها النبي محمد في خطبة رسميّة وكانت خطبة الوداع هي الأخلاق إذ قال ” إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”. واليوم ونحن نعيش العهد الأسلامي الأسود وعهد الأنحطاط الأخلاقي ثلاثي الأبعاد، فمن حقنا أن نسأل القوم عن أسلامهم بعد أن تبخّرت كلمة إقرأ وتلاشت الأخلاق بفضل فتاوى الدين وقوانين العشيرة.
تمام الإخلاص إجتناب المعاصي (النبي محمّد) .. وزوال الأخلاق الذي يُنْتِج الفساد هو وعاء المعاصي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موازنة وزارة المعارف في العهد الجمهوري دراسة في آثارها التنموية ١٩٥٨-١٩٦٨ــ مـجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية المجلد ٤ /العدد ٣ ص 121.