الحراك الإجتماعي ليس ردّ فعل “عفوي” على سوء أوضاع إقتصادية وسياسية وإجتماعية في مجتمع ما فقط، بل هو بداية لمحاولة إعادة إصطفاف للقوى الإجتماعية المتضررة لتنظيم نفسها وتطوير أساليب نضالها من أجل مجتمع أكثر عدلا وحريّة. وما يُعرف بالحركات الإجتماعية الجديدة إنطلقت في فرنسا عام 1968 بما يُعرف بأحداث مايو/ آيار التي أجبرت شارل ديغول على الهروب من البلاد وقتها، وقد رافق تلك الإحتجاجات نشاطات شبابية عديدة كأنتشار الأغاني الثورية ومعارض الرسوم في الهواء الطلق وتنظيم شعارات تتواءم والوضع السياسي الإجتماعي وقتها، وما لبثت أن إنتقلت تلك الإحتجاجات الى مختلف بلدان العالم. ومن الجدير بالذكر أنّ أحداث مايو/ آيار تلك بدأت بمظاهرات طلابية قمعتها الشرطة الفرنسية بإستخدام القوّة المفرطة، ما دفع نقابات العمّال الى التظاهر مع الطلبة لتستمر التظاهرات بقوّة أشّد. وبغضّ النظر عن المآل التي آلت اليه تلك الحركة، الا أنّها كانت البداية لتغييرات إجتماعية جوهرية وقيام مفاهيم اكثر ثورية لمبادئ العدالة الإجتماعية في فرنسا على الرغم من فشلها في التغيير السياسي المنشود.
لقد لعب الطلبة دورا بارزا في حياة شعوبهم وأوطانهم في المنعطفات السياسية وأثناء الأزمات الإقتصادية والإجتماعية من خلال مشاركتهم الإحتجاجات الشعبية ضد الظلم والإضطهاد والفقر والتمييز، ومن أجل حلول منطقية ومقبولة لتلك الأزمات. فإقرار قانون الحقوق المدنية في امريكا مثلا، بدأها أربعة طلاب سود رفضوا مغادرة طاولة الغذاء الذي كان يُحرّم جلوس السود الى البيض في مطعم كليّة وولوورث في ولاية كارولينا الشمالية المعروفة بتاريخها العنصري تجاه السود والملونين، وقد شكّل هؤلاء الطلبة والذين أطلق عليهم لاحقا (شباب غرينسبورو الأربع) لجنة تحت إسم (لجنة تنسيق الطلاب السلمية)، والتي كانت سببا رئيسيا بنضالها الدؤوب في إنهاء الفصل العنصري بالولايات المتحدة الأمريكية.
لقد قاد الطلبة في جنوب افريقيا منذ العام 1970 – 1980 إنتفاضات وإعتصامات وتظاهرات طلابيّة جوبهت بالعنف الشديد الّا أنّها أفضت في النهاية الى وضع حد لنظام الفصل العنصري هناك أيضا، وتبقى ما يطلق عليها (الثورة المخملية) في براغ والتي قادها الطلبة بشكل سلمي كامل حتى بعد مواجهة قوات مكافحة الشغب لهم، من اكثر التجارب الطلّابية نجاحا في تغيير نظام سياسي ناهيك عن التغييرات إلاجتماعية التي رافقت ذلك التغيير، وفي ربيع الطلبة الچيكي يقول الكاتب البريطاني تيموثي جاردن إنها “لم تكن ثورة عادية، كانت سريعة وغير عنيفة تماماً، وسعيدة، ومرحة، وواحدة من الثورات مكتملة النجاح التي قادتها حركة طلابية في التاريخ الحديث”.
لم يختلف طلبة العراق عن غيرهم في العالم وهم يتقدمون صفوف قوى التغيير في مجتمعهم، بل يُمكن القول وبثقة من أنّهم تصدّروا نضالات شعبنا حتى أثناء الفترة العثمانية، عندما إنطلقت نشاطاتهم الطلابية عهد الوالي داوود باشا إثر إفتتاح مدرسة الصنائع عام 1896 . ومع بداية تأسيس الدولة العراقية كان للطلبة دورا كبيرا في الحياة السياسية العراقية وإن بشكل غير منظّم، فكان إضراب طلاب الإعدادية المركزية ببغداد عام 1926 باكورة إضرابات وتظاهرات وتنظيمات وإنتفاضات ووثبات طلابية، كان لها الأثر البليغ في تعزيز مواقع الطلبة في الحراك السياسي الإجتماعي العراقي حتّى العام 1967 . ففي شباط من العام 1928 ساهم طلبة بغداد بفعالية كبيرة في تظاهرات وإحتجاجات ضد زيارة الصهيوني البريطاني الفريد موند التي نظمّها نادي التضامن، والذي كان قد قاد تظاهرة كبيرة في العام الذي قبله من أجل حريّة الصحافة. وإستمرّت التظاهرات والإضرابات الطلّابية في ثلاثينيات القرن الماضي تأييدا لمطالب الحركة الوطنية العراقية التي بدأت ملامحها تتضّح من خلال تأسيس أحزاب سياسية. وفي العام 1948 ساهم الطلبة في وثبة كانون وقدّموا عددا من الشهداء في سبيلها وسبيل تطلعّات شعبنا، ما أجبر السلطات حينها على الغاء معاهدة بورتسموث.
وأستمر النشاط الطلّابي بشكل مضطرد وأكثر تنظيميا بعد تأسيس أوّل تنظيم طلّابي وهو الإتحاد العام لطلبة العراق في العام 1948 إثر إنعقاد مؤتمره الأوّل في ساحة السباع ببغداد، وكان قد سبقه في خريف العام 1945 تشكيل التنظيم الطلّابي لطلبة دار المعلمين العالية. وفي العام 1952 تفجّرت إنتفاضة شعبنا بشرارة إضراب كليّة الصيدلة والتي ما لبث طلاب بقية الكليات والثانويات بالإنضمام اليها، ليسطرّوا وقتها ملحمة ثورية هزّت أركان السلطة الرجعية ما أجبرها على إنزال الجيش للشوارع لمواجهة الأقلام العراقية الشابّة المؤمنة بقضية شعبها ووطنها. وفي العام 1956 وبعد العدوان الثلاثي على مصر ساهم طلبة العراق مساهمة فعّالة في إنتفاضة عام 1956 . ويُعتبر عام 1967 آخر نشاط طلّابي ثوري منظّم بعد أن فازت قائمة إتحاد الطلبة العام بنسبة ثمانين بالمئة من أصوات الطلبة في الإنتخابات الطلابية، ما زرع الرعب في صفوف السلطة القمعية ودفعها لإلغاء الإنتخابات وملاحقة الطلبة الناشطين. أمّا في عهد البعث فأنّ الحركة الطلابية شهدت تراجعا كبيرا بسبب رفض البعث أي نشاط طلابي وحصره بإتحاده الطلابي المسخ.
إستمر غياب ذوي الياقات البيض عن الساحة السياسية الإجتماعية بعد غيابهم الإجباري حتى تشرين عام 2019 ، حينما كانت إنتفاضة شعبنا البطلة تسطّر المآثر وهي تواجه القنابل الدخّانية ورصاص قناصّي ولي الفقيه وعملاءه بصدور عارية ولتقدم في سبيل تطلعات شعبنا وخلاصه من سلطة المحاصصة الطائفية القومية مئات الشهداء والجرحى والمعاقين. حينها خرج سيل الطلبة الهادر لإعطاء زخم أكبر لإنتفاضة تشرين ومتذكرا الأجيال التي سبقته وهم يخوضون سوح النضال الوطني بلا هوادة، وكانت أيّام خروجهم عرسا وطنيا وأملا في غد أجمل لعراقنا وشعبنا، وبنفس الوقت كانوا كابوسا يجثم على صدور السلطة وميليشياتها.
لفترات طويلة كان هناك تنسيق بين إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية وإتحاد طلبة كوردستان في مواجهة إتحاد السلطة البعثية الطلابي، واليوم وعلى الرغم من عدم مشاركة الطلبة الكورد بشكل فاعل في تظاهرات زملائهم الطلبة أثناء إنتفاضة تشرين الباسلة، فأنّ الوقوف الى جانب طلبة كوردستان العراق وهم يواجهون قمع السلطة العائلية الطالبانية هو جزء من نضال الطلبة العراقيين، خصوصا وأنّ الطلبة وجماهير شعبنا الكوردي يعانون كما يعاني الطلبة وجماهير شعبنا في كل ارجاء العراق من فساد وقمع وفقر وبطالة. على طلبة العراق وكردستان العراق أن يعملوا اليوم على تشكيل لجان تنسيق سلمية تمتد الى كل مدن وأقضية العراق وكوردستان العراق للتشاور المستمر، من أجل توحيد الخطاب المطلبي وتحويله الى مطالب سياسية تبدأ وتنتهي بقبر نظام المحاصصة الطائفية القومية الفاسد والمجرم.
أنّ التغيير المنشود للأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية أكبر بكثير ممّا تتحمله الحركة الإحتجاجية الطلابية لوحدها، لذا فعليهم علاوة على التنسيق فيما بينهم على مستوى البلاد بأكملها، فتح قنوات إتصال مع القوى الديموقراطية الوطنية والكوردستانية صاحبة المصلحة الحقيقية والبرامج السياسية القادرة على إنقاذ البلاد من وحش سلطات الفساد في الإقليم والعراق بشكل عام. أنّ مهمّة إنقاذ وطننا وشعبنا هي من مهام الفئات الإجتماعية الأكثر وعيا في المجتمع، والطلبة هم رأس حربة هذه الفئات كونها أكثرها وعيا، بعد إنحسار دور العمال والفلاحين نتيجة إنهيار منظماتهم النقابية، وهيمنة حكم الطوائف والعوائل على القرار السياسي العراقي والكوردستاني، ومصادرة الوعي من قبل المؤسسات والأحزاب الدينية.
“الديمقراطية ليست استفتاءً بالأغلبية.. لو استفتى الأمريكيون لظل السود عبيدًا” . مارتين لوثر كينغ