حكايات و مقالات
د. نزار محمود
على ذكر اسم جرجيس!
نحن في الموصل لدينا جامع شهير اسمه: جامع النبي جرجيس. واسم جرجيس، ربما، كان حصراً في عدد من ابناء الموصل، مسيحيين ومسلمين.
وبمناسبة هذا الاسم، أروي طريفة لنا، نحن طلاب مدرسة اعدادية المستقبل عام ١٩٦٨، حيث كنا ندرس مادة علم الاجتماع في الصف الرابع الاعدادي العام، كما كان يسمى. الذي حصل انه كان لدينا موضوع بعنوان: النقلة الاجتماعية، صعب علينا فهمه في الكتاب المترجم الى العربية لاحد مؤلفيه: الدكتور محمد المشاط. وعندما اشتكينا ذلك لاستاذنا ادوارد حراق، الله يرحمه، اورد لنا الحكاية الطريفة التالية، تفسيراً لمعنى النقلة الاجتماعية، حين روى انه كان لديه صديق اسمه “ججو” في منطقة قرة قوش، اتم تعليمه الابتدائي وتحتم عليه الانتقال الى مدينة الموصل لاكمال تعلمه الثانوي. وفي مدينة الموصل نصحوه اقارب له، ان يكون اسمه هنا: جرجيس، بدلاً من “ ججو” التسمية الشائعة في قرة قوش، ولأن الاسم الجديد اكثر قبولاً اجتماعياً في الموصل، وهكذا جرى.
أتم جرجيس تعليمه الثانوي، وانتقل الى بغداد ليكمل تعليمه الجامعي. وفي بغداد نصحوه ان يغير اسمه الى: جورج، لأن اسم جرجيس، قد يسبب له بعض الهمس واللمز، حول كونه مصلاوي: قيقو قيقو! وهكذا تغير اسمه الى جورج.
سنوات ويعود جورج من امريكا بعد ان حصل على الدكتوراه، وقد بدل اسمه الى: مستر جوردن!!!
وبهذه الحكاية فسر لنا استاذنا ادوارد حراق، موضوع النقلة الاجتماعية التي انعكست في اسم ججو وجرجيس وجورج ومستر جوردن!!!
كنا عندكم وجينا!!!
ههههه
تأملات في حياة اللاجئين والمغتربين والمهاجرين العراقيين
في البد لا بد من التنويه الى الاختلاف في المعاني بين اللجوء والاغتراب والهجرة، وهو ما سيتبين في سياق عرض المقال.
فاللجوء هو حالة قسرية تجبر الإنسان على ترك داره وأهله ووطنه واللجوء إلى مكان أو شعب أو دولة أخرى لتلافي أسباب حالته القسرية من سياسية أو عسكرية أو أمنية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، أو ربما لأكثر من سبب، فما بالك بسبب جميعها!
في حين يعني الاغتراب ابتعاد الإنسان عن أهله ووطنه لبعض الوقت، طال أم قصر، لأسباب إرادية تتعلق باقتصادية أو سياسية أو ثقافية او اجتماعية، على أمل تحقيق أهداف أو زوال أسباب. فهناك من يتغرب للعمل ولجمع المال، وهناك من يتغرب لسبب سياسي او اجتماعي مؤقت، ظناً منه.
أما الهجرة فتعني أن الإنسان بكامل وعيه وارادته يقرر الهجرة وينوي الاقامة الدائمية في مجتمع وبلد آخر، وهو ما يفرض عليه ويضطره للتأقلم والتعايش الدائم مع معطيات وطن الهجرة من سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية.
وهنا لا بد لي من الاشارة الى ان اللجوء قد يتحول مع الوقت الى حالة اغتراب والتي قد تتحول بدورها كذلك الى حال هجرة. وهنا تلعب الظروف ومدة البقاء وولادة الاجيال دورها الكبير.
في ألمانيا مثلاً، يعيش مئات الآلاف من العراقيين، لا سيما بعد موجة اللجوء الأخيرة منذ العام ٢٠١٥. وكثير منا يعرف ظروف رحلة لجوء العراقيين، كالسوريين، الطويلة والصعبة والمحفوفة بالمخاطر وعالية التكاليف.
لم يكن لجوؤهم رحلة متعة، بل جاءت هرباً من ظروف صعبة ومستقبل مجهول، على أمل حياة جديدة آمنة وسعيدة، يجدوا فيهاً مستقبلاً لأولادهم.
كما لم تكن ردود فعل اللاجئين العراقيين، الذي حصل القسم الأعظم منهم على لجوء الحماية الإنسانية، واحدة في ما واجهوه من اشتراطات وظروف بقاء في المانيا، الأمر الذي دفع بالكثيرين منهم الى العودة الى العراق رغم ظروفه الصعبة.
اللاجئون الى المانيا، ومنهم العراقيون، يواجهون صعوبات على طريقهم للحصول على الاقامة والسكن والعمل، ولاحقاً الاقامة الطويلة حتى الجنسية. مشوار الالف ميل يبدأ بخطوة واحدة، انها مهمة قبول السكن الجماعي غير المريح، في غالب الاحيان، انها شرط تعلم اللغة والاستعداد للعمل وتحمل مشاعر الغربة الثقافية والاجتماعية. انه جهاد النفس في الرفض والقبول!
ومما يثقل على اللاجىء عندما يأتي الى المانيا مع اسرته واطفاله. انها مهمة مرهقة في خضم ” كومة” الرسائل والاوراق ومراجعات الدوائر الكثيرة.
يجلس ” قاسم” رب اسرة مكونة من خمسة افراد، وهو يتذكر العراق وأهله، وما مر به. كما تراه يحدق في قادمات الايام بالنسبة لأطفاله. هل سيبقى يشعر ويعتز بعراقيته، وكيف سيشعر ابناؤه تجاه وطنه، وماذا سيكون مصيرهم؟ أسئلة كثيرة لا يخفف من صعوباتها سوى أمان اسرته وتعليمهم وصحتهم وضمانهم الاجتماعي، وقرارات الدوائر باستمرار دعمهم المالي.
يتمتم ابنه احمد بآيات من القرآن لا يعرف معناها، وتتكلم معه ابنته الكبيرة باللغة الالمانية فلا يفهمها! يحدث اطفاله عن السومريين والبابليين واختراع الكتابة وسن القوانين وثروات العراق محاولاً زرع مشاعر انتماء فيهم لوطنه. ينجح أحياناً، ويخفق مرات كثيرة.
تحثه دوائر المساعدة على تعلم اللغة والعمل أو التأهل المهني، وتراه دائم البحث عن عمل يجد فيه نفسه ويضمن معه عيشه الكريم.
عندما رزق “قاسم” بطفلته الاخيرة، كانت نفسه تهوى الى اسم فاطمة، لكنه تردد، فوقع اختيارهم على اسم: فيولينا!
برلين، ٢٢/٧/٢٠٢١
الخطوط الحمراء في سياسة الحكومة العالمية
قبل ايام كتبت مقالاً بعنوان: من يحكم العالم، أشرت فيه إلى ان هؤلاء هم ليسوا تلك الصورة التقليدية للحكومات في هيأة وزراء ومكاتب وما الى ذلك، لكنهم قوى، علنية وسرية، توجههم عقولهم ونفوسهم، رغباتهم وغرائزهم، طموحاتهم وأطماعهم، من أجل السيطرة والهيمنة على العالم وفق رؤاهم.
وهذا “النادي” مسموح دخوله لمن يرتدي البدلة السوداء من النخب البشرية ويضع على رأسه القبعة الاسطوانية ويحمل تحت أبطه “ كرباج” القوة، ويحدق، وهو في روح تفوقه، الى الآخرين من فوق!
ومن أجل أن يستمر “روليت” اللعبة بالدوران لا بد من سياسة وقواعد. سياسة تحدد الخطوط الحمراء والخضراء، وقواعد تنظم اللعبة. هذه السياسة وتلك القواعد تعمل في ديناميكية استقراء التطور وتعمل على توجيهه واحتوائه وبالتالي السيطرة عليه. ولن تتمكن من ذلك دون قوة علمية وتقنية ومالية واعلامية وطاقة في ادارة نفوس البشر، ودون قوة ناعمة في تعميم ثقافة ملائمة تعينها على تحقيق غاياتها. ثقافة تفكير وانماط عيش وقيم وعادات معينة.
أما ما هي مجالات الخطوط الحمراء، فإنها:
المحال السياسي:
المتمثل بضبط التكتلات والتحالفات.
المجال الاقتصادي:
المتمثل بتحديد الاتحادات والكارتيلات.
المجال الثقافي:
المتمثل بتسفيه القيم والعادات المشاكسة.
المجال العسكري:
المتمثل بتحطيم حلقات القوة العسكرية وايقاف عجلات التطور.
من هنا فأنه ليس مسموحاً به:
⁃ نهوضاً يسارياً أو شيوعياً.
⁃ نهوضاً اسلامياً موحداً.
⁃ نهوضاً بوذياً أو كونفوشيوسياً شاملاً.
⁃ نهوضاً عربياً موحداً.
⁃ نهوضاً كورياً موحداً.
⁃ نهوضاً اوروبياً موحداً.
فها هي قد انتهت الشيوعية وتبعثرت دولها. وها هم الدول والشعوب الاسلامية في تناحرات كثيرة،
وها هم في صراع مع الصين، وعملهم الدؤوب في تفتيت العرب ونهب ثرواتهم وابتزازهم، ومنع اعادة توحد الكوريتين، ولجم اي تقارب روسي الماني وحتى فرنسي الماني.
برلين، ٢٣/٧/٢٠٢١
أسقطوك على رأسك يا جواد!
بدأ جواد، ذلك الشاب اليافع، حياته السياسية عندما أحس بظلم عمدة القرية لسكانها. لم يكن والده سوى فلاح بسيط في تلك القرية ولم تكن له اية طموحات سوى أن يعيل أسرته المتكونة من سبعة أفراد، وكان جواد أكبر أولاده الخمسة.
لقد كان قد نشأ جواد على عصامية تعلمها من والده، كما كان مثابراً في دروسه وما يكلفه به ابوه من أعمال زراعية ورعاية المواشي التي كان يمتلكها والده في مزرعتهم الصغيرة. وكانت تلك المواشي والمزرعة هي مصدر عيشهم ورزقهم الوحيد.
انهى جواد المدرسة بتفوق، وأحب أن يلتحق بكلية الشرطة، وتطلب ذلك منه أن يجلب بتزكية من عمدة القرية. لم يكن جواد يعرف، وهو في سن السابعة عشر، ماذا تعني تزكية العمدة، ولا ضرورتها.
تحدث جواد مع والده حول الموضوع، لكنه فوجىء بأنه سبب ببعض الحرج لوالده، الذي لم يتردد في النهاية بالذهاب مع ابنه الى عمدة القرية من أجل التزكية.
في اليوم التالي يكون جواد ووالده أمام عمدة القرية في مضيفه، بعد أن سمح لهم الغفير بذلك.
في المضيف كان يجلس الى جانب العمدة رجل، لا يبدو انه من أبناء القرية، حليق الوجه يعبر بنظراته عن سلطة وقوة، ويخبىء وراء ابتسامته الصفراء تهديدات دفينة. كما كان امام مسجد القرية قد اتخذ كذلك مكاناً في المضيف.
عمدة القرية، يبدأ الحديث بسؤاله عن حاجته.
والد جواد: حضرة العمدة، خادمكم جواد، انهى مدرسته، ويحب ان يلتحق بكلية الشرطة، وطلبوا منه أن يجلب بتزكية من حضرتكم.
يعدل الضيف الغريب عن القرية من جلسته، ويتبادل النظرة مع عمدة القرية، الذي لم يتأخر في الاجابة، فيرد على والد جواد، بأن الأمر بحاجة الى يومين، وأنه يكلف بعض المال!
ينظر جواد في عيني والده متوسلاً الموافقة، ولم يتردد والد جواد بالموافقة وشكر عمدة القرية والحضور، ثم استأذن بالخروج.
يلتحق جواد بكلية الشرطة، ويبدأ بالتردد أثناء زياراته على عمدة المدينة، وغالباً ما تكون تلك الزيارات بحضور الضيف الغريب عن القرية.
ينهي جواد كليته ويتخرج برتبة ضابط شرطة سرية!
ولا تمضي سوى سنتان ويكون جواد، ضيفاً غريباً على القرية المجاورة ويجلس الى جانب عمدة تلك القرية!!
برلين، ٢٣/٧/٢٠٢١
الخلفيات والاهداف السياسية في نشوء اشكالية “ الأقليات” في الوطن العربي
موضوع “الأقليات” في الوطن العربي أصبح واحداً من اكثر الموضوعات حساسية واثارة للقلق والنزاعات السياسية والمجتمعية.
ولأغراض المقال فإني أعني بالأقليات في بلدان الوطن العربي انهم النسبة البشرية القليلة في اي مجتمع اكثريته مجموعة أخرى في أثنيتها أو دينها أو مذهبها أو أية خاصية اجتماعية أو ثقافية أخرى، أو ربما حتى مناطقيه.
وتاريخ بلدان ومجتمعات الوطن العربي قد شهد كثيراً من الزمن و الأحداث والصيرورات التكوينية ليصل الى ما هو عليه الآن من تركيبات اجتماعية وسياسية وثقافية. ان بحث وتتبع هذه السيرة ليس مجاله، بالطبع، مثل هذا المقال المقتضب.
وبسبب ما تمر به بلدان ومجتمعات الوطن العربي وما تعانيه من حالة ضعف وتخلف وتبعية وهزيمة، تتحمل مسؤوليتها الاكثريات فيها، فقد برزت اشكالية الأقليات في هذه البلدان، والتي أحاول في هذا المقال ابراز دور العوامل التالية في نشوء اشكالية الاقليات وتأجيجها.
وفي عرض ذلك ارتايت تبويبها إلى :العوامل الخارجية
أولاً: العوامل السياسية المتعلقة بالأكثرية:
وأعني بها جميع العوامل التي تتمثل بسعي الأكثرية للاستحواذ على السلطة والاحتفاظ بها من خلال اعتماد وفرض ثقافة الاكثرية عربية أو دينية أو مذهبية أو حتى مناطقيه، الأمر الذي يحفز “الأقليات” الى البحث عن أناها الأقلية والدفاع عنها.
فالكردية أو الأمازيغية أو الدرزية وغيرها، مثلها مثل المسيحية أو العلوية أو الشيعية أو السنية هي أمثلة على ردود الفعل على هيمنة الأكثرية وسعيها للتسلط والفرض بالاستعانة بعوامل قوتها.
ثانياً: العوامل السياسية المتعلقة بالأقليات
وأعني بها عوامل ردود الفعل وسعي قيادات الاقليات والطامحين منهم لسلطات ومراكز سياسية واجتماعية من خلال تبني حقوق ومشروعيات الأقليات في حكم ذاتها وتبني خصوصياتها، أو ربما من خلال الاستيلاء على السلطة وحكمها بقبضة حديدية اقلية.
ثالثاً: العوامل الخارجية
والتي تتربص الظروف والخصوصيات في المجتمعات الاخرى لاحكام سيطرتها أو على الأقل لتأمين مصالحها من خلال تدخلاتها في بلدان الهشاشة السياسية.
ومن أجل وفي سبيل ذلك تبحث تلك الدول الخارجية في مجالات حقوق الإنسان والشعوب ما ييسر لها ويعينها على تحقيق مطامعها.
في الختام، وددت ذكر الملاحظات التالية:
⁃ ليس هناك من مجتمع أو دولة تتشكل من عرق أو دين أو مذهب واحد، كما ليس هناك من دولة يعيش ابناؤها سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً بصورة متساوية مطلقة.
⁃ تظهر اشكالية الاقليات غالباً في المجتمعات التي تمر في مراحل ضعف أو تبعية.
⁃ تعبر هيمنة الاكثرية ونشوء نزاعات الاقليات ضد الاكثرية عن تخلف سياسي واجتماعي وغياب المواطنة والدولة المدنية المتحضرة واهتزاز منظومة حقوق الإنسان.
⁃ غالباً ما تحاول القوى الخارجية الطامعة الى عون اقلية ما للاستيلاء على السلطة لحاجتها للحماية الخارجية وبالتالي بقائها حبيسة التوجيه والتبعية، من ناحية، أو تأليبها ضد سلطة الاكثرية لابتزازها واستنزافها، من ناحية أخرى، وغالباً ما تسعى الى الحفاظ عليها كأقلية تابعة للاستفادة منها كأداة لتحقيق مصالحها.
⁃ ليس هناك من حل لاشكالية “ الأقليات” الا بالعدالة السياسية والتحضر المدني وفي ظل دولة القانون والمواطنة.
برلين، ١٣/٧/٢٠٢١
حمورابي
يفشل في الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعة “زعفران” في القانون!!
في فعالية مسرحية، وقد انتهت الى هزلية مضحكة لكنها محزنة، يخرج حمورابي من بوابة قاعة كبيرة تحت سمع وأنظار الجميع، وهو يتذمر ويتمتم بكلمات غير مفهومة!.
اليوم كان قد اجتمع في اكبر قاعة لوزارة ما يسمى بالعدل العراقية، كبار المسؤولين من قضاة ومحامين وساسة ورجال ( علم وفن)، لمناقشة ومنح شهادة الدكتوراه للطالب العراقي حمورابي، بعد أن تمكنوا من التواصل معه عن طريق طائرات خاصة تحلق في طبقات الزمان!
في صدر القاعة كانت قد اعدت مقاعد لجنة المناقشة المؤلفة من الاستاذ الدكتور فلان الفلاني، والاستاذ الدكتور…. والاستاذ الدكتور….
كما كانت قد علقت وراء ظهورهم يافطة كتب عليها:
تحت رعاية السيد وزير العدل ورئيس جامعة بابل وبحضور ممثلي رئاسة الجمهورية والبرلمان والحشد الشعبي تجري مناقشة اطروحة 3 الطالب حمورابي الموسومة:
حول غياب العدل وضياع العراق
لنيل شهادة الدكتوراه.
رئيس اللجنة، يرحب بالحضور ممن أرسلتهم مؤسسات الحشد الشعبي ومكافحة الارهاب، وبممثلي الكتل السياسية في البرلمان، ويطلب من ممثلي الترجمة الفارسية التوجه الى غرف الترجمة، ويحذر الفنيين من انقطاع الكهرباء. كما يوجه حراس القاعة بأخذ الحيطة والحذر!
وبعد ان يعرف رئيس اللجنة بأعضاء لجنته ونفسه ويعلن عن افتتاح المناقشة، يعود الى الطالب حمورابي مشيراً له ببدء قراءة فرضية بحثه وما توصل اليه من نتائج علمية.
يعتلي حمورابي منصة خاصة معدة له ويروح يقرأ على أسماع الحاضرين ما تضمنته اطروحته من افكار وما توصل اليه من نتائج وما يقدمه من توصيات ومقترحات، فتضج القاعة بالصياح والصراخ وتتعالى كلمات الشتم والتهديد على ما نطق به وقاله الطالب حمورابي، وهي تطالب بشدة لا هوادة فيها برفض الاطروحة وتسفيهها وانزال اشد العقوبة بالمفتري على عدل ونزاهة العراق الديمقراطي الأبي!
ما كان قد توصل له حمورابي، يمكن اجماله بالتالي:
⁃ ان العراق ليس دولة لفقدانها عناصر سيادتها الأساسية في الشعب والأرض.
⁃ ما قام على باطل فهو باطل
⁃ ان حماة العدل من قضاة ومحاكم ونواب شعب هم حاميها حراميها في رواتبهم ومخصصاتهم ومكافآتهم ورشاويهم.
⁃ هناك من الآلاف ممن يقبع في السجون دون احكام قضائية عادلة، وآلاف من القتلة والسراق ممن يعيشون في حرية.
⁃ ان الجوع والفقر والحرمان الذي يعاني منه الملايين يقبع في حسابات الأثرياء والأغنياء من ذوي السلطة المتنفذين.
⁃ يطالب حمورابي بأن يمثل وزراء الدفاع والداخلية والأمن الوطني في أقفاص المحاكمة عن الآلاف ممن قتل غدراً وهجر قسراً ونهب اعتداءً.
⁃ محاكمة مسؤولي الصحة والتعليم عن العبث بحياة الملايين ومستقبل أبنائهم المجهول.
⁃ الطلب بسوق الوزراء والمسؤولين عن العبث بالمال العام فساداً وهدراً وتبذيراً وسوء إدارة.
⁃ محاسبة الأبواق الروحية والثقافية عن تجهيل أبناء عراق الكتابة والحضارات واعتبار افعالهم جرائم بحق الإنسانية.
وفي خضم الضجيج والصياح والتنديد والشتائم يقف رئيس لجنة المناقشة ليعلن نتيجة الطالب حمورابي:
بناءً على تداول لجنة المناقشة لما عرضه الطالب حمورابي وما توصل اليه من مقترحات وما قدمه من توصيات، فقد قررت اللجنة بالاجماع:
رفض قبول عمل الطالب حمورابي واعتبار ما جاء فيه لا يتفق والمنهج العلمي للبحث والدراسة في عراق اليوم، وبالتالي فشل الطالب في دفاعه وحصوله على شهادة الدكتوراه.
كما توصي اللجنة باحالة الطالب حمورابي الى القضاء والسلطات التأديبية على ما ورد في دراسته من اتهامات باطلة!
يصفق الحاضرون وهم ينظرون الى حمورابي بازدراء ووعيد!
برلين، ٢٧/٧/٢٠٢١
ملاحظات في حرية التعبير وبناء الرأي العام في العالم الغربي
مثال قضية التعبير عن الرأي إزاء ما يحدث اليوم في تونس
تتوالى الأحداث يومياً وهكذا هي حياة البشر، فمن دون أحداث لا تعيش حياة. أحداث سياسية واخرى اقتصادية وثالثة تتعلق بهذا الشأن أو ذاك. هذه الأحداث تختلف في تفسيرها، لا بل وحتى عرضها، ناهيك عن ما يتمخض عنها من استنتاجات وما يبنى عليها من نتائج.
وكان، ولا يزال، تاريخ حكم المجتمعات يختلف في مدى حرياته في التعبير عن آرائه وتحديد مواقفه من الأحداث الجارية. فمنها ما هو مقيد عليه، ومنها ما هو يجيد لعبة حرية التعبير ويتمكن من التعامل معها والاستفادة منها.
نظرة على حرية التعبير والصحافة في الغرب:
يعيش الغرب منذ عقود من الزمان، وحتى منذ بعض القرون، حالة تفوق اقتصادي وثقافي وعسكري وسياسي. كما انه يقوم في ادارته لحياة شعوبه على مبادىء الحريات الفردية وحقوق الانسان وحريات التعبير التي كفلتها دساتيره استناداً الى اوضاعه الاقتصادية والثقافية وهي جميعها بالتالي حالة متفاعلة، مؤثرة ومتأثرة.
من هنا فإن حريات التعبير الصحفية هي ليست حالة استثنائية في ظل الاجواء السياسية والثقافية السائدة، لكنها ليست سائبة وفوضوية كما قد يتخيلها البعض ويخطىء في تقديرها.
كما ان بلدان الغرب تختلف في درجات تلك الحريات وأساليب وحدود تعبيرها.
كيف تسير وتفهم حريات التعبير في المانيا مثلاً، عن ما يحدث اليوم في تونس اثر قرارات الرئيس قيس سعيد باقالة رئيس الحكومة وتعليق أعمال البرلمان؟
اعرض ذلك من خلال تتبع مراحل التغطية الاعلامية التالية:
⁃ تناولت وسائل الإعلام وتناقلت خبر قرارات الرئيس التونسي.
⁃ أعلنت الحكومة الألمانية بأن تلك القرارات لا تعد انقلاباً على الشرعية والدستور، وهو موقف لا يتقاطع مع الموقف الامريكي.
⁃ في الايام التالية بدأت وسائل الاعلام بالتحدث عن مقاربات النهضة واخوان مصر، لكنها كانت تشير الى مدى قانونية ودستورية ما قام به الرئيس التونسي. وهكذا فتحت الصحافة ابواباً متعددة، في اطار سياسة نثر جميع الاوراق وتنويعها للقراء وصناع القرار وللاطراف المختلفة ليجد كل طرف ما يحاجج ويستشهد به.
وتحليلاً لذلك نستخلص:
⁃ ان وسائل الاعلام كانت متجاوبة مع الموقف الحكومي الالماني.
⁃ ان ذلك الموقف، كما سبقت الاشارة، لم يتقاطع مع الموقف الامريكي.
⁃ ان كل وجهة نظر محسوبة في التعامل معها بما يحقق سياسة ومصالح المانيا.
⁃ سيبقى الغرب في مبادىء ديمقراطيته وحرياته وحقوق انسانه يلعب على اوتار خلافات الاطراف في بلداننا.
⁃ ليس هناك من طرف، صديق أو عدو، لا يمكن عدم الاستفادة منه من قبل العرب في التعامل معنا في اطار مصالحهم الاستراتيجية.
⁃ ان الرأي العام الغربي هو دمية بين ايدي صناع ذلك الرأي من صحافة واعلام في اطار لعبة حرية التعبير والصحافة.
برلين، ٢٧/٢/٢٠٢١
الدساتير بين ازمان كتابتها، وأزمان تطبيقاتها في دول المحاكاة القاصرة
العراق انموذجاً
الدستور نضح سياسي وتشريعي وقانوني وقبل هذا وذاك أخلاقي وإنساني، يقوم لتنظيم العلاقة بين مواطني بلد ما، محدداً أبعاد حقوقهم وواجباتهم تجاه المجتمع الذي فيه يعيشون. كما أنه يستلهم في روحه قيم وعادات وتقاليد ذلك المجتمع الحية المتفاعلة مع الحياة في تطورها، والمستند الى ماضي يعتز به والى حاضر يقوم عليه ومستقبل يصبو له.
وعليه فإن الدساتير التي لا تلد ولا تحمل ما ذهبنا اليه من صفات ومواصفات وأسس لا تصبح طبيعية في روحها ونصوصها وسلاسة تطبيقها على افراد المجتمع. إن أجمل ” البدلات” وأكثرها إناقة لا تلائم جميع الأجسام ولا تليق ببعضها البعض.
من هنا فشلت وتفشل أغلب محاولات تجارب “فرض” دساتير، حتى ولو كانت مثالية أو نموذجية، على مجتمعات بشرية لا تتوافق في استعداداتها وخصوصياتها ومراحل تطورها مع تلك الدساتير.
ان مراجعة سريعة لتطبيقات الدساتير في أغلب الدول دستورية تؤكد حقيقة أثر الواقع ومعطياته على تلك التطبيقات وتطوراتها، أو ربما، الوقوف على انحرافات ونفاق في تلك التطبيقات.
لقد حصل ويحصل أن سقطت أو أسقطت أنظمة سياسية بسبب غياب دساتير لها أو ضعفها وتخلفها، ثم جرت محاولات استيراد أو فرض أو حتى التصويت ” الغوغائي” على دساتير لها، لكنها ما دامت سوى فترات قصيرة ليعيش ابناء مجتمعاتها حالات الانفصام أو التلاعب والتحايل عليها أو تجاهلها كلياً.
الخلل يكمن في ان هذه المجتمعات بحاجة الى دساتير تلائم مراحل تطورها الانساني والوطني والاخلاقي، ووعيها السياسي والقضائي. كما يمكن أن يكمن الخلل في اجهزة ومؤسسات حماية تلك الدساتير. وهنا يقوم جدل وقد يتحول الى جدل عقيم بين المدافعين عن قدسية الدساتير ومنظريها، والقائمهم اللوم على القائمين على تنفيذها، وبين أولئك الذين لا يرون فيها ملاءمة لواقع مجتمعاتهم وتطلعاتها.
فدستور المحتل “بريمر” الذي أجبر القوى السياسية العراقية على المصادقة عليه من أجل الاسراع في تشريع غنائمهم، هو مثال صارخ على دستور لا يناسب العراق دولة وشعباً وسيادة، ناهيك عن اخلاقه الوطنية ودوره. وهكذا نرى الشعب بكل قواه يخوض منذ احتلاله ووضع دستوره وانتخاباته معركة مستنقعات وأوحال زلقة!
برلين، ٢٨/٧/٢٠٢١