بين ثقافات الباشوات والخواجات وثقافة الغلابة
د. نزار محمود
قد تتعجب وانت تعيش في مجتمع تنوع ثقافاته، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مستتر وباطن. وقد لا يدعو الأمر للاستغراب، فليس هناكم مجتمع إنساني يخلو من ذلك تنوع.
قبل ثلاثين عاماً كنت قد انشغلت بكتابة دراسة “ صغيرة” حول الثقافة العربية في المانيا، تطرقت فيها الى تعريفات متعددة للثقافة، وقربها وبعدها بعض الشيء عن مفهوم الحضارة. كما تناولت تلك الدراسة تشعبات الثقافة في مجالات الحياة واختلاف مفهومها ودورها عند المجتمعات المختلفة زماناً ومكاناً، وحتى سياسة وأطيافاً وشرائح. فمفهوم الثقافة ودورها يختلفان في النظام الرأسمالي عنهما في النظام الاشتراكي أو الشيوعي، كما انهما يختلفان عند الأقوياء أو الأغنياء عنهما عند الضعفاء أو الفقراء.
وفي تقديري، وباختصار شديد، فإن الثقافة هي ما للإنسان من ملكات، فطرية أو مكتسبة، معرفية أو مهارية أو وذوقية، مما يعينه على اشباع حاجاته من مادية وغير مادية، وبالتالي ما يجعله سعيداً في سد حاجاته الأساسية وغيرها ومما يضيف لها متعة في الرضا والطمأنينة والذوق والجمال الإنساني.
لكن تلك الثقافة تختلف عند الباشوات عنها عند الخواجات وعندها عند الغلابة.
فالباشوات ذوي المكانية السياسية والاقتصادية لا تلهيهم الحياة كثيراً في شؤون تدبير حياتهم ومستلزماتها الأساسية المتوفرة لهم دائماً. لذا فان ما يبحثون عنه هو ما يشبع حاجات اخرى من حسية مضافة في النظر والسمع والشم واللمس! ان تراجيديا الحياة لا تلعب على مسارحهم ولا في افلامهم ولا تتضمنها رواياتهم ولا تحملها اللوحات المزينة لصالاتهم وقاعات وجدران قصورهم الفارهة. فما يسمعون له من موسيقى هي غيرها التي يطرب عليها عامة الناس، وهكذا موائد طعامهم وشرابهم وما يرتدونه من ملابس، وقبل هذا وذاك فإن اساليب تفكيرهم وعقلياتهم وقيمهم مختلفة كثيراً عن غيرها لدى غيرهم.
اما ثقافة الخواجات لمن تغرب في ثقافته وسلبته الثقافات الغالبة فلم يعد ابن البلد في ثقافته الشعبية. فهو لا يتكلم ولا يفكر مثلهم، ولم يعد يرتدي الجلابية المصرية ولا العقال العربي ولا الطربوش المغربي. لقد اصبح خواجة في لكنته وعاداته وارتياده للبارات والمراقص وسماعه للموسيقى الغربية وتلذذه بالروايات الاجنبية حتى المترجمة منها.
وفي تميز عن تلك الثقافتين تطغى ثقافة الغلابة في بساطة اشباع حاجاتها وموضوعات أعمالها وتراجيديا مسارحها وأفلامها. موسيقاهم غيرها وملابسهم، وقيمهم وطرائق معيشتهم وقناعاتهم البريئة تارة والساذجة تارة أخرى.
ان هذا التنوع في الثقافة لا يحميها غير تقبل الآخر بود وحميمية وفي بيئة سلم مجتمعي رضي باختلافاته.