الهولوكست الفلسطيني
زكي رضا
بغضّ النظر عن أرقام ضحايا الهولوكست اليهودي أثناء الحرب العالمية الثانية على يد النازييّن وتشكيك آخرين بها، فأنّ الهولوكوست حقيقة ثابتة لا يمكن نكرانها كجريمة كبرى وإن كان ضحاياه بضع عشرات أو بضع مئات حتّى. ولم يقتصر الهولوكوست في ألمانيا النازية أو البلدان التي وقعت تحت الأحتلال الألماني على اليهود فقط، بل طالت كذلك الغجر الذين قتل منهم وفق بعض المؤرخين ما بين 220 – 500 الف انسان، ففي الثالث من آب/ أغسطس 1944 على سبيل المثال تمّ أقتياد ثلاثة آلاف غجري بينهم عدد كبير من الأطفال الى غرف الغاز في معتقل اوشفيتز بيركيناو وتصفيتهم. كما تم قتل ما يقارب الثلاثة ملايين بولندي غير يهودي، بأعتبارهم أي البولنديين وهم من الشعوب السلافية من الأعراق الدنيا مقارنة بالشعوب المتفوقة عرقيا كالجرمان.
الهولوكوست كلمة يونانية من مقطعين (hólos) وتعني الكل و (kaustós) وتعني محروق، وتكتب ككلمة واحدة (holókaustos)، وهي (Der Holocaust) بالألمانية، أمّا في اللغة العبرية فتعرف بأسم (شوأه) وتلفظ بالحروف العبرية (هشوآء ) وتعني الكارثة. وبالمحصلّة فهي شكل من أشكال الأبادة الجماعية. وتعريف الأبادة الجماعية مثلما جاء في معجم المعاني الجامع هو (محاولة القضاء على شعب أو طائفة) و (قتل منظَّم لجماعة عِرقيَّة لشعبٍ ما).
الإبادة الجماعية مصطلح سياسي ظهر في العام 1944 على يد محام يهودي بولندي يدعى (رافائيل ليمكين) تحت مسمى (genocide)، وهي جمع بين كلمة يونانية (geno) وتعني سلالة أو عرق أو قبيلة و أخرى لاتينية (cide) وتعني القتل. وعلى الرغم من أنّ المصطلح جاء لوصف الإبادة الجماعية لليهود في العهد النازي، الا أن التاريخ الحديث يشير الى حدوث إبادة جماعية في العصر الحديث قبل هذا التاريخ نظمّها الأتراك المسلمين بحق الأرمن المسيحيين الذين قتل منهم في السنوات (1915 – 1916) ما يقارب الـ 650.000 أنسان، وفي أحصائيات أخرى ما يقارب من 1.2 مليون أنسان، لأسباب دينية. ما دمنا نتحدث عن الأبادة الجماعية في العصر الحديث، فعلينا ذكر عمليات الأبادة بحق قبيلة التوتسي على يد قبيلة الهوتو في رواندا والتي ذهب ضحيتها 800.000 أنسان خلال 100 يوم فقط في العام 1994 ، وما جرى في العراق خلال عمليات الأنفال التي ذهب ضحيتها ما يقارب الـ 180.000 أنسان كوردي وتدمير خمسة آلاف قرية في كوردستان العراق، وعمليات إبادة ما يقارب الثلاثة عشر الف كوردي فيلي وتهجير مئات الآلاف منهم على يد البعثيين الفاشيين لأسباب قومية عنصرية، وإبادة الأيزيديين على يد تنظيم داعش الأرهابي لأسباب دينية.
تاريخيا تعتبر إبادة الهنود الحمر احدى أكبر عمليات الأبادة الجماعية بحق شعب في التاريخ، إذ لم يتبقى الا القليل منهم بعد أن قُتلوا بشكل ممنهج من قبل الغزاة الأوربيين والأمريكان لاحقا. فبعض المتخصصين يشيرون في بعض الدراسات الى وجود ما يقارب الخمسة عشر مليون هندي أحمر في امريكا الشمالية، الذين ما أن وضع الأوربيين أقدامهم فيها، حتى وصلت أعدادهم بعد المجازر الوحشية والمجاعات والأوبئة التي عانوا منها الى أقلّ من 250.000 أنسان في نهاية القرن التاسع عشر. الأبادة الجماعية هذه كانت مقصودة لأفراغ الأرض منهم، وبهذا الصدد يقول كلاوس كونور، الأستاذ بجامعة برينستون، من أنّ الإنجليز “هم أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة للأبادات الجماعية، فهدفهم في العالم الجديد كأستراليا ونيوزيلاندا وكثير من المناطق التي يجتاحونها هو إفراغ الأرض من أهلها وتملّكها ووضع اليد على ثرواتها”.
الهولوكوست، الجينوسايد، الإبادة الجماعية أو أي مصطلح قد يأتي لاحقا، لا يخرج عن دائرة محاولة القضاء على شعب ما جزئيا إن لم يكن كلّيا، بدوافع عنصرية أو دينية أو طائفيّة، ولم يخلو التاريخ البشري لليوم من حروب أدّت وستؤدي الى أبادات جماعية مستقبلا. فالتمييز القومي والديني، وتقسيم البشر الى درجات طبقا للعرق وتفوّقه والدين وأحقيّته والمذهب وصحتّه والثقافة والأختلاف معها، وبشكل عام أعتبار مجموعة بشرية أقلّ شأنا من أخرى تمتلك السلطة ووسائل العنف، تؤدي الى تصادم بين هذه المجموعات ما يؤدي الى حرب والتي تمّهد الطريق الى الأبادة الجماعية.
لقد تعرّض اليهود لمضايقات وحتّى أضطهاد وقتل كأقلّية دينية في مراحل تأريخية مختلفة تمتد لقرون، فأفراغ الجزيرة العربية منهم وأستئصالهم بعد معارك دامية على سبيل المثال، شكل من أشكال الأبادة الجماعية، وعلى الرغم من محاولة ربط تلك الأبادة بعوامل سياسية وقتها كعدم ألتزام اليهود بالتحالفات التي أبرمها المسلمون مع مختلف القبائل، الا أنها تبقى سياسة تطهير ديني وأبادة جماعية. أمّا في أوربا فلم تظهر معاداة السامية وهو مصطلح حديث أطلقه صحفي الماني يدعى فيلهلم مار عام 1879 في وصفه لكراهية ومعاداة اليهود أثناء الحكم النازي لألمانيا، بل يعود لفترات سبقت النازية بقرون. فقد عاملت محاكم التفتيش في القرون الوسطى بأوربا اليهود معاملة قاسية جدا، فأجبار اليهود على وضع شارة صفراء على ملابسهم في المانيا النازية على سبيل المثال موروثة من القرون الوسطى لتمييزهم عن المسيحيين في اوربا وأحتقارهم، وليست تمييزا نازيّا لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية.
قبل صدور وعد بلفور بأقامة وطن قومي لليهود في فلسطين العام 1917 ، كان عدد اليهود الأوربيين الذي وصلوا فلسطين قد وصل الى 100.000 مهاجر تقريبا، وهذا ما دفع الأوربيين الى الأعتقاد بأمكانية التعايش بين الطرفين من جهة، وأفراغ أوربا من اليهود من جهة ثانية وهذا كان الأهم من جانبهم، لكن الحقيقة كانت غير ذلك كليّا. ففي أواخر آب/ أغسطس 1929 أنتفض الفلسطينيون الرافضين للهجرة اليهودية المكثّفة، بما سميّ بـ “هبّة البراق” والذي ذهب ضحيتها المئات من الطرفين. وبعد بضع سنوات ويأس الفلسطينيين من تغيير بريطانيا سياساتها ومواقفها الداعمة لليهود بأقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وتمسّكهم بالوعد الذي قطعه وزير خارجيتها بلفور، أندلعت ثورة أستمرت سنوات 1936 – 1939 ، والتي تفجّرت بداية في حيفا سنة 1935 إثر أغتيال الشيخ عزّالدين القسام، وتلاها الأضراب العام في نيسان/ أبريل 1936 .
لقد بدأ الهولوكوست اليهودي بشكل منظّم ومخطط له، بعد أن حشر النازيّون مئات الآلاف من المدنيين اليهود ومن مختلف الأعمار، في مجمّعات سكانيّة “غيتوات” منتخبة بعناية وعلى مساحات جغرافيّة ضيّقة. وكان كل ما يجري في هذه المجمّعات يراقب بشكل دقيق من قبل الأجهزة المخابراتية النازيّة، وحتى الماء والطعام كان يخضع للتقنين من قبل النازيين.
على الرغم من حشر اليهود في الغيتوات، الّا أنّهم أستخدموا حقّهم في النضال والكفاح المسلّح ليتحرروا من الهيمنة النازية العنصرية التي لم تكن تعاملهم كبشر. وبعد أنتشار أخبار عن ترحيل اليهود من الحي اليهودي في بوار صوفيا الى معسكر للإبادة بتريبلينكا في نيسان/ أبريل 1943 ، أندلعت أنتفاضة مسلّحة في ذلك الغيتو، و دمّر النازيّون الغيتو وقتلوا أعداداً كبيرة من المنتفضين وغير المنتفضين، وعلى الرغم من القسوة البالغة للنازيين وميزان القوى الذي كان بجانبهم، الا أن الأنتفاضة وهي حق وشكل من أشكال النضال، أنتقلت الى غيتوات يهودية غيرها كـ (فيلنا) و (بيالستوك) وغيرهما، والتي ووجهت بنفس العنف والدمار. فهل كان اليهود وهم ينتفضون ضد النازيين ويُقتلون، أرهابيين..!؟
يعتبر قطّاع غزّة من أكبر الغيتوات في العالم، فعلى مساحة 365 كم مربع يعيش أكثر من مليوني أنسان تحت حصار أسرائيلي برّا وبحرا وجوّا، وهو أشبه بحصار النازيين للغيتوات اليهودية أثناء الحرب العالمية الثانية.
الشيء الوحيد الذي لم يفعله نازيّو أسرائيل ورثة عصابات الهاغاناه والإرغون هو أجبار الفلسطينيين في الغيتو على لبس شارة تميّزهم، والسبب هو عدم السماح لهم بالخروج من الغيتو الا بتصريح من الجيش الأسرائيلي وليس أمر آخر. وتشّن القوات الأسرائيلية بين الحين والآخر هجمات دمويّة على غيتو غزّة، وتدمّر المباني والمدارس والمستشفيات على رؤوس الفلسطينيين، في مشاهد من القسوة تذكّرنا بالقسوة النازيّة خلال الحرب العالمية الثانية.
بغضّ النظر عن أتفاقنا أو أختلافنا مع حماس أو غيرها من المنظمات الفلسطينية بل وحتى السلطة الفلسطينية، فأننا يجب أن نتفق على حق الفلسطينيين بالمقاومة، كما قاوم اليهود النازيين. أنّ ما جرى ويجري في غزّة ليس وليد اليوم، بل وليد تراكمات من القهر والأذلال والتهميش والأستفزاز المستمر من قبل الجيش والمستوطنين، الذي يعيشون في مستوطنات أقيمت أصلا على أراض صادرتها قوات الأحتلال الأسرائيلي. لقد رفضت أسرائيل لليوم تطبيق جميع الأتفاقات المبرمة مع الفلسطينيين، سواء تلك التي كانت برعاية الأمم المتحدة، أو برعاية الولايات المتحدة بالتعاون مع بعض الدول العربية.
لقد دانت دول العالم أجمع تقريبا الهولوكوست اليهودي، ولا زال الهولوكوست والفضائع التي حصلت أثناء الحكم النازي، هدفا لصانعي السياسة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لخلق بيئة مدافعة عن أسرائيل. وبهذا الخصوص أقيم التحالف الدولي لحفظ ذكرى الهولوكوست IHRA في العاصمة السويدية ستوكهولم والمعروف بأسم “أعلان ستوكهولم 2000″، لأجراء أبحاث ودراسات حوله من قبل أهم المعاهد العالمية المتخصصة وبدعم دولي، لغرض عدم تكرار الأمر ثانية مستقبلا. وبهذا الصدد تقول كاترين ماير السكرتيرة التنفيذية لـ IHRA ، “لقد حدث ذلك مرة، وكان يجب ألا يحدث، ولكنه حدث فعلا، يجب الا يحدث مرّة أخرى ولكن هذا ممكن ومحتمل وهذا ما يجعل تدريس الهولوكوست مهمة أساسية”، وهناك كتيب من أربع وستون صفحة تحت عنوان “نصائح حول تدريس ودراسة الهولوكوست” يتناول طريقة التدريس وأساليبه والغرض منه . وتؤكّد كاترين ماير في مقدمة الكتيب قائلة “أنّ معاهد ومؤسسات شتى في جميع الدول الأعضاء في التحالف بما فيها منظماتنا الدولية الشريكة، تعمل بلا كلل لتدريس الطلاب وتدريب المدرسين والمربيين وبفضل هذه المؤسسات أصبح في الدول الأعضاء وسواها تشكيلة من المراجع التعليمية العالية الجودة، وبفضل مندوبينا يسرني أن أقدم نيابة عن التحالف هذه النصائح لتعليم ودراسة الهولوكوست تكملة لهذه المراجع. ومن دواعي سروري أيضا صدور هذا الكتيب بمشاركة اليونسكو على أمل دعم المنظمات الأخرى لما تبذله من جهد لتعميمه ونشره، علما بأن هذه النصائح تمثل مكسبا لجميع خبرائنا والذين أشكرهم فردا فردا لما يقدمونه من خبرة وتفكير”!!!
أن تقوم الولايات المتحدة وبريطانيا والغرب بأكمله، بأقامة تحالف من أجل أجراء أبحاث ودراسات حول الهولوكوست الفلسطيني أمر لن يحدث مطلقا، لأزدواجية المعايير ليس في تعاملهم مع الفلسطينيين فقط، بل وفي تعاملهم مع جميع القضايا التي تهدد مصالحهم وهيمنتهم ونهبهم لدول وشعوب العالم.
على الدول العربية والأسلامية، أن تعترف بالهولوكوست اليهودي والا تشكك بحدوثه. لكنهم في نفس الوقت أمام مهمة تشكيل لجان متخصصة لدراسة الهولوكوست الفلسطيني من قبل متخصصين، ودعوة دول تتعاطف مع قضية الشعب الفلسطيني العادلة للمساهمة في المهمة. كما وعلى الدول العربية والأسلامية أستخدام نفوذها وأصدقائها للضغط على اليونسكو لدعم مثل هكذا مشروع وعلى غرار دعمها للمشروع الآنف الذكر، أي أعلان من أجل حفظ الهولوكوست الفلسطيني في ذاكرة الأجيال. وعلى الدول العربية والأسلامية أعتماد مادة تحت عنوان الهولوكوست الفلسطيني في المناهج الدراسية، معزّز بالصور والأفلام ليكون الطلبة على دراية كاملة بممارسات أسرائيل النازيّة تجاه الفلسطينيين.
سياسيا ولأستتباب الأمن والسلام والتقدم في منطقة الشرق الأوسط، فأن حل أقامة الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، هو الحل الوحيد لأنهاء معاناة الفلسطينيين وأرساء سلام عادل وشامل بين دول المنطقة وشعوبها ومنها الشعب الأسرائيلي نفسه.
“تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين. ويا الهي، ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون كذلك.. إن جلّادنا المقدّس واحد”.
(مايكل هولي إيجل، من نشطاء الهنود الحمر)