قطار ولاية الفقيه وصل حدود النجف الأشرف
زكي رضا
التطور الأجتماعي والإقتصادي والثقافي الذي تشوّه وتوقّف بشكل شبه كامل بالعراق منذ بداية الحرب العراقية الإيرانيّة وأستمرّ بالإنحدار طيلة فترتي الحصار والحروب التي خاضها البعث، لم يستعيد عافيته بعد تغيّر المشهد السياسي نتيجة الأحتلال، بل أستمر يتوسع أفقيّا وعموديّا بشكل لا عقلاني لينتج ثقافة غيبية ماضويّة مدمرّة تركت آثارها على مختلف جوانب الحياة بالبلاد وعلى رأسها الإقتصادية والإجتماعيّة. أنّ التطور ( الإجتماعي- الإقتصادي- الثقافي ) وهو المسؤول عن نقل المجتمع من وضع لآخر بحاجة الى دولة مؤسسات توفر بيئة سياسيّة تفتح مجالات رحبة لتطور الفكر الإنساني من خلال نظم تعليم لا علاقة لها بالدين، أي وبمعنى آخر فصل التعليم بإعتباره اللبنة الأساس في بناء المجتمعات عن الدين كليّا، وبهذا الفصل إنتقلت أوربا الى عالم العقل والفكر بدايات القرن التاسع عشر بعد أن حرّرت مؤسسات إنتاج الفكر من هيمنة الكنيسة، وتحرّرها هذا هو من أوصل بلدانها وشعوبها لما تعيشه اليوم من تطوّر على مختلف الأصعدة، ونحن بحاجة اليوم بالعراق الى تحرير مؤسسات أنتاج الفكر من الهيمنة الدينية كما اوربا قبل اكثر من قرنين.
لقد راهن الكثيرون على تغيير المشهد السياسي من خلال التيّار الصدري، وبشكل أدّق مقتدى الصدر كشخص فرد زعيم. على الرغم من أنّ التغيير بحاجة الى مناخ سياسي يشارك فيه جميع العراقيين بوعي وليس بطاعة، ومن خلال مراقبة الصدر وتيّاره على مدى العقدين الماضيين، نستطيع الإشارة الى فشل المراهنين على الصدر ومشروعه وجماهيره التي تعيش في منطقة اللاوعي ، والذي هو بالحقيقة أي اللاوعي هو السمة الممّيزة لقطّاعات واسعة من الشعب العراقي اليوم وهو يرزح تحت ثقل الدين/ الطائفة.
العراق اليوم بحاجة الى قوى سياسية تطرح بدائل واقعيّة لتغيير اللوحة السياسية، وليس الى قوى تنتقد الواقع السياسي برفع شعارات أو بفعل سياسي غير مستمر وغير منظّم. إننا بحاجة اليوم الى مشروع دولة مؤسسات حقيقيّة، دولة علمانيّة ديموقراطية لا تفصل الدين عن الدولة فقط بل تستمر في نفس المشروع لإبعاد المؤسسة الدينيّة عن التدخل بالشأن السياسي بالكامل، لماذا..؟
بعد الأحداث الأخيرة ولعب الصدر على حبال السيرك السياسي العراقي كعادته، وصلت فقرات هذا السيرك الى نهايتها التي كان الكثيرون يُغمضون عيونهم عن مشاهدتها، إمّا هروبا للأمام، وإمّا سذاجة سياسيّة غريبة فعلا!! لقد أنهى الصدر مشروع الإصلاح الذي كان يتاجر به وأعتزل السياسة مرّة أخرى، لكنّه هذه المرّة لم يأمر أتباعه بالإنسحاب من مناطق تواجدهم فقط بل حرّم عليهم حتّى الإعتصامات والتظاهرات المطلبيّة، ونفّذ أتباعه قراره هذا على وجه السرعة!! لكنّ خطورة الأمر لا تأتي من نزواته هذه المرّة، ولا من إنسحاب أتباعه ومناصريه بأوامر منه ليسقط مشروعه بإلإصلاح والتغيير في مستقع الفساد الذي أدّعى العمل على ردمه، بل من خطورة المشروع الإيراني الذي بدت ملامحه تتوضح أكثر فأكثر بعد بيان المرجع الشيعي كاظم الحائري من قم بإيران إعتزال العمل المرجعي، والطلب من مقلّديه تقليد ولي الفقيه والزعيم الإيراني علي خامنائي.
لقد تأسّست المرجعية الشيعية بعد وفاة السفراء الأربعة للإمام الغائب وفق المذهب الشيعي في بغداد العبّاسية سنة 1022- 1023 على يد الشيخ المفيد، وإنتقلت من بغداد الى النجف بعد وفاته. وفي سنة 1055-1056 ولإبعاد المراجع الدينية الشيعية عن خطر الفتنة بعد الصراع بين البويهيين الشيعة الزيدية والسلاجقة الشافعيين الأشاعرة، أعاد محمّد بن الحسن الطوسي المعروف بـ ” شيخ الطائفة” تأسيس المرجعيّة الشيعية في مدينة النجف، لتصبح المدينة مركزا دينيا يدرّس الفقه الإمامي، يأتيها طلبة العلوم الدينية من مختلف مناطق تواجد الشيعة ومنهم شيعة إيران لعدم وجود حوزة دينية فيها وقتها.
وأستمرّت النجف في موقعها الريادي دون منافسة لما يقارب 850 عاما، حتى أسّس الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي حوزة دينيّة في مدينة قُم الإيرانيّة. وقد مالت حوزة قُم نحو السياسة أكثر بكثير من حوزة النجف التي إستمرّت بالتدريس والتنوير الديني، مكتفيّة بنصائحها السياسية كلمّا أستدعى الأمر. الّا أنّ ما ميّز حوزة قُم عن حوزة النجف بشكل كبير بدأ مع الثورة الإيرانية في العام 1979 ، وتجذّر أكثر بعد إندلاع الحرب العراقية الإيرانية والقمع المنظّم للشيعة من قبل النظام البعثي، وصمت مراجع الشيعة تقيّة وقتها. كما وأستغلّت الحكومة الإيرانيّة شيعة العراق المهاجرين والمهجرّين اليها في جرّهم الى مواقعها السياسيّة في خطوة ذكيّة ستجني منها الكثير لاحقا، من خلال تسويق مبدأ ولاية الفقيه بمنظور الخميني وليس بمنظور بعض مراجع الشيعة ومنهم السيستاني، أي بمنظور حوزة قُم وليس حوزة النجف.
لقد عملت إيران ومنذ الإحتلال الأمريكي للبلاد لليوم، بل وحتى قبله على كسر هيمنة النجف كمركز علمي ديني لصالح قُم، ليس من أجل الدراسات الدينية والحوزية، بل من اجل الهيمنة على مقدرّات العراق وشعبه من خلال الولائيين المؤمنين بولاية الفقيه بنسخة الخميني. وفي هذه الحالة فأنّ إيران بحاجة الى قوى سياسيّة تؤمن بمشروعها السياسي الطائفي، والى مقلدّين شيعة لرجال دين من خارج النجف، أي من قُم تحديدا.
لقد عمل الإيرانيون على هدفهم هذا بهدوء وصبر كبيرين مع مراقبتهم المستمرة للأوضاع السياسية بالعراق كي لا تخرج عن السيطرة، ما يهدّد وضعهم الجيوسياسي كقادة لشيعة العالم وهم في حالة حصار وصراع مع القوى الغربية والإقليمية. وكانت الأحزاب والمنظمات الشيعية أحدى أدواتها لتصعيد المواقف السياسية كلمّا أحتاجت لذلك، الا أنّ الأمر المهم عندها هو أن تؤمن جماهير الشيعة بمبدأ ولاية الفقيه، خصوصا وأنّ مراجع الشيعة الثلاث في النجف وفي مقدمتهم السيستاني يعيشون الأيام الاخيرة من حياتهم لتقدمّهم في السن.
يعتبر المرجع الشيعي كاظم الحائري الأب الروحي لمقتدى الصدر وتيّاره، وقد أثار في قرار إعتزاله المفاجيء والغريب عن المراجع الشيعية الذين سبقوه، عددا من الأسئلة عن التوقيت والظروف السياسية المحيطة بقراره هذا ومنها وصاياه لمقلديه وأهمّها تقليدهم لولي الفقيه علي خامنئي ليقول بواجب “إطاعة الولي قائد الثورة الإسلامية علي الخامنئي”، مشيرا إلى أنه “الأجدر والأكفأ على قيادة الامة وإدارة الصراع مع قوى الظلم والاستكبار في هذه الظروف التي تكالبت فيها قوى الكفر والشر ضد الإسلام المحمدي الأصيل”، كما وأوصى الصدريين قائلا “على أبناء الشهيدين الصدرين (قدّس الله سرّهما) أن يعرفوا أنّ حبّ الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح والاتباع الحقيقيّ لأهدافهما التي ضحّيا بنفسيهما من أجلها، ولا يكفي مجرّد الادعاء أو الانتساب، ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين (رضوان الله تعالى عليهما)، أو يتصدّى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعيّة فهو – في الحقيقة- ليس صدريّاً مهما ادعى أو انتسب”، وكتكريس للميليشيات المسلّحة ودورها في التدخلات الإيرانيّة بالشأن العراقي وقمعها لأي حراك سلمي من القوى المتضررة من سياسات المحاصصة مستقبلا قال ” اُوصي جميع المؤمنين بحشدنا المقدّس ولابدّ من دعمه وتأييده كقوّة مستقلّة غير مدمجة في سائر القوى، فأنّه الحصن
الحصين واليد الضاربة والقوّة القاهرة للمتربّصين بأمن البلاد ومصالح أهلها إلى جانب باقي القوّات المسلّحة العراقيّة، كما بيّنّا ذلك وأكّدناه مراراً”، وهذا يعني علنا منح الحشد بتشكيلاته الميليشياوية الفتوى لتكون اليد الضاربة لضرب كل من يتظاهر ضد الفساد، بعد أن حرّم مقتدى الصدر التظاهر السلمي على مريده!! وعودة على الأسئلة التي طرحها إعتزال الحائري من التي تناولناها أعلاه، فأنّ الجواب الوحيد هو العمل على تهيئة الرأي العام العراقي على قبول وصاية إيران على العراق من خلال مبدأ ولاية الفقيه، وهذا ما فعله مقتدى الصدر من خلال أباه الروحي، وسينفذه الإطار الشيعي وميليشياته تحت مسمى الحشد الشعبي.
من المصادفات التاريخية هو تأسيس الحوزة الدينية في قُم على يد المرجع عبد الكريم الحائري اليزدي كمنافس لموقع النجف الديني، و نقل الثقل الحوزي بالكامل من النجف الى قُم عن طريق المرجع كاظم الحائري اليزدي ووصاياه لأتباعه ومنهم الصدر نفسه بقبول مبدأ ولاية الفقية.. وبهذا يكون قطار الولاية وصل النجف، ليصبح الجنوب الشيعي على الأقل ولاية إيرانية.