أخلاق عبد الكريم قاسم ورفاقه وأخلاق من جاء بعدهم
زكي رضا
في الذكرى الخامسة والستين لقيام ثورة الرابع عشر من تموز وكما اللواتي سبقتها، تتجه أقلام الكتّاب والباحثين لكتابة آرائهم حول الثورة. فمنهم من يحملّها ما آلت اليه أوضاع العراق منذ أنهيارها بأنقلاب الثامن من شباط الأسود وليومنا هذا، ومنهم من يدافع عنها وعن أنجازاتها التي تحققت في عمرها القصير مقارنة بالعهد الملكي وعهود ما بعد انقلاب شباط 1963 ولليوم وما حققته. وهذا الجدال بين الفريقين سيبقى لفترات طويلة جدا، وما من أفق قريب لحسمه.
في هذه المقالة نود الأبتعاد عن ما حققته الثورة وما فشلت في تحقيقه، بل وحتى الأبتعاد عن كونها ثورة أم أنقلاب عسكري قاده ضباط “مغامرون”. لأن الخوض في هذا الموضوع سيبقى جدالا ليس الّا، ومن الصعب أقناع أي طرف بأحقيّة الطرف المقابل، كوننا نفتقر بالعراق ولليوم الى دراسات علمية حيادية وبعيدة عن العاطفة لحسم مواقف سياسية بسيطة، فكيف بزلزال كزلزال الرابع عشر من تموز الذي غيّر وجه العراق بالكامل؟
أمران لازما جميع حكّام العراق منذ بداية تأسيس الدولة لليوم، هما الصبغة الطائفية والعشائرية اللتان كانتا حاضرتان في تصرفات ونهج ليس الحكّام فقط، بل وكامل السلطات بوزارتها ومؤسساتها وجيشها، وهذان الأمران كانا بعيدين جدا عن عبد الكريم قاسم ورفاقه. فقاسم كفرد ورجال حكومته بنهجهم كانوا بعيدين كل البعد عن العشائرية التي حاربوها بإلغاء قانون العشائر الذي سنّه الانكليز لتعميق العلاقات العشائرية والأقطاعية، كما كانوا بعيدين عن الطائفية نهجا وممارسة، عكس جميع السلطات العراقية السابقة واللاحقة لثورة تموز ومنها سلطة اليوم التي تفتخر بطائفيتها وعشائريتها وتعمل على تكريسهما من خلال نظام المحاصصة الطائفية القومية سيئ الصيت والسمعة.
الرشوة والثراء غير المشروع واستغلال المنصب لتمرير صفقات داخلية وخارجية من مسؤول أو أقاربه أو الدائرة القريبة مـــن مركز أتخاذ القرار هو سقوط أخلاقي، علاوة على كونه جريمة بحق الناس والوطن. ولو عدنا الى سيرة عبد الكريم قاسم ورفاقه من الضباط الأحرار الذين نطلق عليهم اليوم تسمية قاسميّون، سنرى فشل حتى من قاموا بأعدامهم من إثبات هذه الجرائم بحقّهم. فقاسم مات وهو لا يمتلك دارا سكنية أو قطعة أرض بعد أن وهب قطعة الأرض الوحيدة التي يمتلكها في قضاء الصويرة الى الدولة لتشييد مدرسة ثانوية أو مستشفى عليها وفق طلبه. كما لم تستطع لجان الحرس القومي واللجان التي شكلتها الحكومة من كشف أي شكل من أشكال الرشوة وأستغلال المنصب لأقاربه ورفاقه، بعد أن جابوا كل أرجاء العراق باحثين عن وثيقة تدينه ورفاقه وعائلته.
إذا كانت الرشوة والمحسوبية والثراء غير المشروع وإستغلال المنصب لعقد صفقات مريبة وفاسدة بقوّة الميليشيات والأجهزة الأمنية وفساد القضاء، لتمرير صفقات تجارية كبرى لصالح هذا السياسي أو ذاك، أو لصالح أبنائه وأقاربه وأبناء عشيرته وأعضاء حزبه من الدائرة المقرّبة، كما كان العهد الملكي والعارفين والبعث وعهد المحاصصة اليوم، والتي أدّت وتؤدّي لأنهيار البلد على مختلف الصعد ومنها الأخلاقي. فأنّ السقوط الأخلاقي لأعداء عبد الكريم وثورة الرابع عشر من تموز وعدم أعتبارها عيدا وطنيا للعراق، هو سقوط أخلاقيّ مدوّي. فساسة اليوم يمتلكون كل مقوّمات السقوط الأخلاقي، ويعملون ونجحوا لحدود بعيدة في أن يشمل السقوط الأخلاقي قطّاعات كبيرة من المجتمع، الذي لا يعيش حياة آدمية كبقية الشعوب لكنك تراه يهرول خلف كل فاسد زنيم!
لسنا في صدد دكتاتورية قاسم وتفرّده بالقرارات خصوصا المهمة منها، ولا بصدد علاقاته مع القوى السياسية العراقية وقتها، ولا بمواقفه اللينة تجاه أعداء ثورة تموز الذين نجحوا بالنهاية في قتله وقتلها، ولا موقفه من مراجع الدين الذي وضعوا اللبنة الأولى لأنهيار ثورة تموز بسعيهم نتيجة لأوامر من خارج الحدود وداخلها على أبعاد قوى وطنية عنه ، أو بالأحرى أبعاده عن تلك القوى التي وقفت معه حتى بعد مقتله. لكننا من حقنّا ونحن نرى الأحزاب الأسلامية التي تدّعي السير على نهج القرآن وعدل علي، أن نقارن قادة هذه القوى ومراجعها الدينية مع قاسم أخلاقيّا، بل وحتى أسلاميا.
رحل قاسم وهو لا يملك من دنياه شبرا، ولازال قتلته ومن جاء بعدهم يريدون منه حقّهم! رحل قاسم عفيف اليد بيضاء ونسى حتى من بنى لهم مدينة متكاملة لينقذهم من الجوع والمرض والفقر تلك اليد، فغيّروا أسم المدينة التي بناها وسمّاها الثورة وليس مدينة قاسم، الى مدينة صدّام مرّة والى مدينة الصدر مرّة!! رحل قاسم وهو لا يملك في العراق على وسعته قبرا! نرى أنّه من العار مقارنة أخلاق قاسم بأخلاق البعثيين وساسة المحاصصة وهم في قعر واد من الأجرام بحق الشعب والوطن وثرواتهما.
الشعب الذي يعرف تاريخ عبد الكريم قاسم ونزاهته وتاريخ البعثيين والأسلاميين وفسادهم وجرائمهم ولا يضع الحق في ميزانه، بحاجة الى أعادة تأهيل ليعرف الرشد من الغيّ، ولله في البعثيين والأسلاميين وأتباعهم وذيولهم شؤون.