الشهادات العُليا في العراق الجديد بين التضخم والابتذال والضياع
د. وليد عويد حسين
إن مما لا شك فيه ولا جدال أن قرار فتح الدراسات وقبول منح الشهادات العليا من الجامعات اللبنانية و من على شاكلتها في الدول الأخرى، هو قرار أطاح بهيبة الشهادات العليا ورفعتها وسموها، من كون تلك الجامعات، جامعات غير مؤهلة علميًا، تمنح الشهادة بلا كفاءة، لذا، نرى كثيرًا من الطلبة يهرعون إليها، لأنها تمنح تلك الشهادة مقابل المال المدفوع مسبقًا أو المقسط بالتدريج، فهي جامعات تجارية لا تتوفر فيها أية معايير علمية، ومما لا شك فيه كذلك أن أغلب الطلبة الذين يمنحون هذه الشهادات من تلك الجامعات هم أفراد غير مؤهلين، فالدراسات العليا كما هو معلوم شهادة لا تأتي بيسر وسهولة، والصعاب في هذه المسيرة لا تخفى على من خاض غمارها، فطريقها مليء بالجهد والإجهاد من كون ( المجد ليس تمرًا يؤكل، إنما صبّرًا يُلعق)، لذا يلجأ هؤلاء الطلبة غير المؤهلين إلى شهادة بعيدة من الجد والاجتهاد، وقد أُطلق على هذه الجامعات المانحة مثل شهادات كهذه ( جامعات الدكاكين!) من حيث كونها تمنح الشهادات لمن هبَّ ودب، وقد أكدت بعض المواقع في لبنان أن عدد الطلبة المسجلين هم من الطلبة العراقيين الذين بلغ عددهم (24) أربعة وعشرين ألف طالب أغلبهم لم يزر لبنان, وأعداد أخرى من غير العراقيين كذلك.
إن هذه الظاهرة المشينة تفاقمت، بحيث غدت أزمة انعدام أخلاقي وتلاشٍ لهيبة التعليم والقانون، وما قامت به وزارة التعليم مؤخرًا من إلغاء الإعتراف بالشهادات من بعض الجامعات اللبنانية – غير المؤهلة – كالجامعة الإسلامية، والحديثة، والإدارة والعلوم، والجنان وغيرها، هي خطوة متأخرة حققت مآرب الكثير من المنتفعين من هذه الشهادات قبل اتخاذ هذا القرار، وعلى الرغم من ذلك كان لابد أن تلحق بهذه الخطوة المتأخرة – التي لا أعلم لِمَ استفاقوا من رقدتها الآن!؟- خطوات أشد صرامة، منها إلغاء الاعتراف بجامعات عربية وكذلك أوربية أخرى ممن هي على شاكلة الجامعات اللبنانية، وإعادة النظر بهذه الشهادات التجارية وذلك من خلال تشكيل لجنة علمية تعمل على تقويم رسائل وأطاريح هذه الشهادات، فضلًا عن النظر في الخلفية العلمية والأخلاقية لسيرة حامل هذه الشهادة … فمستقبل البلد لا يمكن أن يبنى على طرق كهذه غير معبدة أخلاقيًا، بعيدة من المناهج المعرفية والضوابط القانونية، كما يجب أن يوضع حل جذري لوباء خطير كهذا يؤدي إلى تقطيع أوصال المعرفة… ومما يؤسف له اليوم أن العراق غدا محط أنظار انتقادات دول كانت بالأمس تتطلع إلى مكانته حضاريًا و علميًا وثقافيًا وعمرانيًا… فقد نشرت صحف عربية كصحيفة (الأنباء) الكويتية تقريرًا عن حجم الشهادات المزورة وغير اللائقة التي تم منحها لطلاب عراقيين في لبنان، كما جاء في أحد أعدادها المنشورة مؤخرًا .
ومن الجدير بالذكر أن من مسببات انتكاسة هيبة التعليم العالي والبحث العلمي داخل العراق لا خارجه اليوم ما هو معقود في ناصية الكليات الأهلية – كليات المعالف لا المعارف – التي لا تقل امتهانًا وتضييعًا لهيبة التعليم عن سابقتها من الشهادات الممنوحة من لبنان، من كون كلا الأمرين قائمًا على المنتفع المادي التجاري دون العلمي، وتعد هذه الكليات التي كثرت بصورة غير طبيعية داخل العراق من المخاطر التي دفعت وستدفع البلد إلى انتكاسات وخيمة ولاسيما بعد أن فتح فيها دراسات في الطب والصيدلة والتحليلات المرضية، والطامة الكبرى إذا تم العمل بالسماح للجامعات الأهلية بمنح الشهادات العليا كما هو متداول اليوم في البرلمان … وإن قرارات كهذه تجعل العراق بلا أدنى شك أمام مؤامرة كبيرة تحاك للإطاحة بهيبة التعليم العالي فيه، وليس ثمة شك في الحديث النبوي الشريف ((إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة)) ونحن في ساعة قيامة هلاك هذه الأمانة التي هي مرتكز نجاح كل أمة من الأمم.. وقد صدق فينا قول المعري: