هل المسلمون العرب عنصريون؟
أ. د. كاظم حبيب
هذا السؤال يلاحق المسلمين العرب على نحو خاص في أرجاء كثيرة من العالم، وغالباً ما يطرح هذا السؤال بصراحة ووضوح كبيرين، لاسيما لمن هم في الشتات العربي أو الإسلامي. فهل هناك ما يمكن أن يدعم ويؤكد صواب طرح مثل هذا السؤال أو أن هناك ما يفنده ويلغيه؟
لنبدأ الإجابة عن سؤال آخر هو: هل يولد الطفل، ذكراً كان أم أنثى، يحمل معه بذرة العنصرية والتمييز العنصري، أم أنه يولد صفحة بيضاء ناصعة، بغض النظر عما يطرحه بعض البيولوجيين ممن يروجون للنظرية العنصرية التي تقول بأن الإنسان إما أن يولدَ سيداً أو يولد عبداً، كما قال في ذلك أرسطو طاليس مثلاً. على وفق قناعتي وكل الدراسات العلمية تؤكد بما لا يقبل الشك بأن الطفل يولد صفحة بيضاء تلعب مجموعة من العوامل التي يعيش في ظلها أو تحت وطأتها هي التي يمكن أن تكتب على تلك الصفحة البيضاء فتجعل منه إنساناً سوياً أو عنصرياً في رؤيته لنفسه وللآخر، وبالتالي تعامله مع الآخر. العوامل التي يجري الحديث عنها كثيرة منها أساسية أو رئيسية كطبيعة علاقات الإنتاج السائدة في هذا البلد أو ذاك، ومستوى تطور القوى المنتجة وطبيعة النظام السياسي-الاجتماعي القائم والأحداث التاريخية التي مرّ بها المجتمع، والمستوى الحضاري الذي بلغه هذا المجتمع أو ذاك، ومستوى تعليم وثقافة أو أمية وجهالة ووعي الإنسان الفرد والمجتمع، وكذلك التراكم الثقافي ومستواه والتقاليد والعادات الاجتماعية التي يتسم بها المجتمع والتي تساهم في تكوين صورة الـ “أنا” والصورة الجمعية للمجتمع. كما يمكن أن تجد تجلياتها في التربية البيتية وطبيعة ومستوى التربية والتعليم بمستويات ومراحل الدراسة المختلفة، وفي الشارع والحقل والمعمل، إضافة إلى الثقافة والإعلام…إلخ. كما لا بد من الانتباه إلى انتشار واسع النطاق لوعي ديني واجتماعي زائفين في صفوف الأكثرية المسلمة لشعوب الدول العربية. كل هذه العوامل الكبيرة والصغيرة تترك أثرها القوى المباشر وغير المباشر على الفرد بمستويات أو درجات متفاوتة مع نمو الإنسان فكراً وثقافة ووعياً وعمراً. وهنا يمكن الحديث بشكل مكثف عن دور القاعدة الاقتصادية والاجتماعية والبناء الفوقي، الذي تتشكل منه السلطة والدين والثقافة.. إلخ في بناء الإنسان فكراً وممارسة. كل هذه الأمور وغيرها ينشأ فيها الفرد وتؤثر فيه وتساهم في تكوينه الفكري والاجتماعي والثقافي ومن ثم السياسي وفي التعامل اليومي مع نفسه ومع الآخر من بني شعبه أو من شعوب أخرى.
والسؤال الذي يطرح على المسلمين العرب يمكن أن يطرح على كل شعوب العالم، إذ أن ظاهرة التمييز بأشكال مختلفة، ومنها التمييز العنصري القائم على خطأ شائع مكرس منذ قرون بوجود أعراق عديدة في المجتمع البشري وليس “عرقاً” أو نوعاً واحداً هو الإنسان، أيا كان لون بشرته أو شكله أو لغته، ذكراً كان أم أنثى. ولو أخذنا منطقة الشرق الأوسط سنجد هذه الظاهرة موجودة في صفوف شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الشعب الفارسي في إيران، والشعب التركي في تركيا، وشعب إسرائيل، والشعب العربي في الدول العربية أو الشعب الكردي أو شعوب شمال أفريقيا المغاربية، على سبيل المثال لا الحصر. ويلح هذا السؤال أكثر حين يوجد في دولة ما أكثر من شعب أو قومية، كما في إيران وتركيا والسودان والعراق وإسرائيل وشمال أفريقيا المغاربية، وحيث يلاحظ وجود اضطهاد ضد من يطلق عليه بالأقلية من جانب الأكثرية.
لهذا فالسؤال الأكثر مشروعية وعدلاً هو: هل بين المسلمين العرب عنصريون، كما هو الحال في بقية شعوب العالم؟ اعتقد بأن الإجابة عن هذا السؤال تكون بـ “نعم” دون أي تحفظ، إذ نجدها بين العرب المسلمين، كما نجدها في صفوف بقية شعوب العالم، فهناك من هم عنصريون يمارسون التمييز بين الناس على أساس ما يطلق عليه بـ”الأعراق!”. ولكن السؤال الأهم والأكثر مسؤولية هو: ما مدى انتشار الفكر العنصري وممارسة التمييز من جانب العرب المسلمين إزاء شعوب أخرى؟ إن الربط بين العرب والإسلام، وربما مع بقية الديانات الإبراهيمية أو مع كثير من الديانات الأخرى كالهندوسية والبوذية والكونفشيوسية والطاوية في الصين…الخ عموماً، يتجلى في كتب هذه الديانات، سواء أكان في التوراة أو الانجيل أو القرآن، أو في كتب وتعاليم ديانات أخرى. والسؤال الذي نحن بصدده: هل العرب المسلمون عنصريون؟ علينا متابعة علاقة العرب بالدين الإسلامي على وفق ما ورد في القرآن، سواء في بروز هذه الظاهرة أو استفحالها، مع وجود ما يشير إلى غير ذلك أيضاً.
إجابتي الواضحة والشفافة عن هذا السؤال الكبير والمركزي دون تحفظ هي: ليس كل العرب ولا كل الشعوب تتسم بالعنصرية والعداء للآخر بأي حال، ولكن بين العرب وبين بقية شعوب العالم من هم عنصريون معادون للآخر أو لمن يُعتبر بينهم من الأجانب، سواء كبر عدد هؤلاء العنصريين أم صغر. فما هي حالة العرب المسلمين في المرحلة الراهنة؟
إن بروز مثل هذه الظاهرة السلبية يرتبط بعوامل كثيرة لا بد من متابعتها بروح بحثية علمية وموضوعية تهدف إلى وضع التصورات والبرامج الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجعة لمعالجتها من جذورها، بغض النظر عن ضعف وجودها أو قوة وسعة انتشارها في شعب من الشعوب أو في أي دولة من الدول. فالعنصرية بمفهومها العلمي تعني رؤية تمييزية دونية من جانب ألـ “أنا” نحو الـ “آخر”. إنها إيديولوجية سياسية- اجتماعية خاطئة ومضرة وخطيرة تدَّعي وجود أعراق مختلفة في المجتمع البشري، وأن هناك عرقاً يتفوق على بقية الأعراق، وعلى الأعراق الأقل شأناً خدمة العرق الأعلى شأناً كما في نظرية أبناء نوح سام وحام ويافت. ومن الملاحظ بأن الشعوب ذاتها لا تميل إلى التمييز بين البشر، بل إن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر التاريخ الطويل للبشرية كانت وما تزال هي المسؤولة، وهي التي تحمل أيديولوجيا عنصرية شوفينية تمارس النهج العنصري والتمييز بين المكونات القومية والدينية في المجتمع أو بين المجتمعات استناداً إلى رؤية نمطية (Stereotype) من قبل ألـ “أنا” إزاء ألـ “أخر” من منطلقات عديدة وأهداف متنوعة دونية تدفع بها إلى صفوف المجتمع وتغذيها باستمرار على وفق طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع وطبيعة الحكم السياسي القائم وأهدافه ومآربه.
التمييز بين البشر ظاهرة قديمة أكثر قدماً في ظهورها من النظريات العرقية التي ارتبطت بعهود الاستعمار الأوروبي لقارات الكرة الأرضية الأخرى بشكل خاص واختلطت بتفسيرات دينية ظهرت قبل ذاك لتبرير الهيمنة الاستعمارية والاستغلال الاجتماعي لشعوب كثيرة أو في إطار دولة واحدة بين قوميات أو قبائل عديدة. لقد ظهر التمييز مع نشوب حروب بين العشائر والقبائل ووقوع أسرى بين الطرفين المتحاربين أولاً، كما برز أيضاً مع بروز وتطور تقسيم العمل الاجتماعي وتطور الملكية الفردية وتباين الحالة الاجتماعية، وممارسة العبودية والقنانة في النظم الاجتماعية العبودية (الرق) والإقطاعية (القنانة) على سبيل المثال لا الحصر. كما برز التمييز ضد المرأة مع تحول إدارة العائلة أو القبيلة من المرأة إلى الرجل في مجرى التاريخ البشري والتحول صوب الزراعة واستقرار المجاميع البشرية في مكان ما.
لم تكن ظاهرة وأد البنات قد برزت لدى أتباع الدين اليهودي ولا لدى أتباع الدين المسيحي في الجزيرة العربية أو في العهود القديمة في بلاد ما بين النهرين أو مصر الفرعونية رغم ظهور هاتين الديانتين في هذه المنطقة من العالم، ولكنها ظهرت فيما يطلق عليه بالجاهلية لدى العرب قبل الإسلام والتي أشار إليها القرآن كتاب المسلمات والمسلمين.
لقد مارس العرب قبل الإسلام التمييز بأربع صيغ هي: أسرى حروبهم، وذوي البشرة السوداء، والحالة الاجتماعية، أي التراتبية الاجتماعية، وإزاء النساء، حتى وصل بهم الأمر إلى وأد بناتهم بعد الولادة. كما مورست العبودية من قبل حكام اليهود والمسيحيين في التاريخ أيضاً.
وبالنسبة للعرب فأن ظهور محمد ودعوته للإسلام وما سجل بعد ذلك في القرآن يشير إلى أنواع من التمييز التي أقرها الإسلام والتي يمكن الإشارة إليها في الآتي، على وفق آيات قرآنية:
** ورد في القرآن تحريم وأد الإناث وإدانته “وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ” (القرآن، سورة التكوير الآية 8). وما تزال هذه الظاهرة موجودة في الهند مثلاً.
** ولكن القرآن، وليس الأحاديث المنسوبة للنبي محمد، لم يلغِ التمييز ضد المرأة لصالح الرجل بل كرسه وأكد عليه في أكثر من آية قرآنية، بما في ذلك الآية الواردة في سورة النساء: ” الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا”. (القرآن، سورة النساء، الآية 34). كما اقر القرآن قاعدة الزواج بأربع نساء كما في الآية 3 من سورة النساء «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» (سورة النساء: آية 3)، كما أجاز النكاح بالجاريات والأمات إلى جانب الزوجات، إذ جاءت في الآية 24 من سورة النساء: “وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ…”.
** لم يحرم العبودية، بيع وشراء العبيد، ولكنه شجع على عتق العبيد من النساء والرجال. وقد مارسه الحكام والمجتمعات في فترة الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعباسية والعثمانية والدولة الفاطمية وكذلك في الأندلس في حكم المسلمين لها. كما مورس في السعودية والخليج ومصر والسودان فترة طويلة جداً، ومازال يوجد بصورة مبطنة في أكثر من بلد عربي في الوقت الحاضر، لاسيما إزاء البشر من ذوي البشرة السوداء. وهنا نورد الآيات القرآنية التي لا تُحرّم العبودية:
- ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿١٨٢ آل عمران﴾
- ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿٥١ الأنفال﴾
- ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿١٠ الحج﴾
- وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿٤٦ فصلت﴾
- مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴿٢٩ ق﴾
** تؤكد الكتب السماوية الثلاث على التمييز بين البشرة، ومرة أخرى تؤكد أن لا فرق بينهم، كما جاء في القرآن، سورة الحجرات قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) .
يعتقد ويؤكد جزء كبير من اليهود، لاسيما في إسرائيل، بأنهم شعب الله المختار، استناداً لما جاء في العهد القديم (التوراة) الإصحاح الرابع عشر، سفر التثنية (2:14) ما يلي: “لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ.” ولدى المسيحيين يسري الموقف ذاته إذ أن الإنجيل والنبي عيسى لم يلغ ما جاء به التوراة والنبي موسى.
أما في الإسلام فقد وردت آية 110 من سورة أل عمران صريحة وهي على النحو التالي: ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ.”.
وهذا التمييز موجود في التراتبية الاجتماعية للديانات القديمة أيضاً والتي ما تزال موجودة حتى الآن ولها مؤيدوها، سواء أكان ذلك في الهند والصين وعموم جنوب شرق اسيا أم في الشرق الأوسط. وقد نسب إلى النبي محمد قوله: ” ربكم واحد، وإن أباكم واحد، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى”.
** والتمييز يتخذ بعداً اجتماعياً تراتبياً بسبب غياب العدالة عن المجتمعات البشرية بسبب طبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة فيها والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفاعلة فيها. والديانات تشير إلى كلمة العدالة ولكن لا يتبلور فيها مبدأ العدالة الاجتماعية، فهي تتحدث عن الغنى والفقر ومطالبة بعضها للأغنياء بالتصدق والإحسان والرحمة بالفقير كما في الآية 90 في سورة النحل: “﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. أو في الآية التالية من سورة التوبة: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60).
** حول دور الدين في التمييز بين الأديان
إن التمييز لا يبرز فيما بين الشعوب فحسب، بل يبرز أيضاً في الشعب الواحد على شكل تباين وتمييز بين القبائل وبين اتباع الديانات والمذاهب أو بين الغني والفقير، أو سكان المدن والأرياف …الخ. والتمييز العنصري يمكن أن يجمع فيه جملة متداخلة من صيغ التمييز التي تصل إلى حد العزل العنصري أو يقود إلى صراعات ونزاعات وحروب دامية يكون ضحيتها البشر ذاته.
ففي القرآن تشكيك كبير بأتباع الديانة اليهودية والمسيحية، كما ورد في سورة المائدة الآية التالية:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. (51). أو: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ﴿٦٤ المائدة﴾، أو: “أشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمنوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ”. ﴿٨٢ المائدة﴾.
أو الآية الآتية في سورية البقرة:
“قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (136-137), أو قوله: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ”. سورة آل عمران:85].
** لو تابعنا التمييز العنصري عند العرب سنجده موجوداً سابقاً وفي الوقت الحاضر في كل الدول العربية إزاء الأفارقة: أمثلة صارخة:
** السودان موقف الحكومات وغالبية العرب الشماليين إزاء جنوب السودان أو غربه مما أدى إلى انفصال الجنوب وتشكيل دولة خاصة بهم، ولكن التمييز في الشمال إزاء الجنوبيين مازال سائداً. (راجع: العنصرية: لماذا يوصف السود بـ”العبيد” في السودان؟” موقع بي بي سي، 26 تموز/يوليو 2020). (راجع أيضاً: عبد الحميد عوض، العنصرية في السودان… قوانين جديدة لمكافحة جميع أشكال التمييز، موقع العربي الجديد، في 09/07/2020).
** العراق موقف الحكومات والغالبية العربية إزاء الكرد أو الأفارقة السود في جنوب العراق من الناحية القومية أو الأثنية أو إزاء قوميات أخرى كالموقف من الكلدان والآشوريين والسريان أو إزاء التركمان والفرس. (راجع: كاظم حبيب، محن وكوارث أتباع الديانات والمذاهب في العراق، موقع الحوار المتمدن).
** الدول المغاربية لاسيما المغرب والجزائر في موقف الحكومات والعرب إزاء الأمازيغ، سكان البلاد الأصليين. (راجع: د. كاظم حبيب، المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب، صوت الصعاليك، برلين في 7/05/2021). وكذلك في الحوار المتمدن.
** الحكومات المصرية وغالبية المصريين العرب إزاء السودانيين عموماً لاسيما الجنوبيين منهم. (راجع: “السودانيين” في مصر ضحايا التمييز العنصري وسوء المعاملة والعنف الجسدي..: تحقيق، موقع الراكوبة، 18/07/2015). أو التمييز ضد السود في السعودية. (راجع: السود عبيد في السعودية، منصور الحاج، موقع صوتك … صوت النهضة).
لا شك في ان ما ورد في القرآن يؤثر بشكل مباشر على المؤمنين والمؤمنات منهم من أتباع الديانة الإسلامية. ولكن الأكثر بروزاً وفعلاً هو دور النظم السياسية السائدة وشيوخ الدين في تعميق هذه الظاهرة السلبية لدى كثرة من المسلمين العرب. وأشير مرة أخرى إلى أن الكراهية ضد اليهود ليست جديدة بل قديمة منذ فترة النبي محمد وفي فترة الخلفاء الراشدين لاسيما الخليفة عمر بن الخطاب الذي طردهم من موطنهم في الجزيرة شبه الجزيرة حين ” أصر عمر بن الخطاب ألا يترك بجزيرة العرب دين وقد أصبح للعرب في شبة الجزيرة العربية كلها دين واحد ارتضوه في عهد رسول الله “، (راجع: سامح عبد الله، لماذا أجلى عمر بن الخطاب اليهود والنصارى من المدينة، موقع الجديد 13/06/2018)، كما حصل في كل الإمبراطوريات التي نشأت بعد ذاك. ويمكن للنموذج التالي أن يوضح صورة التمييز ضد من هم من ديانات أخرى: ” فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن إيراد الحادثة التالية التي تكشف عن ممارسة التمييز الديني بين البشر لدى الحكام المسلمين في ذلك الزمان، في حين أنها كانت أفضل من ذلك بكثير في التعامل اليومي فيما بين عامة أفراد الرعية من مختلف الأديان والمذاهب. “فقد أورد الدكتور عبد العزيز الدوري (1919-2010م) في كتابه “تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري” مقتطفاً منقولاً عن القفطي في كتابه “تاريخ الحكماء “ليدلل على شمول عناية علي بن عيسى (245-334هـ) بالقرى والأرياف وشمولها بالرعاية الصحية، إذ كتب الأخير في عام 301 هجرية إلى الطبيب سنان بن ثابت (توفى 975م) ما يلي: “فكرت فيمن بالسواد من أهله، وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء، فتقدم… بإنفاذ متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره. “ولما وصل الأطباء إلى سورا ونهر الملك وجدوا أن أكثر السكان يهود. فاستفسر سنان من الوزير عن رأيه في معاملتهم وأوضح “أن الرسم في بيمارستان الحضرة قد جرى للملّي والذمّي. “فكتب علي بن عيسى: “ليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب، ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به، معالجة الناس قبل البهائم، والمسلمين قبل أهل الذمة، فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم. فاعمل… على ذلك” (أنظر، د. عبد العزيز الدوري، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995). ورغم ما يملكه الدكتور الدوري من حس مرهف للكلمة، فأنه لم ينتبه، في أحسن الأحوال، وعلى الأقل لم يشر بأي شكل إلى الموقف التمييزي المجحف والصارخ الذي تجلى في خطاب علي بن عيسى والذي كان يمارس من قبل الحكام وولاة وأمراء الدولة العباسية حينذاك، وكأن التمييز بين الناس، بين المسلمين وغير المسلمين مسألة طبيعية واعتيادية حتى في مجال العلاج الطبي.”. (أنظر: د. كاظم حبيب، “مسيحيو العراق أصالة…انتماء…مواطنة. مسودة الكتاب حيث حذف الرقيب السوري عدة صفحات من الكتاب بسبب اتهامه للحكام العرب بالتمييز ضد اليهود، وهي عنصرية جديدة وعدم أمانة في طبع الكتاب، كاظم حبيب).
إن ما زاد في الرؤية التمييزية سوءاً قيام دولة إسرائيل وتقسيم فلسطين ودور الصهيونية، كفكر قومي يميني متطرف، في الموقف من العرب في إسرائيل، ثم الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة منذ عام 1967، ثم الخروج من غزة والبقاء في الضفة الغربية والقدس الشرقية كمناطق فلسطينية محتلة من قبل إسرائيل، وهي المناطق التي تعتبر جزءاً من الدولة الفلسطينية الموعودة بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. كما يلعب الحصار المفروض على قطاع غزة دوره الكبير في تعميق وتوسيع الكراهية ضد إسرائيل وإزاء اليهود أو ما يطلق عليه بـ”ضد السامية”، علماً بأن العرب يعتبرون ضمن التقسيم الشائع من الشعوب السامية ايضاً.
لقد أثر الفكر الديمقراطي والتقدمي، لاسيما اليساري، في التخفيف من غلواء التمييز بمختلف أشكاله، وهنا كثرة من العرب لا يمارسون كثرة من أنواع التمييز، ولكن ما يزال العداء لليهود يلعب دوراً واضحاً في نهج كثرة من الأحزاب العربية وبين صفوف العرب المسلمين أو حتى في صفوف المسيحيين.
ورغم كون اليهود على الصعيد العالمي قد عانوا من التمييز والكراهية والعداء، وما حصل لهم وما ارتكب بحقهم من جرائم وإبادة جماعية في فترة النازية الهتلرية في المانيا وعلى الصعيد الأوروبي بشكل خاص، بما في ذلك المحرقة النازية (الهلوكست) البربرية، فأن في الأوساط الحاكمة في إسرائيل وكثرة ممن يحملون الفكر القومي اليميني اليهودي المتطرف والعنيف (الصهيونية)، وليس كل اليهود طبعاً، تسود النزعة التمييزية ضد العرب والمسلمين أو ضد غيرهم، بل وضد اليهود السود في إسرائيل. وهو أمر مرتبط بالدين من جهة، وبالنهج والسياسة والسلوك القومي اليميني المتطرف، أو الشوفينية والعنصرية المستندة إلى خرافة “شعب الله المختار”!، إضافة إلى امتداد الاحتلال لما يقرب من 54 عاما، والتعامل التمييزي بين اليهود والعرب لصالح اليهود وضد العرب وتنامي المستوطنات اليهودية في المناطق العربية من فلسطين (الضفة الغربية والقدس الشرقية، واستمرار التطهير العرقي والتغيير الديمغرافي للمناطق العربية لصالح المستوطنين اليهود النازحين من أوروبا وبقية دول العالم إلى إسرائيل. إن هذه السياسة العنصرية والاستيطانية والاستعمارية المستمرة منذ 54 عاماً تزيد من الكراهية والأحقاد وتعمق الشرخ الكبير القائم بين العرب واليهود، وهو في غير صالح التعايش السلمي والديمقراطي المنشود بين الإسرائيليين اليهود والعرب في إسرائيل وبين الشعب الإسرائيلي والشعب الفلسطيني عموماً، وكذلك بين الدولة الإسرائيلية والدولة الفلسطينية المرتقبة والسلام في عموم منطقة الشرق الأوسط.
من هنا يمكن الإجابة مرة أخرى عن السؤال الأساسي: هل العرب عنصريون؟، ليس كل العرب عنصريين، ولكن وفي الوقت الحاضر نسبة عالية منهم عنصريون، سواء بسبب الجهل والأمية الفكرية والاجتماعية أو الوعي المزيف والإيديولوجية اليمينية المتطرفة، كما أن نسبة عالية من يهود إسرائيل عنصريون أيضاً ولذات الأسباب، كما تشير إلى ذلك دراسات علمية وموضوعية حول إسرائيل. وهي حالة متشابكة ومتفاعلة ومتبادلة التأثير. ومعالجة هذه القضية لا تتعلق بالقضية الفلسطينية وحدها، بل بعدد كبير من العوامل الفاعلة والمؤثرة، سواء أكانت عوامل تاريخية ودينية وأيديولوجية وتربوية وثقافية وسياسية ومكانية ونفسية. والتي هي بحاجة إلى مقالات كثيرة ومعمقة لمعالجتها على مدى طويل ودؤوب وغير منقطع.
27/05/2021