حين تقرأ عبد الحسين شعبان في “مظفّر النوّاب، رحلة البنفسج”، لا بدّ من أن تُخفِض صوتك لأن “الزّهر يُنبته المطر، لا الرّعد” كما يقول جلال الدين الرومي، وحين تُخفض صوتك، ستَشعر حتماً بما يشبه الدّهشة، الدّهشةُ لمعنى الإنسان الذي تجاوز حدودَ الزمانِ والمكان، الدّهشةُ للجمالِ والإبداع والقدرة على تحويل الإختبارات الشخصية لخُبُراتٍ، تُصقلُ هويّة الإنسان الكونيّة وترديه جزءاً لا يتجزأ من هذا الوجود الذي يسير بهدى الحكمةِ والوعي.
وإذا كانت إحدى أهداف الكتاب هي إلقاء الضوء على شعر وشاعرية مظفّر النوّاب، وإيفاء الكاتب لجزءٍ من حقوقِ الصداقة والزمالة الثقافية والفكرية التي جمعته بالشاعر، فرحلة البنفسج هذه، تجاوزت بأبعادِها الأهدافَ المذكورة، ليغدوَ البنفسجَ بألوانِه وأشكالِه ورائحتِه ونموّه، كياناً قائماً بذاتِه يسبرُ أغوارَ الزمانِ فيحفرُ فيه تاريخاً وفنّـاً وشعراً وفلسفة، والأهم أنه في عمليًة خلق دائمٍ لحياةٍ مستمرّة.
لم يكتفِ د. شعبان بسردِ الوقائعِ والأحداث والمحطّات المفصليّة، التي رافقت تاريخ مظفر النواب، والتي كان لها الأثر الكبير بصقل شخصيته، حيث جعلت منه إنساناً متمرّداً ثائراً، يتطلّع بشغفِ العاشقِ، وأملِ الحالمِ إلى الحريّة والتجدّد، بل استطاع التغلغلَ في مجاهل فكر النوّاب، وإستشفاف ما بداخل قلبه، لإستنشاق عصارةَ شعره، وجوهرَ معاناته التي أنجبت، بعد مخاضٍ عسير، ثورةً شعريةً توّجها الشاعر في هذا التوق الرائعِ إلى الكمال والاكتمال، وجسّدها في رفضهِ للذلّ والارتهان.
كلّما تغوصُ في رحلة البنفسج، كلّما تكشّفت أمامك ثورةً حقيقية، ثورة إنسانية بلغةٍ مختلفةٍ قوامها الحركة والتمرّد، والأنا، والتجدّد، وقوامها الحبّ والعشق، والتوق الى الحريّة في أشـفّ درجاتها المتمثلة في التعبير عن جوهر الإنسان في أعمق ذرّاته الإنسانية. فالشعر والشاعرية التي يتكلم عنهما شعبان هما تعبيران لمعنى الإنسان الذي هو معنى الكون وسرّ وجوده وكينونته، اذ نسمعه يقول: ” كلّ إنسان هو أنا وآخر، ولا تقوم الذات الإنسانية الاّ بالتساوق مع ذات الآخر؛ وهما يكمّلان بعضهما البعض ويشكلان أساس الوجود الإنساني”.
رحلة البنفسج هذه تحتضن محاكاة وتناغم لثنائيٍ متمرّد. وكيف لا ؟ والتمرّد هو لحظة وعي، “ولم يكن ضرباً من العبث واللاّجدوى، بل أن العبثَ الّا يتمرّد الإنسان، فما بالـك بالمبدع” ؟ التمرّد مسـارٌ يحتضن قوّةِ الأنـا المحرّكة لتحقيقِ الذّات والخروج من شرنقة الخنوع ، ومن عبء التقليد، إلى فضاءاتٍ أوسع وأرحب، الى الحريّة والتجديد.
إصدارٌ جديد يُضيفه المفكر الدكتور عبد الحسين شعبان الى رصيد الفكر العربي المتجدّد، ليشكل مساهمةً وافرة في تعزيز وإغناء الوسط الثقافي، بطرحِهِ لمفاهيم وجودية كالحرّية والأنـا والآخر والتمرّد والوجود وغير ذلك من المسائل؛ مقتفياً آثار الكبار أمثال ديكارت، وكامو، والرومي، وطه حسين، والجواهري، والنوّاب، وكثيرين غيرهم ؛ موجّهاً رسائل عديدة إلى قلب مجتمعاتنا العربية والأوساط الفكرية والثقافية، للتطلّع بأعينٍ ثاقبة وبصيرةٍ نافذة الى إحدى معضلات الفكر العربي، وما تشهده ساحاتنا اليوم من قتامة وتهميش، وإلغاء وتطرّف، سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي؛ خصوصاً حين ينتقل التعصّب والتطرّف من حيّز التفكير إلى حيّز التنفيذ ويصبح سلوكاً، فإنه يتحوّل إلى عنف وإرهاب.
عندها لن نتمكن من دخول عالم الحداثة، الذي سيَسحَقنا بعجلاته، إذا لم نستوعب التطوّر التاريخي للفكر والفلسفة والفنّ والشعر والتسلّح بهم جيداً، كي نتمكن من اجتياز عتبة الانتقال من الرتابة والتقليد الى الحداثة والتجديد. وبحسب أوكتافيو باث : ” إذا خلا رأس السياسي من الشعر، تحوّل الى طاغية”.