الطاقة هي محرّك الأزمة الروسية الأمريكية وليس أوكرانيا
زكي رضا
العالم اليوم على صفيح ساخن، فالتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا والعلاقات المتأزمّة جدا بين روسيا وأمريكا والناتو وحلفائهما من جهة ثانية، يُنذر بمستقبل محفوف بالمخاطر على كامل السلام العالمي، خصوصا وأنّ القوى المتصارعة وعلى رأسيهما الولايات المتحدة وروسيا يمتلكان خزينا من الأسلحة النووية قادرة على تدمير الكوكب عدّة مرات، على الرغم من أنّ تدميره لمرة واحدة كافية لأبادة الجنس البشري. فهل أوكرانيا هي محور الخلاف بين روسيا والناتو والى أي مدى..!؟
لا نستطيع ترك الصراع الروسي الأوكراني حول جمهوريتي دونيتسك ولوغانس اليوم وقبلها الصراع حول القرم والذي حدث سنة 2014 ، والصراع الروسي الجورجي سنة 2008 حول أوسيتيا وأبخازيا. عن نيّة الناتو محاصرة روسيا وخنقها بالتواجد على حدودها، وهيمنتها على البحر الأسود حيث أكبر القواعد البحرية الروسية في سيفاستوبول وشلّها. خصوصا وأنّ الناتو ضرب عرض الحائط ألتزاماته وتنصّل عن وعوده بعدم التوسّع شرقا، بعد أن ضمّ الى صفوفه بعد أنهيار الأتحاد السوفيتي جميع بلدان حلف وارشو تقريبا. وهذا ما دعا موسكو وقبل هجومها على اوكرانيا، مطالبة اوربا وامريكا بضمانات أمنية بعدم توسع الناتو ابعد ممّا هي عليه الآن كونه يمثل خطرا وجوديا على أمنها القومي. وكان الصحفي والكاتب الأمريكي توماس فريدمان قد كتب بعد أحداث القرم حول هذا التمدد قائلا ” أن نكون جادين بخصوص ما يجري في روسيا، يعني أن نكون جادين في التعلم من أخطائنا الكبيرة التي ارتكبت بعد سقوط جدار برلين. كان من الخطأ أن نفكر بأنه يمكننا توسيع حلف شمال الأطلسي إلى ما لا نهاية، عندما كانت روسيا في أضعف حالاتها وعندما تكون روسيا الأكثر ديمقراطية وأن الروس لن يهتموا لذلك. كان من الخطأ أن نفكر بأنه يمكننا معاملة روسيا الديمقراطية كعدو، كما لو كانت الحرب الباردة لا تزال مستمرة، وأن نتوقع من روسيا التعاون معنا كما لو أن حقبة الحرب الباردة انتهت، وأن هذا لن يؤدي إلا لأن نواجه برد فعل عنيف مناهض للغرب مثل البوتينية”.
أنّ الولايات المتحدّة والناتو دفعا روسيا دفعا لغزو أوكرانيا من أجل عزلها اوربيا ودوليا، وحصارها عن طريق عقوبات لم تشهدها أية دولة في التاريخ الحديث لليوم، من أجل الهروب من “هيمنة” موسكو على سوق الطاقة العالمي ومغذية الغاز الرئيسية لأوربا. ومحاولات أمريكا للحد من النفوذ الروسي في أسواق الطاقة العالمية وما يعنيه من تعزيز أقتصادها يمتد الى ابعد من ذلك، وهو محاولاتها المستمرة في تهديد البلدان التي تشتري أو تنوي شراء أسلحة روسية متطورة بأسعار أرخص بكثير من نظيراتها الأمريكية بعقوبات مختلفة أو التهديد بها، كما حدث مع تركيا بعد شرائها منظومة أس 400 ومصر التي تتناقل الأخبار اليوم نيتها ألغاء صفقتها لشراء طائرات سوخوي 35 تحت الصغط الأمريكي، على الرغم من أنّ هذه الطائرات قادرة على خلق حالة من التوازن في منطقة تريد أمريكا أن تكون القوة النوعية فيها لأسرائيل دوما.
بعد أنسحاب أمريكا من أفغانستان وأنحسار نشاط القاعدة وداعش وتأثيرات جائحة كورونا على الأقتصاد العالمي، قلّت شهية العديد من البلدان لشراء الأسلحة الأمريكية، وهذا ما دفع ويدفع أمريكا من خلال المؤسسة العسكرية التي يمثل بايدن مصالحها الى أحياء الحرب الباردة من جديد، وفتح أسواق العالم أمام تدفق الأسلحة الأمريكية، ومن أول بوادر هذه الحرب كانت بزيادة المانيا لـ 2% من ناتجها القومي لتعزيز ترسانتها العسكرية، وهذا ما ستفعله بقية البلدان الأوربية من أعضاء الناتو والتي رحبت به واشنطن بحرارة.
أنّ واشنطن تنتظر من حزمة العقوبات التي فرضتها ومعها أوربا على روسيا وهي تخوض حربها في أوكرانيا، على توسيع الخلاف الأوربي الروسي بشكل أكبر، لتستطيع التفرّد بمساعدة لندن في التحكّم بالقرارات الأوربية وتوجيه سياساتها اكثر نحو ضفة الأطلسي الغربية والحد أو الغاء أعتماد اوربا على الغاز الروسي كوسيلة رخيصة للطاقة. وفي هذا الصدد ومن خلال دعمها اللامحدود لأوكرانيا لأستمرار الحرب وشيطنة روسيا وأنهاء طموحاتها الجيوسياسية في بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وأضعاف أقتصادها من خلال أخراجها من نظام سويفت وعزلها عن العالم. وللوصول الى هدفها هذا فأنها تراهن على تحرك شعبي نتيجة ضغط العقوبات على القيادة الروسية، أو انقلاب داخل الكرملين بعزل بوتين من قبل بعض القيادات فيه.
أنّ سلاح روسيا في مواجهة أمريكا والغرب، ليس بوضع قوات الردع النووية على أهبة الاستعداد للرد في حالة تأزم موقفها وهي تواجه حلفا عسكريا ضخما فقط، على الرغم من صعوبة وعدم واقعية اللجوء الى الخيار النووي كسلاح في هذه المعركة. انما يكمن سلاحها بأغراق اوربا بملايين الاوكرانيين كلاجئين اليها وما يعنيه هذا الأمر من أعباء أجتماعية وسياسية وأقتصادية في ظل عدم تعافي العديد من بلدان أوربا لليوم من أضرار ما خلّفته جائحة كورونا على أقتصادياتها. ونيتها في أحتلال أوكرانيا والذي يعني وضع يدها على ما يتجاوز الثمانية عشر مليون طن من القمح سنويا، والذي سيؤدي الى أرتفاع غير مسبوق لأسعار قوت شعوب كاملة، وما ستترتب عنه من أضطرابات على مختلف الأصعدة.
من خلال السيناريو اليوم وتشبث كل القوى المتناحرة بمواقعها المتشددة، يبدو أنّ العالم يتوجه الى ما يشبه الكارثة. لأنّ الرد الروسي على أنهاء دورها العالمي بل وحتى الأقليمي من خلال أملاء سياسات دول صغيرة كانت حتى الأمس تسير في فلكها، سيكون غير محسوب العواقب عند القيادة الروسية في حالة فشل الرهان الأمريكي على تغيير داخلي في روسيا.
فرنسا والمانيا تستطيعان لعب دور الحكماء في هذه الأزمة، على أن يفضلا مصالح الشعوب الأوربية على مصالح غيرها. فأوربا وليست غيرها على الخط الأمامي للحرب، وأوربا وليست غيرها هي من عانت من أهوال الحربين العالميتين، وعليها الآن أن تعمل جاهدة لأيجاد حلول وسط مقبولة من جميع أطراف الصراع خدمة للسلام والأمن الاروربي والعالمي.