المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب
د. كاظم حبيب
الفهرست
المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب
أولاً: واقع الديمقراطية وحقوق الإنسان في الدول المغاربية
ثانياً: الواقع القومي في الدول المغاربية والمشكلة الأمازيغية
المملكة المغربية
الجمهورية الجزائرية
الجمهورية التونسية
الخلاصة
أولاً: واقع الديمقراطية وحقوق الإنسان في الدول المغاربية
كانت وما تزال الدول المغاربية الثلاث (المغرب والجزائر وتونس) تستند إلى نظم سياسية متباينة من حيث الإطار (ملكية أو جمهورية) ومتماثلة من حيث البنية والوظائف والمضمون، ومشتركة من حيث السبل والوسائل والأدوات التي مارستها إلى حدود كبيرة. اشتركت أحيانا واختلفت أحيانا أخرى، ثم تماثلت في اعتمادها على قطاع الدولة أو القطاع الخاص مثلا، أو في محاولتها استخدام أدوات البرمجة الاقتصادية وفي صياغتها للنشاط التنموي خلال فترات مختلفة في أعقاب انتزاعها الاستقلال السياسي وتخلصها من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية المباشرة عليها وسعيها لبناء اقتصاداتها الوطنية المستقلة. والتقت جميعها في واقع مشترك خلال سنوات طويلة، وأن بدا أحيانا أنها حاولت تغييره، ولكنها ما تزال فيه، ونعني به قيام حكومات هذه البلدان بمصادرة وتغييب أو تقنين حرية الفرد والمجتمع والديمقراطية وحقوق الإنسان. وهو تعبير عن ضعف ثقة حكام هذه البلدان بشعوبهم وفي قدرة هذه الشعوب على ممارسة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ولكن هؤلاء الحكام ما زالوا يدللون على ضعف فهمهم لهذه الشعوب وقلة استفادتهم من تجارب ودروس التاريخ ورغبتهم في الهيمنة والاستبداد والتحكم برقاب الناس، إضافة إلى التزامهم ودفاعهم عن مصالح فئات قليلة مهيمنة في المجتمع على حساب الغالبية العظمى من الشعب. وشعوب هذه البلدان تخوض اليوم صراعا قاسيا يجسد إرادتها المشتركة المناهضة للاستبداد وتنامي وعيها لضرورات وجود حياة حرة وديمقراطية، وإلى إجراء إصلاحات جذرية في الدساتير والنظم الإدارية على أسس ديمقراطية لضمان تطورها الاقتصادي وتقدمها الاجتماعي وفرض احترام والتزام الدولة في البلدان الثلاث بالديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان وممارستها لها فعلياً من جهة، والسعي لتجاوز التخلف والفقر والتوزيع وإعادة التوزيع غير العادلين والسيئين للثروة الاجتماعية .
ليس من حق أي باحث أن يصادر المنجزات التي حققتها شعوب هذه البلدان في مسيرتها الطويلة، سواء كان ذلك الجهد الذي وجه لطرد المستعمرين الفرنسيين وانتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية، أم في سبيل بناء الدولة الوطنية واستثمار خيرات البلاد ومواردها البشرية والأولية. وتحقق الكثير على هذا الطريق بفعل الجهود الكبيرة التي بذلتها شعوب هذه البلدان المنتجة للخيرات المادية خلال أكثر من أربعة عقود منصرمة. ولكن الواقع يشير بما لا يقبل الشك إلى أن الطريق الذي انتهج في عملية التنمية لم يكن هو الطريق الأفضل والأساليب لم تكن هي الأحسن، كما أن العلاقات بين المجتمع والدولة والحكومات المتعاقبة لم تكن هي المناسبة والصحيحة لتحقيق منجزات أكبر وأفضل لمصلحة شعوب هذه البلدان، كما أن المستفيد من هذه المنجزات لم تكن شعوب هذه البلدان بالدرجة الأولى، بل كانت مجموعات قليلة من السكان من مالكي وسائل الإنتاج والنخب الحاكمة والدول الأجنبية التي كانت وما تزال تتعامل مع هذه البلدان بعيداً عن التكافؤ والاحترام والمصالح المتبادلة. ولهذا يجد الدارس لاقتصاديات هذه البلدان وأوضاع الجماهير فيها نسبة مهمة من السكان تعيش تحت خط الفقر المقرر دوليا لشعوب البلدان النامية، إضافة إلى حالة الفقر العام، ونسبة البطالة العالية فيها أيضا، في مقابل فئات صغيرة تزداد ثروتها يوما بعد أخر وتزداد رفاهيتها المعاشية. وهذا الواقع يقود إلى استقطاب في المجتمع، إلى بروز مجموعتين من السكان: الأغنياء بشكل فاحش والفقراء بشكل مهين لكرامة الإنسان، مجموعة صغيرة ومجموعة كبيرة جدا، في حين تتراجع وتتقلص يوما بعد آخر الفئات الوسطى من بنية المجتمع الطبقية تدريجا. ومثل هذه الحالة تقود دون أدنى ريب إلى مزيد من التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية والنزاعات السياسية. ويتخذ هذا المجرى حدة أكبر عندما تغيب الديمقراطية أو تقنن في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعندما تصادر حقوق الإنسان فيها. فالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية تشكل الركائز أو الدعائم القويمة لحكم الشعب الراسخ والمتطور والقاعدة المادية لممارسة سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية وتقنية حديثة منسجمة مع مصالح وحاجات وإمكانيات المجتمع ومستفيدة بصورة عقلانية من علاقاتها الاقتصادية والمتعددة الجوانب مع الدول العربية والإقليمية الأفريقية والأوروبية وغيرها على الصعيد الدولي.
قطعت هذه البلدان أشواطا متباينة في مجالات التنمية والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وفي بناء المجتمع المدني الديمقراطي. إذ اقترنت المسيرة بمد وجزر، بصعود وهبوط، بإحراز نجاحات أو تلقي ضربات وإخفاقات، وبعلاقات متشابكة ومتداخلة على الصعد الأفريقية والعربية والإقليمية والدولية في آن واحد. وتجارب البلدان الثلاث، وأن تباينت نسبياً، تشير إلى أنها عجزت عن تحقيق التفاعل والتأثير المتبادل والإيجابي في مجمل مكونات عملية التطور الاقتصادي والتقدم الاجتماعي وعن التأثير الفعال في العلاقة العضوية بين عملية التنمية الاقتصادية وعملية التنمية الاجتماعية أولاً، وفي ما بين هاتين العمليتين من جهة وبين ممارسة فعلية لمبادئ الحرية والديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان. ولم يكن المجتمع هو السبب في ذلك بل سلطة الدولة التي لم تستجب لحاجات المجتمع وطموحاته ولم تسع بما فيه الكفاية لتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية لبلدانها. وهذا يعني بأن السياسات التي مارستها حكومات هذه البلدان في تلك المجالات وفي القسم الأعظم من سنوات هذه الفترة الطويلة نسبيا، فيما عدا فترات زمنية قصيرة جداً، تميزت بمصادرة فعلية وتغييب متعمد وهادف أو تقنين صارم ومقصود من جانب حكوماتها لمبادئ الحرية والديمقراطية وشرعة حقوق الإنسان. ولعبت هذه الاتجاهات والسياسات دورا سلبيا في، وحرمت أفرادها ومجتمعاتها من، تنمية وتعميق وعي الإنسان المغاربي بالديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان والالتزام بها والدفاع عنها. ولكنها حفزت في الوقت نفسه، رغم كل التضحيات، القوى السياسية المعارضة إلى مواجهة تلك السياسات والسعي لتعميق الوعي الديمقراطي والتصدي لسياسات الاستبداد والظلم الاجتماعي. وكانت لسياسات الدولة في هذه البلدان تأثيرات سلبية مباشرة وغير مباشرة على وجهة التنمية وعلى علاقة الناس بالدولة والتنمية وقوانين البلاد، وكذلك على العلاقات في ما بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية، وعلى علاقات المجتمعات والدول المغاربية في ما بينها أولاً، ومع المجتمعات والدول الأخرى ثانياً. وفي الفترات التي عرفت هذه البلدان انفتاحا نسبيا ومحدودا ومقننا على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، اعتبرت تلك الحرية والديمقراطية في الغالب الأعم ليست حقا مشروعا وطبيعيا وثابتا لا يتزعزع من حقوق الإنسان ومن حقوق المجتمع الثابتة والدائمة التي لا يجوز التعرض لها وانتهاكها أو حتى ثلمها، بل اعتبرت وكأنها منحة وعطاء من قبل الحاكم لرعاياه أو شعبه، سواء كان ملكا أم رئيسا لدولة جمهورية، ومن حقه أن ينتزعها متى شاء ومتى “برهن” الشعب على أنه “غير مؤهل” لها!، رغم إن الشعب يعتبر في المجتمعات المدنية الحديثة والديمقراطية مصدر السلطات. وشكلت هذه الرؤية الاستبدادية الطامة الكبرى التي كانت وما تزال تكمن في هذه الذهنية والآلية الاستبدادية وفي فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع. وفي هذا النهج غير العقلاني لا تنفرد الدول المغاربية بل تشاركها بقية الدول العربية. وفي ضوء ذلك شهدت الفترات المنصرمة مدا وجزرا في هذا الصدد، انتهى الأمر في الجزائر إلى تفاقم في العلاقات غير الديمقراطية ومصادرة مستمرة لحقوق الإنسان الواردة في الشرعة الدولية وإلى نزاعات دموية راح ضحيتها عشرات ألوف الناس الأبرياء. وكان الإرهاب الذي بدأ من الدولة انتهى بالدولة وبعض الفئات “الإسلامية ” المتطرفة. وسار الأمر في المغرب باتجاه التحسن النسبي البطيء، ولكنه ملموس في الممارسات الديمقراطية مع فرض رقابة صارمة ومستمرة ومخلة على الشعب بسبب الخشية منه، إذ ما تزال تلك الحرية والديمقراطية تعتبر مكرمة من الملك وليست حقاً ثابتاً للشعب ودائم التطور. وانتهت الأمور في هذه الدولة في عامي 2000 و2001 إلى تقديم جمهرة كبيرة من نشطاء ومسؤولي منظمات حقوق الإنسان في المغرب إلى المحاكمة والحكم على عدد كبير منهم بالحبس والغرامة. وفي تونس ما تزال أجهزة الأمن تمارس القمع ومصادرة حقوق الإنسان وتمسك بزمام الوضع بقبضة من حديد. ومات بعض المدافعين عن حقوق الإنسان تحت التعذيب أو بسبب الإضراب عن الطعام احتجاجاً على ممارسات السلطة.
والسؤال المشروع الذي يدور في البال هو: إلى متى سيتحمل الشعب هذا الوضع المزري؟
لا شك في أن مصادرة أو تغييب أو تقنين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان من جانب الدولة في هذا البلد المغاربي أو ذاك، مع الادعاء بوجود مجتمع مدني ديمقراطي، قد دفع بهذا المجتمع أو ذاك إلى مواقع الدفاع عن النفس والصدام بالدولة، واندفعت القوى المهيمنة على الحكم، مستندة إلى ذهنيتها الاستبدادية، إلى مزالق الدفاع عن مواقعها ومواقع الفئات المالكة لوسائل الإنتاج والأثرياء، مما تسبب في ممارسات استبدادية وإرهابية أعنف وأكثر ضراوة، وأن تباينت في حدتها وشدتها وقسوتها وصيغ ممارستها من بلد إلى آخر ومن فترة إلى أخرى، كما نراها في تجارب تونس والجزائر والمغرب، إضافة إلى سقوط ضحايا بشرية كثيرة، مثلما شاهدناها في العقد الأخير من القرن العشرين، والتي ما تزال مستمرة حتى الآن، بسبب أحداث العنف المتطرفة في الجزائر، حيث انتعشت وتغذت الأصولية الدينية المتطرفة على ذلك الواقع وساهمت في تأجيج العنف والعنف المضاد وأدت إلى سقوط ضحايا كثيرة وإلى تحميل البلاد خسائر مادية وحضارية كبيرة جدا. وهي جزء لا يتجزأ من التنظيم الدولي الإسلامي المتطرف الذي يقوده إسامة بن لادن ومجموعات أخرى مماثلة تعمل في أغلب البلدان ذات الأكثرية الإسلامية، وهذا ما نشاهده اليوم في كردستان العراق حيث تقوم بعض الجماعات “الدينية” المتطرفة والصغيرة مثل “جند الإسلام” وفيما بعد أطلقوا على أنفسهم “أنصار الإسلام”، وهو منهم براء، بعمليات ذبح الناس وتخريب المشاريع الاقتصادية وتفجيرات في المحلات العامة ونبش قبور أئمة المسلمين، كما حصل بالنسبة لقبر شيخ الطريقة النقشبندية في كردستان العراق، إذ أنهم يعتبرون كل الذين لا ينتمون لحركتهم كفرة ومارقين يجب التخلص منهم.
وتجلى تأثير كل ذلك في الدول المغاربية وانعكس على مسيرة ونتائج التنمية الاقتصادية والاجتماعية وعلى مستوى حياة ومعيشة الغالبية العظمى من سكانها، وعلى العلاقة بين الدولة والمجتمع. فأدت أحداث الجزائر إلى تعطيل فعلي لعملية التنمية ولا يمكن للإنسان إلا أن يحمل الدولة الجزائرية والحكومات المتعاقبة فيها المسؤولية الأساسية والرئيسية لما جرى ويجري حتى الآن، دون غض الطرف أو السكوت عن المسؤولية الفعلية الكبيرة أيضاً التي تتحملها القوى السياسية الإسلامية المتطرفة والإرهابية وفرق القتل الهمجي والعدواني للسكان الأبرياء.
قاد تغييب أو تقنين الديمقراطية إلى تراجع التفاعل والتأثير المتبادل والعلاقات الحميمية التي نشأت بين القيادات السياسية في خضم النضال الثوري ضد الهيمنة الاستعمارية الفرنسية وبين الجماهير الشعبية التي كانت أداة ووقود هذا النضال، كما ساهم في خلق إحباط كبير عجزت الجماهير معه عن قطف ثمار هذا النضال، باعتبارها كانت أداة وهدف ذلك الكفاح المرير. وتحول بعض القادة الثوريين إلى حكام مستبدين ومستغلين يقفون على رأس نظم وأجهزة فاسدة. وسنوات التجربة المنصرمة لم تدلل إلا على أن الجماهير الواسعة كانت أداة ووقودا ولم تكن يوما ما هدفا لنتائج هذا النضال المظفر، بمعنى إنها لم تستفد عمليا من نتائج نضالها السياسي المظفر ضد الهيمنة الفرنسية ومن تضحياتها الكبيرة، إذ سرعان ما ساءت العلاقة وتدهورت الأوضاع وتحولت أغلب القيادات السياسية التي تسلمت الحكم إلى جزء من أجهزة بيروقراطية منفصلة عن المجتمع وتدافع عن مصالح فئة أو طبقة معينة دون غيرها وتبتعد عن مصالح الجماهير الواسعة، أي أنها في المحصلة النهائية لم تضع مصالح الشعب الأساسية نصب عينيها، إذ لو كان الأمر كذلك لأطلقت الحرية والديمقراطية ومارست حقوق الإنسان وسمحت لطاقات الجماهير بأن تعبر عن نفسها وأن تشارك في عملية التنمية وفي التمتع بثمار التحرر السياسي بعد أن عانت الأمرين تحت الاحتلال والهيمنة الفرنسية. وقاد هذا التدهور في العلاقة إلى نشوء فجوة كبيرة ومتسعة باستمرار بين الحكام وأولئك الذين سيطروا على الأرض والثروة من جهة، وبين الجماهير الشعبية، وبين الأحزاب السياسية الحاكمة والأحزاب السياسية المعارضة، سواء سُمح لها بالنشاط العلني أم صودر حقها في تأسيس أحزابها السياسية العلنية ومنظماتها المهنية. وتجربة الجزائر تشير بوضوح كبير إلى هذا المجرى غير الإيجابي، في حين اختلفت تجربة تونس قليلا عنها في موقفها المتردد والمتذبذب إزاء وجود أحزاب علنية بجوار الحزب الحاكم، وفي حالة وجودها كانت الجهود تبذل لتطويعها لمصالح الحكم وإرادة الحاكم. أما تجربة المغرب فكانت مختلفة منذ البدء، حيث وجدت بعض أحزاب المعارضة منذ بدء الاستقلال، ولكنها في الممارسة العملية والمحصلة النهائية، كانت لا تختلف كثيرا عن التجربتين التونسية والجزائرية. وفي السنوات السبع المنصرمة سمحت المؤسسة الملكية التي جابهت أزمة مستفحلة، فوافقت على مبدأ التعددية السياسية والتناوب أو تداول السلطة التشريعية والتنفيذية بين الأحزاب السياسية حسب مخطط المؤسسة الملكية مع بقاء السلطتين معا تحت هيمنة وتوجيهات وأوامر السلطة الملكية. إن هذه التجربة، ورغم نواقصها الكثيرة ما تزال فتية، وهي متواصلة حتى بعد وفاة الحسن الثاني واعتلاء محمد السادس عرش البلاد في السنة الأخيرة من الألفية الثانية للميلاد، وهي بحاجة إلى تغييرات حقيقية بحيث تستند إلى الدستور وإلى انتخابات نزيهة وإلى الاستقلال في سياساتها والتعبير عن مصالح الشعب المغربي. ولا بد هنا من الإشارة الواضحة إلى أن أحزاب المعارضة عندما تسلمت الحكم من الأحزاب المحافظة واليمينية كانت قبل ذاك قد شككت بصحة الانتخابات والنتائج التي تمخضت عن خوضها لها، بسبب عمليات التزوير التي قامت بها وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية وفق رغبة المخزن (تعبير يستخدم في المغرب ويعبر عن مركز الحكم المحيط بالملك)، ولكنها وافقت على تسلم زمام الحكومة لتدلل على حسن نواياها وطموحها في إجراء تغييرات جوهرية وإصلاح ديمقراطي في البلاد، والذي لم يتحقق كما هو مطلوب على امتداد الفترة المنصرمة. فالمخزن، أو سلطة الإدارة الملكية ما تزال هي الحاسمة في المغرب، وليست سلطة الشعب.
إن تغييب الديمقراطية أو تقنينها في البلدان المغاربية الثلاث تجلى أيضاً في موقف الحكم من الشعب الأمازيغي ومن مطالبه العادلة في الحفاظ على قوميته وتطوير لغته القومية وثقافته الوطنية الأمازيغية. فالحكم في هذه البلدان يطرح عروبتها أولاً دون الأخذ بالاعتبار وجود القومية الأمازيغية والأصل والثقافة والتاريخ الأمازيغي، ويرفض حقها في استخدام هذه اللغة في التعليم بمختلف مراحله إلى جانب اللغة العربية، أو المشاركة الفعالة من جانب الدولة في تطوير الثقافة الأمازيغية في مختلف جوانبها وتأمين الفرص المتساوية لها مع اللغة والثقافة العربيتين. إن الاستمرار على هذه السياسة الشوفينية لن يساعد على تحقيق وحدة الشعب في كل من هذه البلدان ولا على تعزيز تفاعلها المتبادل، بل يؤدي إلى عواقب وخيمة، إذ يمكن أن تتحول هذه المشكلة الثقافية إلى صراعات ونزاعات سياسية، كما يلاحظ ذلك اليوم في الجزائر مثلا، بعد أن رفضت الدولة الإصغاء إلى مطالب القبائل أو السكان الأمازيغيين فيها. والعكس صحيح أيضا، إذ أن الاستجابة للمطالب اللغوية والثقافية تلبي حاجة طبيعية عند السكان وتساعد على تطوير العلاقات الاجتماعية المشتركة لشعوبها، وخاصة في كل من الجزائر والمغرب.
ثانياً : الواقع القومي في الدول المغاربية والمشكلة الأمازيغية
عند دراسة واقع المجتمعات المغاربية الثلاث، المغرب والجزائر وتونس، والبنية السكانية القومية تبرز للقارئ بوضوح كبير حقيقة مهمة غير معروفة لنسبة كبيرة من شعوب أقطار المشرق العربي هي أن شعوب البلدان المغاربية تتكون من قوميتين كبيرتين، وهما: القومية الأمازيغية والقومية العربية. برزت هذه البنية السكانية في أعقاب الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا، في حين كانت البنية السكانية قبل الفتح الإسلامي مقتصرة على عدد كبير من القبائل الأمازيغية ذات اللهجات المختلفة. فسكان هذه البلدان هم في الأصل أمازيغ. فماذا تعني هذه الكلمة؟ تعني كلمة أمازيغ، وهي أسم فاعل، غزا أو أغار مترجمة إلى العربية، كما أنها تعني مفهوم الشهامة والنبل ، ويمكن أن تعني بالتالي الفروسية أو الفارس كمصطلح يجمع في إطاره المفهوم القديم للفروسية بكل خصائصه . فالفارس في عرف الشعوب القديمة، بمن فيهم الشعب الأمازيغي، هو الشخص الذي يقوم بالغزو والإغارة على القبائل الأخرى، كما يتسم سلوكه في الوقت نفسه بالنبل والشهامة، إذ تقع على عاتقه مهمة الدفاع عن القبيلة والسعي لحماية أفرادها من أي عدوان يهددها. وبالتالي، فأن جميع القبائل التي كانت وما تزال تقطن هذه المنطقة وذات الأسماء الكثيرة التي تغيرت عبر المراحل التاريخية المختلفة، تشكل مجتمعة الشعب الأمازيغي. ومن هذا الشعب والشعب العربي يتشكل الشعب المغاربي في بلدان الشمال الأفريقي. وعلى من يريد الحفاظ على وحدة هذا الشعب وتطوره المتناسق والمتناغم وتضامنه المستمر، أن يرى بوضوح الهوية الفعلية لشعوب هذه البلدان على حقيقتها. فالهوية الثقافية للإنسان المغاربي تتشكل من مزيج متشابك، من ثقافة أمازيغية وأفريقية ومتوسطية وإسلامية وعربية في آن واحد، فهو لا يحمل واحدة من تلك الثقافات فحسب، بل يحملها جميعا، بغض النظر عن قوة ودور وتأثير كل منها فيه. ولا شك في أن هناك في هذه الدول تأثيرات أوروبية، فرنسية تحديدا، ومسيحية، وإلى جانب المسلمين وجد أو ما يزال من يؤمن بديانة أخرى غير الإسلام مثل اليهودية والمسيحية. ولم يكن لهذا تأثير سلبي على هويته المغاربية، بل أضاف إليها أو أغناها بشيء آخر أو ثقافة أخرى.
فمنطقة شمال أفريقيا كانت وما تزال الموطن الأصلي والأساسي للأمازيغ عبر عشرات القرون، في حين جاء إليها العرب مع الفتح الإسلامي وفي موجات لاحقة وخاصة بعد انهيار آخر دولة إسلامية في إسبانيا. وإذا كان الأمازيغ يشكلون اليوم النسبة الأكبر من السكان في كل من المغرب والجزائر، فأنهم كانوا في السابق يشكلون الغالبية العظمى في تونس أيضاً. وما تزال الحركة الأمازيغية في تونس ضعيفة بالقياس إلى مستوى الحركة في كل من الجزائر والمغرب. والإعلام الحكومي الرسمي يشير إلى العرب دون الحديث عن الأمازيغ أو الأصل الأمازيغي أو الأمازيغ المستعربين منهم في تونس. ويمكن أن يكتشف الأصل الأمازيغي للمستعربين من خلال ألقابهم ومناطق سكناهم وعاداتهم وتقاليدهم التي لا تختلف عن عادات وتقاليد الأمازيغ في كل من المغرب والجزائر.
فالأبحاث والدراسات المتوفرة تحت تصرف الباحث واللقاءات الكثيرة والمكثفة التي أجراها في المغرب والجزائر مع أوساط واسعة نسبيا من الرأي العام المغاربي والعاملين في مجالات حقوق الإنسان تشير إلى أن قبائل الأمازيغ كانت تعيش منذ قرون كثيرة قبل ظهور الإسلام وقبل وصوله إلى شمال أفريقيا وتنتشر على مساحة شاسعة من منطقة شمال أفريقيا، سواء تلك القبائل التي عاشت في المناطق الجبلية أم في مناطق السهول والوديان، حيث كانت تمارس الرعي والتنقل، إضافة إلى الزراعة وتربية الماشية. وهي لا تختلف في تطورها عن بقية القبائل في مختلف بقاع العالم. ومنطقة حركة هذه القبائل تمتد “من موريتانيا عبر المغرب إلى جنوب مصر وشمال النيجر وشمال مالي..”.
واجه الأمازيغ القدامى قدوم موجات بشرية كبيرة ابتداءً من الفينيقيين والإغريق والرومان ثم العرب منذ الفتح الإسلامي للمنطقة، وانتهاءً بالفرنسيين منذ القرن التاسع عشر. وتوجد في هذه البلدان الثلاث الكثير من الآثار القديمة التي تدلل على مرور وبقاء تلك الشعوب في المنطقة ومشاركتها في بناء حضارتها. وكان المحتلون المتعاقبون يبذلون أقصى الجهود لاحتواء سكان البلاد الأصليين وصهرهم في لغتهم وثقافتهم وديانتهم وحضارتهم. ولم ينجح في ذلك إلا العرب نسبيا، بسبب تبني سكان هذه المنطقة الدين الإسلامي والمشاركة فيما بعد في الدفاع عنه واعتباره جزءاً من هويتهم الثقافية ذات الأوجه المتعددة. ومع أن الأمازيغ قد تبنوا في مختلف مراحل التاريخ لغة وثقافة وأحيانا ديانة الشعوب القادمة إلى مناطقهم أو التي اجتاحتهم، فأنهم حافظوا على عدد كبير من المسائل الأساسية التي ما تزال تميز عادات وتقاليد وطقوس الأمازيغ في البلدان المغاربية الثلاث، ونعني بها ما يلي:
1. استمرار وجودهم كمجموعة بشرية تنحدر من قبائل أمازيغية ضاربة بالقدم تقطن هذه المنطقة؛
2. المحافظة على اللغة الأمازيغية كتابة وقراءة، رغم ضعف العناية بها خلال عهود عديدة وعدم تطورها المناسب وفق التطور الجاري في اللغات الأخرى؛
3. استمرار وجود وتطور الثقافة الأمازيغية، بما فيها العادات والتقاليد والأعياد والتراث المشترك المتراكم عبر تاريخ مشترك، علماً بأن الكثير من هذا التراث غير مكتوب، بل كان وما يزال يتم تناقله شفاها وهو محفوظ في الصدر وعبر ممارسته العملية من قبل الأجيال المتتابعة. وكلما ترك الزائر المدن المغاربية الكبيرة وغاص في الريف وفي جبال الأطلسي سيتعرف بشكل واضح على تلك التقاليد الأصيلة للشعب الأمازيغي.
4. استعدادهم الكامل للتعايش والتفاعل والتبادل الثقافي مع ثقافات الشعوب الأخرى، ومنها ثقافة الشعب العربي، ولكنهم يرفضون في الوقت نفسه التخلي عن تقاليدهم التي ما تزال يتميزون بها كأمازيغ وأفارقة.
وعلى هذا الأساس يلاحظ المتتبع لواقع الأمازيغ في الدول المغاربية الثلاث ما يلي: أنهم أخذوا عن الآخرين وفي فترات مختلفة:
• جملة من التقاليد والعادات والثقافات، وعن المسلمين القادمين لهم الديانة وبعض الطقوس والأعياد الدينية والشعبية التي يؤدى بعضها على طريقتهم الخاصة، التي تتداخل مع التقاليد الأمازيغية القديمة والمتوارثة عبر الأجيال، كما هو الحال مع بيلماون أو تموكايت (وفقا للغة الأمازيغية) أي البقرة؛
• وإنهم أعطوا للآخرين الكثير من التقاليد والعادات وشيئا من ثقافتهم والفنون التي يمارسونها، كما ساهموا بمستويات مختلفة في بناء وتطوير تلك الحضارات التي تبنوها ولفترات متباينة. وحصل مثل هذا التفاعل والتبادل مع الحضارات الفينيقية واليونانية والرومانية وكذلك مع الحضارتين العربية والإسلامية؛
• وإذا كان الأمازيغ قد حافظوا بهذا القدر أو ذاك وبشكل متباين ومن منطقة إلى أخرى في الشمال الأفريقي، على وجودهم ولغتهم وثقافتهم، فأنهم عجزوا في واقع الأمر عن المشاركة الفعالة في تطوير لغتهم وثقافتهم الأمازيغية المكتوبة، إذ استمرت ولفترة طويلة، وهي ما تزال تعاني من ضعف كبير في التعبير عن الحداثة الراهنة والتكيف معها. ولا يتحمل الأمازيغ تبعات أو مسؤولية ذلك، بل تتحملها الدول والحكومات المغاربية التي تعاقبت على حكم المناطق المختلفة من شمال أفريقيا على امتداد قرون طويلة والتي مارست سياسات ليست فقط لا أبالية بل شوفينية مناهضة ومعرقلة لتطوير وإغناء اللغة والثقافة الأمازيغية، بما فيها سياسات التعريب، وفي فترة الهيمنة الفرنسية مورست سياسة الفرنسة أيضاً. ومن هنا يلاحظ اليوم بأن الأمازيغ الذين انتشروا على مساحة واسعة من تونس، لم يعودوا اليوم بتلك الكثافة السكانية، إذ اندمج الكثير منهم أو “انصهر” بالعرب القادمين إليها من مناطق مختلفة من المشرق العربي، ولكن الأصل الأمازيغي للغالبية العظمى من السكان ما يزال يلاحظ في الثقافة والفن والتقاليد والعادات التونسية، كما هو الحال في بقية بلدان شمال أفريقيا أو الدول المغاربية.
لم يواجه الأمازيغ في الدول المغاربية عقدة اللغة العربية والحضارة العربية الإسلامية طيلة قرون خلت، إذ أنهم كانوا يتعاملون معها من خلال الدين الإسلامي الذي تبنوه وساهموا بفعالية مشهودة في تكريسه وترسيخه في المنطقة، كما شاركوا بشكل متميز في النضالات المناهضة للاحتلال الفرنسي لبلادهم. ولكنهم وبمرور الزمن واجهوا حالتين ملموستين:
• محاولات جادة ومتواصلة لتعريبهم وفرض العروبة عليهم وكأن الشعب الأمازيغي لا لغة ولا ثقافة أو حضارة له. أي أنهم واجهوا محاولات غير منقطعة لصهرهم في المجتمع والحضارة أو الثقافة العربية، ومحاولة الدمج بين الإسلام والقومية العربية وكأنهما شيء واحد، وهما ليس كذلك، رغم كون لغة القرآن هي العربية، إذ أن القوميين العرب سعوا إلى تكريس شعار محدد رفع على امتداد عقود عديدة هو “العروبة والإسلام” معا، وأهمل كلية موضوع الأمازيغية أو موضوع العرب من غير المسلمين في بلدان أخرى؛
• واجهت الجماهير الأمازيغية جحودا من مجموعات من القوميين العرب المتسمين بالتعصب القومي والشوفينية والعنصرية، وفي عدم تقدير أهمية مشاركتها في النضال وفي دعم الإسلام، وكذلك في إنكار دور القادة الأمازيغ الذين شاركوا في الدعوة والفتوحات الإسلامية، إذ أن العرب دأبوا على تسمية القادة العسكريين من أصل أمازيغي في الإسلام على أنهم قادة عرب بدلا من القول بكونهم من القادة المسلمين الأمازيغ كما هو واقع أو حقيقة هؤلاء القادة. ويرد في هذا الصدد أسم طارق بن زياد، على سبيل المثال لا الحصر، حيث تشير كتب التاريخ العربية على أنه قائد عربي، في حين كان الرجل قائداً أمازيغياً وأفريقياً مسلماً في كل الأحوال، ولكنه لم يكن عربياً قطعاً.
إن هذا الواقع أوجد خلال العقود التي أعقبت إحراز الاستقلال في كل من الجزائر والمغرب مشكلة اجتماعية اتخذت خلال الفترة المنصرمة ويوما بعد آخر، كلما طال أو تأخر أمر معالجتها عقلانيا وموضوعيا، شكل خلاف ونزاع سياسي في هذين المجتمعين على نحو خاص. وبالتالي فأن إغفال هذه المشكلة أو تجاوزها يحولها بمرور الزمن إلى قنبلة موقوتة يمكن تفجيرها وتعقيد الوصول إلى حلول عملية وعقلانية بشأنها.
وفي هذا الصدد كتب السيد أحمد عصيد يقول: “إن انتشار العربية عبر وسائل الحياة العصرية وقنواتها المستحدثة، لا يمكن أن يكون في حد ذاته مصدرا لأي ضرر أو موجبا لأي احتجاج أو استنكار، إذ رضي بها المغاربة لغة لهم منذ قرون، ولكن أن يتم ذلك اليوم على حساب الأمازيغية التي خلافا للفرنسية لا تتمتع بأية حماية قانونية أو مؤسسية، فذلك بالضبط هو ما ينبغي أن يقرأ فيه الإسلاميون وغيرهم أسباب انبثاق المطالب الأمازيغية، وليس “الظهير البربري”. ” والكاتب في ما يقوله على حق كبير، ولكن يبدو من غير السهل على الإسلاميين المتطرفين والقوميين الشوفينيين فهم هذه الحقيقة البسيطة، حقيقة أن الشعب الأمازيغي له الحق في ما يناضل من أجله، كما هو حق العرب في التمتع بلغتهم وثقافتهم وتقاليدهم وعاداتهم. وهي ليست مشكلة الأمازيغ وحدهم، بل هي مشكلة الشعب الكردي في كردستان العراق ومشكلة شعب جنوب السودان في صراعهم ضد التطرف الإسلامي والشوفينية العربية. وسنحاول فيما يلي التطرق بشكل ملموس واقع الدول المغاربية بصدد المسالة الأمازيغية.
المملكة المغربية
تجلى إهمال اللغة والثقافة الأمازيغيتين في دستور البلاد منذ عام 1962 وفي جميع التعديلات التي أجريت عليه في الفترات اللاحقة، كما تجلى في التشريعات الأخرى المنظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المغرب. ففي الوقت الذي ركز الدستور على اللغة العربية باعتبارها لغة البلاد الوطنية والرسمية وعلى الإسلام باعتباره دين الدولة والمجتمع، تجنب كلية الإشارة إلى اللغة الأمازيغية أو الثقافة الأمازيغية، في حين كانت وما تزال اللغة الأمازيغية تشكل الرابطة الأساسية بين جميع السكان الأمازيغيين في المغرب أو في الدول المغاربية كافة، بغض النظر عن اللهجات المتعددة التي تستند في الجوهر إلى أساس رئيسي واحد، أو جذر لغوي واحد. أكد المشرع المغربي في مقدمة الدستور (تصدير) الفقرة التالية:
” المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، لغتها الرسمية هي اللغة العربية، وهي جزء من المغرب العربي الكبير.
وبصفتها دولة إفريقية، فإنها تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الأفريقية.
وإدراكا منها لضرورة إدراج عملها في إطار المنظمات الدولية، فأن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في هذه المنظمات، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا.
كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم” .
من هذا النص يتعرف الإنسان على جزء مهم من الهوية المغربية، ولكنها تبقى هوية جزئية، أي هوية ناقصة، رغم أن هوية هذا الإنسان أو ذاك غير ثابتة ومتغيرة ومتعددة الجوانب ومتطورة باستمرار . فالنص يدلنا على المسائل التالية: إن الإنسان المغربي يحمل هوية إسلامية من الناحية الدينية أولا، وأخرى عربية من الناحية اللغوية والقومية والتاريخ، وثالثة إفريقية من حيث القارة التي يقطنها أو الإقليم الذي يعيش فيه، إضافة إلى كونه إنسانا يسعى للسلم وحل الخلافات بالطرق السلمية. ولكن هذه التحديد للهوية أو تشخيص سمات الفرد المغربي، نست تماما أو تناست وتجاوزت على واقع موضوعي آخر هو كون هذا الإنسان ليس بالضرورة عربيا بل هو أمازيغي أفريقي أساساً ومسلم أيضاً ومن منطقة البحر الأبيض المتوسط، أي أنه غير عربي، رغم قبوله العربية لغة ثانية له. إن نسيان أو تناسي هذه الحقيقة الموضوعية لا يثير الجدل والصراع فيما بين المثقفين فحسب، بل وينقله إلى الأوساط الشعبية ويقود إلى إشكاليات جديدة كان وسيبقى المجتمع المغربي في غنى عنها. ولم يكن هذا نسياناً لحقيقة قائمة بل تناسياً من جانب الحكام الشوفينيين الذين يرفضون الاعتراف للشعب الأمازيغي بقوميته ولغته وثقافته. وهو الأمر الذي يثير بحق الشعب الأمازيغي ويحركه للنضال والتصدي.
وفيما عدا ذلك، فالاعتراف بحقوق الإنسان يتطلب بدوره الاعتراف للجماعة السكانية الأمازيغية بحقها في تطوير لغتها وثقافتها وفي أن يسجل ذلك في دستور البلاد باعتبار السكان الأمازيغ يشكلون أصل وأكثرية السكان في المغرب. ولكن المشرع يتجاوز ذلك أيضا ولا يعير أي انتباه لما يمكن أن ينشأ عن هذا التجاوز من سلبيات وحيف، وبالتالي، ما يترتب على رفض هذا التصور القاصر والمتعمد من ردود فعل حادة لدى الشعب الأمازيغي، وما ينجم عن ذلك من عواقب في غير صالح وحدة البلاد، شاء الإنسان ذلك أم أبى. والحديث لا يمس ما يجري اليوم فحسب، بل وما يمكن أن يحصل في مستقبل غير بعيد لا في المغرب فحسب، بل وعلى الساحة المغاربية كلها، علما بأن ما مورس أمس وما يمارس اليوم هو الذي يساهم في تحديد ما يمكن أن يحصل مستقبلاً.
إن كل ذلك ساهم ومنذ سنوات النصف الأول من العقد السابع من هذا القرن في بروز حركة أمازيغية نشطة في المغرب تدار من جانب جمعيات المجتمع المدني وتجد المساندة والتأييد من جانب منظمات حقوق الإنسان في المطالب التي تطرحها والتي تتعلق بالجانب اللغوي والثقافي، إذ لم يعد بالنسبة لهؤلاء الناس مقبولا أن لا تشكل اللغة الأمازيغية لغة وطنية جنبا إلى جنب مع اللغة العربية، كما لم يعد مقبولاً سكوت الدستور المغربي عن القومية الأولى في البلاد ولا يتعرض لها بكلمة واحدة، في حين يؤكد على القومية العربية، وكأنها الوحيدة في البلاد، واللغة العربية باعتبارها لغة البلاد الرسمية. وإذا كان السكان الأمازيغ لا يعارضون في أن تكون اللغة العربية لغة رسمية في البلاد انطلاقا من تقديرهم للغة العربية ومن كونها لغة القرآن، فأنهم لا يجدون، وهم في ذلك على حق كامل، إساءة للغة العربية إذا ما جرى إبراز طبيعي للغة الأمازيغية واستخدامها في التعليم والإعلام والصحافة وفي غيرها من المجالات، والمشاركة الحكومية والشعبية والمؤسسات العلمية في تطويرها وإغنائها، أي أن تكون لغة رسمية أيضاً إلى جانب اللغة العربية.
ليس هناك إحصاء رسمي حول توزيع السكان بين الأمازيغ والعرب، خاصة وأن هناك تشابكا ملحوظا في المدن الكبيرة بين القوميتين، ولكن مع ذلك فأن إغفال هذه المسألة في الإحصاء الرسمي يثير عند الأمازيغ إشكالية كبيرة وعادلة تستوجب المعالجة، خاصة وأن بعض الجماعات القومية العربية تدعي أن العرب يشكلون أكثرية السكان، وهو ما يجافي الحقيقة. وبعض الجهات الرسمية توزع السكان مناصفة بين العرب والأمازيغ. ولكن من يزور المغرب ويحتك بالناس هناك سيجد بأن الأحاديث العامة تؤكد غلبة نسبة السكان الأمازيغ في إجمالي السكان، إذ أن التناسب الراهن بين الأمازيغ والعرب يزيد عن 70 : 30 على التوالي، وبعضهم الآخر يقدر الأمازيغ بأكثر من ذلك، إذا ما احتسب ذلك الجزء من السكان الأمازيغ الذي استعرب خلال العقود المنصرمة، إذ عندها تزيد النسبة على 90 %.
تؤكد المعلومات المتوفرة في ضوء تطور البحوث العلمية التاريخية والحفريات وما اكتشف حتى الآن من آثار إلى أن الأمازيغ يعتبرون سكان البلاد الأصليين. أما العرب، الذين أصبحوا اليوم جزءاً من بنات وأبناء هذه المنطقة أيضاً، بسبب الفترة الزمنية التي تبلغ عدة قرون على وجودهم فيها، إذ أنهم قدموا إلى شمال أفريقيا، ومنه الدول المغاربية الثلاث، في حالات ثلاث هي:
– الفتح الإسلامي للمغرب في القرن السابع الميلادي، والذي جوبه في البداية بمقاومة كبيرة؛
– هجرة قبيلتي هلال وسليم من مناطق مصر في القرن الحادي عشر إلى المنطقة؛
– وهجرة العرب من الأندلس بعد سقوطها واستعادة الإسبان لها.
إن البنية السكانية للمغرب تضع أمام الحكومة مسؤولية التحري عن أفضل صيغة تساهم بتطوير علاقة التلاحم بين العرب والأمازيغ باعتبارهم شعباً واحداً يتكون من قوميتين، وأن هاتين المجموعتين السكانيتين قادرتان على العيش معاً، إذا ما احترمت الدولة مطالب الأمازيغ التي تتعلق بالدرجة الأساسية باللغة والثقافة وبقية حقوق الإنسان. وتتحمل الدولة مسؤولية خاصة في تجنب تجاهلها المتواصل للهوية الأمازيغية والتركيز على الهوية العربية فقط، أو تهميش الهوية الأولى لحساب الثانية على المستويات اللغوية والثقافية المتنوعة، بما فيها الأغنية والموسيقى والرقص والشعر والقصة، والحياة الجامعية والإعلامية والإعلانية، إذ يمكن بالقطع أن يقود ذلك إلى اتجاهات ومطالب أخرى لا تكتفي بمطالبها العادلة والمشروعة في مجالات اللغة والثقافة الأمازيغية وفسح المجال كاملاً أمام منظمات المجتمع المدني الأمازيغية على العمل الحر وتوفير مستلزمات تطوره، بل يتحول إلى كره ومعاداة للغة والثقافة العربية، وهو أمر سلبي يقود إلى شق وحدة المجتمع المغربي، وإلى نزاعات سياسية مضرة تؤثر سلباً على تطور هذا المجتمع. كما أنها من مسؤولية المجتمع المدني الديمقراطي الذي يسعى الشعب المغربي إلى إقامته. فمع أن الملك الحسن الثاني قد أصدر قبل وفاته قراراً يقضي بتدريس اللغة الأمازيغية في المغرب، فأن أجهزة التعليم والإعلام ما تزال تعتبرها إحدى اللهجات المغربية وليست لغة قائمة بذاتها، وهي لغة شعب يشكل نسبة عالية وكبيرة من بنات وأبناء الشعب المغربي. ويعتبر الكثير من بنات وأبناء الأمازيغ أن لغتهم وثقافتهم وهويتهم القومية مقموعة ومضطهدة في المغرب من جانب الحكم أساساً ومن جماعات قومية شوفينية مهيمنة على الحركة الثقافية في المغرب، ولكنها ليست من جانب السكان العرب في المغرب.
علينا في هذا الصدد أن نشير إلى أن المملكة المغربية صادقت على العهد الدولي المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للسكان، ولكنها، كما هو حال بقية الدول العربية، لم تحترم ما وقعت عليه حتى الآن. فإلى جانب انتشار البطالة والفقر وغياب الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية في توزيع وإعادة توزيع الدخل القومي، فأنها لم تحترم أيضا الجوانب الثقافية من حقوق الإنسان وبشكل خاص تلك المصاعب الكبيرة التي تواجه سكان البلاد الأصليين، أي الأمازيغ، في ممارستهم لحقوقهم الثقافية وغيرها من الحقوق التي تسمح لهم بتطوير لغتهم وثقافتهم وحياتهم الاجتماعية والسياسية في المجتمع المغربي. ويشير التقرير الصادر عن مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية في المغرب إلى بروز ظاهرة تشكيل الكثير من الجمعيات الثقافية التي يسعى الأمازيغ عبرها إلى التعبير عن ثقافتهم ولغتهم وحاجاتهم الطبيعية. وستبقى هذه المشكلة تشغل بال السكان وتتسبب في مصاعب جديدة وتوترات في المجتمع ما لم يبادر الحكم إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمعالجة هذه الموضوع معالجة ديمقراطية وحضارية لصالح وحدة الشعب المغربي وحقوقه المشروعة، بما فيها حق الأمازيغ باستخدام وتطوير لغتهم وثقافتهم على صعيد التراب المغربي، وأن يثبت ذلك في دستور البلاد.
الجمهورية الجزائرية
يتكون الشعب الجزائري من مجموعتين كبيرتين من السكان، المجموعة العربية والمجموعة الأمازيغية (القبائلية). وإذا كان الأمازيغ يعتبرون من أصل سكان هذه المنطقة، كما هو الحال في المغرب وتونس مثلا، فأن العرب نزحوا إليها، كما في حالة تونس والمغرب، مع الفتح الإسلامي الأول وفي فترات لاحقة، وبالتالي فهم يعيشون فيها منذ قرون أيضا. يسكن الأمازيغ في الجزائر في اختلاط واضح مع العرب في الكثير من مناطق البلاد، إلا أن لهم مناطق تقليدية تعيش فيها القبائل الأمازيغية، أو أن الأمازيغ يشكلون فيها غالبية سكانها. وإذا كانت منطقة “تيزي وزو” موطن القبائل الأمازيغية الكبرى، فأن منطقة “بجاية” هي موطن القبائل الأمازيغية الصغرى. والاختلاف بين المنطقتين يبرز في محاولة إحداها القبول باعتبارهم عربا (الشاوية في بجاية)، ورفض الأخرى ذلك وإصرارها الطبيعي على أمازيغيتها (تيزي وزو)، والموقف الأخير لا يتضمن من حيث المبدأ أي عداء للعرب. إلا أن المشكلة بدأت تتخذ أبعاداً جديدة وأكثر تعقيداً عندما عمد العرب، ومعهم الشاوية، إلى تأكيد عروبة الجزائر ونفي الجانب الأمازيغي عنها، ومساندة القوى القومية خارج الجزائر لهذه الاتجاهات القومية العربية الشوفينية المتطرفة.
لم يواجه المجتمع الجزائري مشكلة تسمى الأمازيغية في أعقاب انتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية. إذ كانت الأجواء الثورية وفرحة الانتصار باستعادة أرض الوطن كافية لأن تغطي على كل الإشكاليات الأخرى فيما عدا استقالة السيد حسين آيت أحمد من حزب جبهة التحرير وتشكيله جبهة القوى الاشتراكية في خريف عام 1963 بسبب دعوته للفكر الاشتراكي واختلافه مع حزب جبهة التحرير في هذا الشأن. ولكنها، كما يبدو اليوم، لم تكن خالية من الشعور بأن هناك محاولة من جانب الحكام الجدد، وكلهم من قادة جبهة التحرير الوطني، تجاوز الشعب الأمازيغي الذي ساهم بفعالية وحيوية كبيرتين في الثورة الجزائرية وقدم الكثير من التضحيات حتى في لغته الأمازيغية، من خلال طرح موضوعة أن الشعب الجزائري عربي ولغته عربية لا غير، في وقت كان السكان في الجزائر يمارسون الأحاديث فيما بينهم (أو يهدرون) باللهجة المحلية الجزائرية، رغم وجود مناطق كانت تتحدث الأمازيغية فقط وأخرى العربية الدارجة. وكان الشعار العام يدعو إلى الجزأرة في مواجهة هيمنة اللغة الفرنسية في خطاب المثقفين والمدينة. إذ كان الإنسان الجزائري قبل إحراز الاستقلال وبعده بفترة غير طويلة يرى في هويته أنه جزائري أولاً، ومسلم ثانياً وأمازيغي أو عربي ثالثاً، إضافة إلى كونه أفريقي ومتوسطي رابعاً. ولكن القضية اتخذت أبعادا جديدة عندما تلمس الأمازيغ (القبائل) إلى أن الحكومة الجزائرية وحزب جبهة التحرير وأجهزة الدولة بدأت تمارس أساليب شوفينية في التعامل مع القضية الأمازيغية لصالح اللغة العربية والعرب بشكل عام. ولعبت القوات المسلحة التي كانت تحكم البلاد فعلياً دوراً بارزاً في هذا الصدد. وبرز هذا الاتجاه واضحا في خطاب ألقاه السيد أحمد بن بللا رئيس الدولة الجزائرية حينذاك أثناء زيارة قام بها إلى تونس عندما أكد فيها على عروبة الجزائر المطلقة، وأن الملايين العشرة من الجزائريين هم عرب لا غير، أي نافياً بذلك وجود الشعب الأمازيغي. ولم تكن هذه السياسة حكيمة، بل كانت استمرارا للموقف الذي اتخذه مصالي الحاج إزاء الأمازيغ في حزبه قبل الثورة، حين أبعد الكثير من قادة وأعضاء الحزب منه بسبب كونهم من القبائل، واعتبرهم “جرثومة” تنخر في كيان الحزب، إذ كان الرجل يؤكد بشكل شوفيني أعمى على عروبة الجزائر وشعب الجزائر، وهو عربي من غرب الجزائر. وقاد هذا الصراع في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية في فترة ما بعد الثورة إلى ظاهرة غريبة حقا، إذ أهمل موضوع الجزأرة ليتحول إلى صراع بين التعريب والفرنسة، في وقت نسيت تماما اللغة الأمازيغية والثقافة الأمازيغية الأفريقية من جانب المسؤولين. وتشير الدراسات المتوفرة عن هذه المشكلة الأثنية في الجزائر إلى وجود تحالف بين العرب والشاوية، وهم من القبائل أيضاً، في مواجهة القبائل الأمازيغية الأخرى. وتجلى هذا التحالف على مستوى الحكم أيضا. وتفاقمت المشكلة الأمازيغية فيما بعد بشكل ملموس وكبير بعد وفاة هواري بو مدين وتسلم الشاذلي بن جديد رئاسة الدولة ممثلاً للقوات المسلحة، علما بأن مطلب الأمازيغ لم يكن يتجاوز حينذاك الاعتراف بوجودهم كجزء حيوي من الشعب الجزائري والاعتراف بلغتهم باعتبارها لغة وطنية ولهم الحق الثابت بممارسة ثقافتهم الأمازيغية.
بعد انقلاب هواري بو مدين العسكري ضد رئيس الدولة أحمد بن بللا صدرت مجموعة من القوانين التي تلزم المسؤولين وأجهزة الدولة باستخدام اللغة العربية في معاملاتها وأختامها والتقارير التي تكتبها، رغم أن تطبيق تلك القرارات والقوانين لم يكن سهلا. كتب الباحث السيد عز الدين المناصرة بهذا الصدد مشيرا إلى دستور عام 1989، الذي قرر تعميم استعمال اللغة العربية في 16/1/1991، بأنه كان يعتمد في ذلك على “قوانين وأوامر سابقة تعود إلى عام 1966، ومنها الأمر المؤرخ بتاريخ 26/4/1968 المتضمن إجبارية معرفة اللغة الوطنية (ويعني العربي، ك. حبيب) على الموظفين، والأمر المؤرخ بتاريخ 19/2/1970 المتضمن وجوب استعمال اللغة العربية في تحرير وثائق الحالة المدنية. والأمر المؤرخ بتاريخ 10/1/1973، المتضمن تعريب الأختام الوطنية. والأمر المؤرخ 16/4/1976 المتضمن تنظيم التربية والتكوين والقانون المؤرخ بتاريخ 7/1/1984، المتضمن تخطيط مجموعة الدارسين في المنظومة التربوية والقانون الصادر بتاريخ 19/8/1986، المتضمن إنشاء المجمع الجزائري للغة العربية. وغيرها من الأوامر [التعليمات] والقوانين”. ولم يكن الأمر مقتصرا على كثرة القوانين والنظم والتعليمات الصادرة بهذا الصدد فحسب، بل اقترن ذلك بثلاث ظواهر أخرى شكلت مجتمعة الاتجاهات العامة التي حركت الأجواء للمطالبة بتأمين التوازن المطلوب لصالح المجموعة السكانية الأمازيغية في مقابل المجموعة السكانية العربية والأمازيغية المستعربة. ويمكن الإشارة فيما يلي إلى تلك الظواهر:
• وضع الوظائف الحساسة والرئيسية في الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والحزب الحاكم بيد العرب أو المعربين، في حين كان نصيب الأمازيغ منها محدودا جدا، وهذا يعني ممارسة التمييز في هذا المجال بغض النظر عن التفسيرات التي تقدم بهذا الصدد والتي لا تصمد أمام حقائق الوضع في البلاد. ويمكن لهذا الغرض إيراد الكثير من الأمثلة. فعلى سبيل المثال لا الحصر أحتل (3) من العسكريين منصب وزير الدفاع في الجزائر في الفترة الواقعة بين عامي 1962 و1999 وهم جميعا من شرق البلاد، أي من المناطق المعربة أو التي تسكنها أغلبية عربية. وأن الفترة ذاتها عرفت سبعة شخصيات احتلت منصب رئيس الدولة (5) منهم من الشرق و(2) منهم من الغرب وهما أحمد بن بللا وعبد العزيز بو تفليقة، وتسلم 15 شخصية سياسية منصب رئيس الوزراء كان ثلاثة منهم من الغرب والبقية (9) من الشرق و(3) من الوسط. أما الأمانة العامة للحزب فقد كانت محصورة بالشرق في ما عدا مرتين أحتل المركز فيهما أحمد بن بللا وقايد أحمد وهما من الغرب؛
• التركيز على التعريب دون أية إشارة إلى ضرورة استخدام اللغة الأمازيغية والثقافة الأمازيغية في حياة البلاد الثقافية والإعلامية؛
• إغراق البلاد، وخاصة المؤسسات التعليمية ومؤسسات الدولة المختلفة ومشاريعها الاقتصادية وأجهزة الإعلام بالعرب القادمين من الشرق، حيث كانت مجموعة كبيرة منهم من القوميين الذين كانوا يرون ضرورة التعريب القسري على نطاق الجزائر كلها وبعيدا عن أي احترام حقيقي للأمازيغ واللغة والثقافة الأمازيغيتين ومتأثرين بالإسلام ولكنهم كانوا يربطون بصورة غير عقلانية بين الإسلام والعروبة متجسدة باللغة والقومية العربية. ورغم وجود قوى وأحزاب وشخصيات سياسية وطنية كانت ترى السلبية في هذه السياسة من منطلقين هما:
1. أن هذه السياسة تعبر عن غمط متعمد للحقوق واستفزازي إزاء السكان الأمازيغ وإزاء اللغة والثقافة الأمازيغيتين لا يمكن ولا يجوز السكوت عنها؛
2. ويمكن أه تقود هذه السياسة إلى تفكيك المجتمع الجزائري وإثارة النعرات القومية واللغوية فيه، في وقت يحتاج المجتمع إلى الحرية والديمقراطية والتلاحم والوحدة والتقدم.
ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى كل من حزب الطليعة الاشتراكية وجبهة القوى الاشتراكية وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية التي كانت في مقدمة القوى الداعية إلى ممارسة سياسة أكثر عقلانية وواقعية، إضافة إلى مشاركة بعض الشخصيات المعروفة مثل الكاتب الجزائري الراحل كاتب ياسين وغيره في هذه الوجهة الأكثر ديمقراطية وعدلاً إزاء الشعب الأمازيغي في الجزائر .
في عام 1991 صدر قانون تعميم استعمال اللغة العربية استنادا إلى المادة الثالثة من دستور الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية التي نصت على ما يلي: “اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية” في الجزائر. ولم تكتف ديباجة الدستور بذلك بل أضافت إلى ذلك النص التالي: “ثالثا: أرض الجزائر، أرض الإسلام وجزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير وأرض عربية وبلاد متوسطية وأفريقية تعتز بإشعاع ثورتها، ثورة أول نوفمبر 1954” .
وفي إطار هذا النص يلاحظ بوضوح أن المشرع، وهي الدولة، رفضت الأمازيغية لغة وثقافة، وأشاحت بوجهها عن الواقع الموضوعي القائم في الجزائر، وعن المشكلات المحتملة التي يمكن أن يثيرها هذا النص الناقص للهوية الجزائرية. فالهوية الجزائرية إلى جانب كل ذلك وقبل كل ذلك هي أمازيغية أرضاً وشعباً، وإغفالها لا يعبر إلا عن إصرار قومي شوفيني متعصب ضد الأمازيغية ودعوة لصهر الأمازيغ في العروبة دون رغبة وإرادة جزء كبير ومهم من بنات وأبناء الشعب الجزائري.
وفي مقابل هذه الوجهة تقدمت القوى الأخرى التي كانت ترى بأن على التشريع العقلاني أن يأخذ بالاعتبار وجود الشعب الأمازيغي إلى جانب الشعب العرب في الجزائر وأنهما معا يشكلان الشعب الجزائري، وبالتالي لا بد من الاعتراف بوجودهما معا. ومن هنا انبثق النص المقترح التالي من جانبها لتعديل الدستور الجزائري: “[العربية والأمازيغية لغتان وطنيتان، واللغة العربية هي اللغة الرسمية]”، وهو مطلب مطابق تماما للمطلب المغربي في هذا الصدد. ومن المؤسف القول بأن هذا المطلب العادل والمشروع والأقل طموحاً من المعتاد لم يجد قبولا لسنوات طويلة. حتى بعد الموافقة على ذلك اصبح هذا الموقف متخلفاً إزاء تطور المطالب الأمازيغية العادلة. والغريب بالأمر أن القانون الذي صدر لينظم استعمال اللغة العربية تمت صياغته بطريقة تدعو إلى التساؤل المشروع التالي: هل كانت القوى التي وضعت هذا القانون تريد حقا إثارة المعركة ضد اللغة الأمازيغية ولصالح اللغة العربية، وبالتالي فتح صراع ونزاع قومي يضعف المجتمع الجزائري ووحدته الوطنية وينسى تاريخه النضالي المشترك ويتجاوز على أهمية الحفاظ على الوحدة الوطنية من خلال الاعتراف باللغتين الوطنيتين القائمتين فعلا في البلاد مع اعتبار اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجزائر؟
كل الدلائل تشير إلى أن هذا القانون ساهم في تعميق التناقض والصراع، بغض النظر عن حسن أو سوء نية المشرع، فالعبرة ليست بالنيات بل بالنتائج التي يتمخض عنها صدور مثل تلك القوانين. وغالباً ما انتهت تلك النوايا الحسنة، في أحسن الأحوال، إلى جهنم.
وإذا كان الصراع في السابق يدور بين الجزأرة والفرنسة، فأنه اليوم أصبح بين العربية والأمازيغية والفرنسية. وإذا كان الصراع في السابق لغوي وثقافي، فأنه أصبح اليوم سياسي صارخ. وهو واقع قائم يحتاج إلى معالجة موضوعية وعادلة وسريعة في آن لصالح القبول باللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية باعتبارهما لغتين رسميتين في البلاد، أو وفق ما يرتضيه السكان عموما، وليس وفق ما تريده الحكومة وحدها، إذ لا بد من الاعتراف الرسمي بالتكوين السكاني للجزائر. فالشعب الجزائري يتكون من مجموعتين أثنيتين كبيرتين هما المجموعة الأمازيغية والمجموعة العربية، وبالتالي فالتعامل مع هذه المسألة يفترض أن يستند إلى هذا الأساس الواقعي.
كتب الشيخ محفوظ نحناح، رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية (حمس) في كتابه الموسوم “الجزائر المنشودة … المعادلة المفقودة.. الإسلام، الوطنية، الديمقراطية حول الهوية الوطنية الجزائرية ما يلي: “فمقومات هويتنا وأبعادها محددة ومضبوطة ومعالم مرجعيتنا بينة ظاهرة إنها الإسلام أولا العربية ثانيا الأمازيغية ثالثا وبعدها التجارب أو القيم والمبادئ الإنسانية الخالدة والخيرة وأهمها العدل، الحرية، الشورى، العلم والعمل. هويتنا العرقية هي الأمازيغية البربرية التي تفاعلت بدخول العرب المسلمين وامتزجت بهم وقبلتهم وانصهرت معهم وحملت معهم رسالة ذات مضمون حضاري وإنساني هو الإسلام الذي يعترف الجميع بأن وعاءه هو اللغة العربية وفنونها وآدابها، وبهذا الوعاء ومحتواه الحضاري قفز هذا الشعب الجزائري لتسجيل موقعه المتميز في صف الأمة العربية الإسلامية كلغة ودين وكانتماء ذي بعد جغرافي وجيوستراتيجي متميز، ولم يحصل عبر التاريخ تصادم أو تضارب إلا ما يحصل بين أبناء الأمة الواحدة أو القبيلة الواحدة، ومثل هذا الأمر طبيعي في كل الشعوب والأمم، ويحدث بين جميع أصحاب الديانة الواحدة بل والمذهب الواحد، بل حتى بين أخوين شقيقين ينتميان لأم واحدة كما حصل بين قابيل وهابيل لهذا فأن محاولة إثارة النعرات بين أبناء أمازيغ وأبناء يعرب، كمحاولة إثارة أبناء أمازيغ على بعضهم، أو إثارة العربي على أخيه العربي، هدفها أن يهوي الجميع ويتشتت الشمل ليس إلا” . ويلاحظ المرء في هذا الصدد جملة من الأفكار التي تعبر عن الرغبة أكثر مما تعبر عن واقع موضوعي ومن جانب واحد. ففي الوقت الذي يطرح بصواب كون الأمازيغية هي هوية الجزائريين من سكان البلد الأصليين، الذين يشكلون أكثرية السكان، فأنه يتبنى الدعوة أو الحكم بأن هذا الشعب قد انصهر بالعرب وأصبح جزءا من الشعب العربي أو الأمة العربية. وهي مسألة يمكن أن تنطبق على بعض القبائل الأمازيغية لا على أكثرية القبائل الأمازيغية التي ما تزال تعيش في الجزائر وترى إنها ليست عربية، بل أمازيغية، مع عدم الاختلاف على كونها تحمل ضمن هويتها الوطنية الإسلام كدين يؤمن به الأمازيغيون، كما أنهم لا يرفضون اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن. ولكن يفترض أن لا يجري الخلط بين الإسلام والعروبة، رغم كون العربية تعتبر اللغة التي خلق فيها القرآن. فليس جميع الأمازيغيين انصهروا بالعرب والقومية العربية، بل ما زالوا يحتفظون بهويتهم الأمازيغية. ولا يتعارض هذا الموقف مع إسلامهم ولا مع قبولهم اللغة العربية بجوار لغتهم الأمازيغية، أو قبولهم بالأدب والتراث العربي إلى جانب الأدب والتراث الأمازيغي. إن الطريقة التي يتعامل بها بعض القوى القومية من العرب وبعض القوى الإسلامية هي التي تثير الإشكاليات وتدفع الأمازيغيين إلى رفض الاطروحات العربية باعتبارها محاولة جادة تهدف إلى مصادرة أو استئصال هوية الآخر والادعاء بأن الهوية العربية هي هوية الجميع. ويأخذ الشيخ محفوظ نحناح على بعض الأمازيغيين دعواتهم المتطرفة صوب اللغة الفرنسية وبالضد من اللغة العربية. وإذا كانت انتقاداته صائبة في هذا المجال، فأنها في الواقع ليست سوى رد فعل لتصرفات القوميين العرب المتطرفين الذين ينكرون بإصرار حق الأمازيغيين بلغتهم وقوميتهم وثقافتهم الأمازيغية. ويفترض أن يكف القوميون العرب عن الإصرار والنزعة الشوفينية على صهر الأمازيغيين بالعروبة، إذ ليس من حق أحد أن يفرض الانصهار على الجماعات القومية الأخرى ما لم يتم ذلك بمحض إرادة ورغبة الناس أنفسهم، وهي مسألة مركزية في العلاقات بين القوميات والشعوب. ومع ذلك فأن الشيخ نحناح يخرج ببعض المطالب الصحيحة، رغم الطريق المعقد الذي يطرح فيه هذه القضية العادلة والبسيطة، حين يؤكد في نفس الكتاب على ما يلي: “1- ضرورة فتح كل المجالات أمام اللغة والثقافة الأمازيغية في ميدان التعليم والبحث وفي ميدان الاتصال والإعلام والعمل على ترقيتهما وتطويرهما بالشكل الذي يمكنهما من العودة السليمة إلى موقعهما الحضاري. 2- ضرورة التأكيد على أن إحياء وترقية اللغة الأمازيغية لا ينبغي أن يتصادم مع تعميم اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للدولة، …. 3- ضرورة الرفض بشكل حاسم وقاطع لأي دعوى للتمييز العرقي أو الإثني أو الجهوي بين أبناء الشعب أو بين مناطق وجهات الوطن.” . ولكنه يخطئ من جديد عندما يرفض أن تكون اللغة الأمازيغية رسمية أيضاً، ويخطئ مرة أخرى عندما يرى بأن تعدد القوميات واللغات أو الاعتراف بوجود أثنيات متعددة سيقود إلى صراعات ونزاعات وغيرها، إذ إن هذا ممكن فقط عندما لا يكون هناك اعتراف متبادل بالآخر واحترام له ولحقوقه ومحاولة فرض صورة الأنا عليه. ففي الوقت الذي يرى بأن الدول الكبرى هي التي تدعو إلى توسيع دائرة الإثنية وأحياء القوميات، يرى في الوقت نفسه ما يلي: “ولنتأمل مآلات مجتمع تتعدد فيه اللغات والثقافات وتستنفر فيه الخصائص الإثنية الفرعية، في مقابل محاور دولية كبرى.. – ثوران القلاقل والفتن والحروب الأهلية. -هيمنة الجوع والتخلف والمديونية. – ابتزاز الأموال والأرزاق واحتكار القوت…”. ومن هذا العرض يرى الشيخ نحناح إمكانية استغلال الدول الكبرى للتعدد القومي واللغوي ضد تلك المجتمعات المتعددة القوميات واللغات ولصالحها، وهو وجه واحد من القضية، إذ يمكن حقا وقوع حالة من التناحر بين القوميات المتعددة بسبب سياسات الحكم القائم فيها، أي الاستبداد والتجاوز على الحقوق والمصالح، في حين أنه لا يرى أو لا يريد أن يرى الوجه الآخر الممكن أيضا، وأعني به إمكانية التعاون والتنسيق والوحدة الوطنية التي يمكن إقامتها في المجتمع عندما تنتهج الحكومة القائمة سياسات تنسجم مع مبادئ المساواة والتضامن والتآخي بين القوميات، وعندما تستند إلى أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان وعدم التمييز بين المواطنين لأي سبب كان وعندما تؤمن مستوى معين ومناسب من العدالة الاجتماعية. إنها مرتبطة أولا وقبل كل شيء بسياسة الدولة المعنية. وقد دللت السياسات التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في الجزائر، كما رأينا سابقا، على إنها لم تلعب دورا إيجابيا في تعزيز الوحدة الوطنية، بل عملت على تفكيكها وتشديد الصراعات المتنوعة في المجتمع. وسنوات العنف والعنف المضاد التي ما تزال مستمرة تجسد حقيقة تلك السياسة المعوجة والمضرة التي مارستها الحكومات المتعاقبة. واليوم لم يعد مطلب الأمازيغ الاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية فحسب، بل يمكن أن يتطور إلى الحكم الذاتي في إطار الجمهورية الجزائرية الديمقراطية. وليس في هذا المطلب من خطر على وحدة الجزائر، إن وافق الحكام على ذلك ومارسوا سياسة عقلانية في فهم حقوق الشعب الأمازيغي وعموم الشعب الجزائري. ويأمل الإنسان أن لا ينكر هؤلاء الحكام على الشعب حقوقه، وهو ما كان عليه الوضع في السابق وحتى الوقت الحاضر.
الجمهورية التونسية
ليس هناك ما يشير إلى وجود مشكلة أمازيغية في تونس حتى الآن. ولكن تطور الأوضاع في البلدين المجاورين، الجزائر والمغرب، في هذا الصدد من جهة وغياب الحريات الديمقراطية والتجاوز الفظ على حقوق الإنسان في تونس واشتداد سياسة الهيمنة الفردية لرئيس الدولة التونسية يمكن أن تفجر الأوضاع في تونس أيضاً وأن تبرز القضية الأمازيغية هناك أيضاً، وليس في ذلك أي ضير أو خطر بل مسألة طبيعية وإنسانية في آن خاصة وأن الأصل الأمازيغي للغالبية العظمى من السكان ما يزال معروفاً فيها.
ويمكن تجاوز احتمال تطور الوضع بهذا الاتجاه إن أمكن إرساء النظام السياسي التونسي على أسس من الديمقراطية المؤسسية وسيادة حقوق الإنسان في التعامل الفعلي لا في الوثائق التي تصدرها الدولة والوزارة الخاصة بحقوق الإنسان أو ما شاكل ذلك من مظاهر لا مضمون حقيقي لها أولاً، وأن أمكن تحسين مستوى حياة ومعيشة الغالبية العظمى من السكان وتقليص مستوى الفجوة الدخلية الراهنة ثانياً، ومعالجة المشكلة الأمازيغية بصورة عقلانية وإنسانية في البلدين الجارين ثالثاً. وهو ما ينتظره الإنسان، رغم أن اتجاه الأحداث يشير إلى إمعان الدولة في تونس باتجاه التقاطع مع القوى المناضلة في سبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان. يفترض أن نشير بوضوح إلى أن الأوضاع المعاشية للسكان في تونس ÷ي أفضل حالاً من حالتها في البلدين الجزائر والمغرب، رغم قلة الموارد الأولية المتوفرة في تونس بالقياس إلى البلدين الآخرين، كما أن حجم البطالة فيها اقل، إضافة إلى أن الهجرة منها إلى أوروبا وأمريكا الشمالية محدودة بالمقارنة مع البلدين. وأغلب المهاجرين منها سياسيين بسبب ملاحقتهم من قبل الدولة.
الخلاصة
إن الإشكاليات التي تعاني منها الدول المغاربية الثلاث ليست واحدة ولكنها متقاربة كثيراً ومتطابقة في بعضها. وأبرز تلك المشكلات تكمن في طبيعة النظم السياسية غير الديمقراطية السائدة فيها وتجاوزها المستمر على حقوق الإنسان بشكل عام، وفي التوزيع وإعادة التوزيع غير العادلين وغير العقلانيين للثروة الوطنية في المجتمعات الثلاثة، وفي غمطها لحقوق وإرادة الشعب الأمازيغي الذي يشكل الغالبية العظمى من السكان، وخاصة في كل من الجزائر والمغرب، إضافة إلى إشكاليات البطالة في البلدين الأخيرين وما ينشأ عنها من هجرة واسعة جداً مشروعة وغير مشروعة صوب الدول الأوروبية، إضافة إلى تفاقم مشكلة سكان الصفائح المعدنية المعدمة في أطراف المدن أو في أحياء كاملة فيها واتساع رقعتها.
إن الحل العملي لمشكلات هذه البلدان يكمن بالأساس في إقامة المجتمع المدني الديمقراطي الذي يستند إلى الشرعية الدستورية الديمقراطية واحترام وممارسة حقوق الإنسان والاعتراف بالحقوق القومية العادلة والمشروعة للأمازيغ والابتعاد عن التمييز بين السكان، وبذل الجهد من أجل ضمان العدالة الاجتماعية التي تفتقدها الغالبية العظمى من شعوبها وتحقيق التنمية الوطنية، الاقتصادية والبشرية. أي العودة الصارمة إلى إرادة ومصالح الشعب في هذه البلدان. إن مشكلة الأمازيغ قابلة للحل العقلاني والسريع إذا ما تخلى الحكام العرب أو المستعربين عن سياساتهم الشوفينية والتطرف في التعامل غير المسؤول مع حقوق الأمازيغ ومع دورهم في المجتمع. إذ أن ممارسة السياسة الراهنة، وتقسيط الحلول، كما يجري منذ سنوات في الجزائر، وكذلك في فترة رئاسة السيد عبد العزيز بو تفليقة الراهنة، أو في المغرب، بحيث تفقد معناها الحقيقي وتثير المزيد من التعقيدات وربما النزاعات المسلحة، خاصة وأن ظروفاً أخرى متوفرة قادرة على زيادة لهيب النار الحالية في الجزائر وتلك التي ما تزال تشتعل تحت الرماد في المغرب، وربما في تونس أيضاً.
وعلينا أن نشير إلى أن حركة القوميين العرب بأجنحتها اليمينية واليمينية المتطرفة تساهم في الضغط السياسي المستمر على سياسات وقرارات الحكومات المغاربية باتجاه رفض الحلول العقلانية والعادلة إزاء القوميات الأخرى في تلك الدول وفي معظم الدول العربية. وهي نفس السياسة التي تمارسها إزاء بعض تلك القوى إزاء المسالة الكردية في العراق. ففي الوقت الذي أقرت بعض القوى القومية العربية عدالة القضية الكردية وحق الشعب الكردي في تقرير مصيره وفي الاتحادية التي أقامها في كردستان العراق، يرفض بعضها الآخر مثل هذه السياسة ويريد النظام العراقي في سياسته العدوانية التي مارسها طيلة العقود المنصرمة إزاء الشعب الكردي والقوميات الأخرى في العراق. ولكن قضايا الشعوب هي التي تنتصر في المحصلة النهائية وليس في تلك المقاومة اليائسة والبائسة ضد تمتع الشعوب الأخرى بحقوقها المشروعة سوى صحوة موت للفكر الشوفيني المنغلق على نفسه.
آب/ أغسطس 2002 كاظم حبيب