الأسلوب باعثًا لإنتاج الإبداع السردي
قراءة في رواية الحب تحت ظل الحلال
د. وليد عويد حسين
يُعد الأسلوب من أبرز سمات المبدع؛ لأنه يمثل المرتكز الأساس في تقويم المنجز الإبداعي الشعري والسردي على حدٍ سواء، وللأسلوب أهمية كبرى وبلاغة عُظمى تعلمنا إلى أي مدى يستطيع أن يؤثر في النفس ويكون أداة ووسيلة تثير العواطف والمشاعر، وهذا ما نلحظه في أعمال أميرة عليّان التي امتطت صهوة السرد باكرًا، وسابقت أقرانها في مضمار الابداع والتألق، إذ امتاز اسلوبها بهندسة التناسق والانسجام ووفقت باختيار جوامع الكَلِم الذي زين منجزها الروائي (حب تحت ظل الحلال) الذي شكل أفقًا من التلاقي الحميم بين الكاتب والقارئ. تقول واصفة شعور أحد قطبي الرواية الرئيسيين ((اغتالني الهلاكُ من صلابةِ الشَّغفِ، فجلتُ أغوار هذا العالم، باحثاً عن قدوةٍ حسنةٍ ألوذُ إليها، أتجرَّدُ من كلِّ الأقنعةِ الَّتي أهلكتني، أحكي لها دون خوفٍ أو تردُّدٍ، تسمعني وتخفِّفُ حمل الأثقالِ عن كاهلي بترتيب حروفها، تجتثّني من هاويةِ اليأسِ فقد مللتُ منها، تسمو بي إلى عالمٍ آخرٍ، يحجبني عن رؤيةِ الأرواحِ، الإنسيّ منها والجنّ، أودِّعُ فيهِ أصداءَ صراعاتي، وأصعدُ أدراجَ الأفراحِ، فتعلو أصواتُ قهقهاتي به، لا مالك فيه إلّاها، عالمٍ مفعَّمٍ بالسَّكينةِ، طفيفٍ بالسَّلامِ، ألفُّ أرباضهُ، وأذوقُ بأراضيهِ حلاوةَ الحياةِ بعد علقمها…)).
تنبق مفردات عوالم (حب تحت ظل الحلال) من بيئة الشام – الحبيبة – التي اتخذتها أميرة عليّان المكان الأمثل للحدث الذي لم تخرج عنه من بداية الرواية إلى منتهاها، القائم على الحوارية من خلال الرسائل البريدية تارة واللقاءات تارة أخرى بين بطلي الرواية (ألمى وليون) اللذين نشئا وترعرعا منذ الصغر، ألمى الفتاة الشامية المتربية على عاداتها وتقاليدها المعروفة، وليون ذو المولد البريطاني الذي استطاع أن يكتسب العادات والتقاليد الشامية وأجاد فيها أيما اجادة ، تجمعهما الحارة منذ الصغر، ومن ثم الدراسة وما ترتب في هذه الحقبة من أحداث حملت في طياتها ألمًا وأملاً، إلى أن ينتهي بهما القدر ليكونا زوجين بعد عناء وبعد …
استطاعت الكاتبة أميرة عليان ببراعة توظيف تقنية الاسترجاع باعتمادها على قطع زمن السرد الحاضر؛ ليستدعي الماضي ويوظفه في الحاضر السردي، فيصبح جزءًا من نسيجه، وكذا الحال مع تقنية المنولوج الذي كان له حضور وتوظيف جميلان بالرغم من بساطة وسهولة اللغة الدائرة بالحوار مع النفس .
منح اطلاع الكاتبة على التأريخ والثقافات القديمة قدرة جميلة على ربط الأفكار الواردة في السرد مع أصولها أو مثيلاتها من الأفكار، فقد استطاعت إدارة توظيف هذا المخزون الثقافي في محطاته الملائمة كرسائل كلكامش لعشتار، ورسائل كافكا إلى ميلينا … وغيرهما من إشارات تنم عن عمق الدراية عندها…
ترتكز رحى الرواية على عنصرين أساسيين هما الحوار والشخصيات، وقليل من الأحداث حول الشخصيتين البارزتين ألمى وليون اللتين تفاعلتا مع شخصيات أخرى في تجاربهما اليومية من أجل توثيق الصلة بوجودهما الاجتماعي، ووددت لو عملت الكاتبة على شمولية التوظيف لمقومات السرد من إيراد العناصر الأخرى، كتعدد الأماكن، وتنوع الأحداث، كي تمنح الفضاء الروائي سعة أكبر.
تصاعدت جمالية السرد وتغير مسارها نحو الجذب والتشويق وكسر الروتين المتواتر في هذه الرواية القائم على الحوارية منذ مجيء (ليون) متقدمًا لخطبة ألمى وما بعدها، حيث كانت هذه الأحداث مشوقة ذات طابع قصصي يميل إليه القارئ بشدة، وهذا من صميم الأعمال الروائية المعروفة بسننها وأعرافها السردية المتواترة التي تمنح القارئ حسن الاصغاء والشغف… كما وظّفت الكاتبة اللغة المحكية في بعض صفحاتها مؤمنة أن ((بعض مفردات اللهجة المحكية، ترسم شخصية حادة أو جميلة، وقد تعطي انطباعًا أفضل من المفردة باللغة العربية الفصحى(( . وأرى أن الكتابة أرادت من إيراد بعض الكلام المحكي العامي ضمان عدم ضياع وفقدان لذة المشهد الذي أرادت إيصاله كاملاً للمتلقي، الذي ربما يكون مستنبطًا من واقعها الحقيقي الذاتي الذي أخفت معالمه الكاتبة مستترة خلف بطلتها ألمى، وهذا النوع من التقنية – الاستتار – يحمل شكله الرمزي الذي تستخدمه الكاتبة كأداة لتنظيم تجربتها مبتعدة عن قيود الحياة الواقعية، وكأداة أخرى اتخذتها الكاتبة لتعبر عن صوتها وتمثلاتها في عملها الروائي، وهذه المواراة في زعمنا لم تأتِ من فراغ؛ بل إنّ حتمية الايجابية والسلبية الكامنتين في ذات الكاتبة هي من فرضت عليها ذلك بقصدٍ أم بغير قصد، وهي وسيلة تحسب لها فقد أجادت بها لتكون بمنزلة المساعد لها لتحقيق آلية التمويه والتمثيل .
ولعل المراسلات التي جاءت منتشرة في ثنايا هذه الرواية بين بطليها الرئيسيين ألمى وليون أدت فيها الكاتبة لغة جميلة شاملة للخصائص الشكلية التي من شأنها ان تؤثر في المتلقي وتستهويه وتشدّه إلى النص. تقول: ((انتظرتُ مجيء اللَّيل لأبكي وأخفي ضرامي في دجاه، انتظرتُه بسكينته والهدوء العارم فيه، لعلَّ صمته يُخفِّف هشاشة قلبي والجراح، لعلّه يُسعفني بهدوئه، ويسند قلبي ممّا لاقى من آلامٍ ونوى، اكتشفتُ مؤخّراً أنّه يسمع الكثيرين، فلم يعد لي مكانٌ فيه من كثرة ازدحام المخذولين وجراحهم، لم يسعه أن ينظر إليّ ولو لمرّةٍ واحدةٍ، ثمّ يأتي الصّباحُ بضجّته، وشغفه، وأعبائه…)).
تعد هذه الرواية كلاسيكية البناء، قائمة على الأدب الأخلاقي ومراعية إلى حدٍ ما للتقاليد والثوابت المجتمعية ، فلم تخرج الكاتبة كثيرًا عن ذلك ولم تثر عليها ولم تتحدّاها، وهي بذلك تتعارض مع الأدب الحداثي الذي يصفه النقاد بعدم مبالاته بهذه الأمور أو الاهتمام بها وارتباكه أمام مفهوم القيم والمثل … ومن الجدير بالذكر أن أميرة عليان لا تدفع بقارئها من خلال اسلوبها إلى شدة الإيغال في التجريب، إنما جاءت بما قاربت به القول من خلال درامية الأفكار المتشخصة كما يسميها الكاتب الألماني هوفمان…