العلاقة الجدلية بين البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية في المجتمع العراقي
د. كاظم حبيب
إن دراسة البنية الطبقية للمجتمع العراقي تستوجب ابتداءً البحث المعمق والشامل في طبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة في الاقتصاد والمجتمع، أو نمط الإنتاج السائد، ومن ثم التعرف التفصيلي على بنية الاقتصاد العراقي. إذ أن طبيعة العلاقات الإنتاجية ومن ثم بنية الاقتصاد الوطني هما المحكان اللذان تنشأ منهما وعنهما البنية الطبقية للمجتمع، كما يمكن، وبحدود معقولة، تشخيص مستوى الوعي الاجتماعي والسياسي الفردي والجمعي في المجتمع. كما تلعب طبيعة الدولة بسلطاتها الثلاث ونهجها الفكري وسياساتها ومجمل بنية وعمل ونشاط البناء الفوقي دوراً محوراً في التأثير المباشر على واقع البنيتين الاقتصادية والاجتماعية وعلى مستوى وبنية الوعي الاجتماعي الفردي والجمعي والحياة الثقافية لمختلف طبقات وفئات المجتمع.
فدراسة الواقع العراقي تشير بأن ذهنية وفكر وممارسات بقايا العلاقات الإنتاجية البالية ما قبل الرأسمالية والتنظيم العشائري والمؤسسات والحوزات الدينية مازالت تمارس دوراً ملموساً في الريف، كما هي فاعلة ومؤثرة بقوة على أحوال وفكر وسلوك وممارسات نسبة عالية من سكان المدينة أيضاً من جهة، مع وجود ودور علاقات إنتاجية رأسمالية طفيلية تهيمن على الحياة الاقتصادية وموارد البلاد المالية، لاسيما في قطاعات المال والتجارة والمقاولة والمضاربات العقارية وبعض الخدمات الأساسية، من جهة ثانية. إن هذه العلاقات البالية والمشوهة والطفيلية تمارس دورها في إعاقة نمو العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في القطاعات الإنتاجية وتوجيه الاستثمارات الحكومية والخاصة صوب القطاعات الاقتصادية الإنتاجية وعرقلة تنفيذ ما خصص لهذه القطاعات، خاصة في قطاعات الصناعة والزراعة والبنى التحتية لهذين القطاعين والقطاع السلعي الصغير. فهذه القطاعات الإنتاجية والخدمية ذات الأهمية الفائقة للنمو والتطور الاقتصادي والاجتماعي ما تزال ضعيفة جداً ومتعثرة ومعرقلة للتنمية الإنتاجية والتنمية البشرية وتشغيل الأعداد المتزايدة من العاطلين عن العمل، وضعف النمو الاقتصادي وقصور واختلال في تقديم الخدمات الأساسية للمجتمع وتحسين معدلات نمو الدخل القومي وأسس توزيعه واستخدامه بصورة عقلانية. فالقطاع الصناعي على سبيل المثال لا الحصر يعاني من الاختلالات التالية:
** اختلال كبير بين حصة الاستثمارات الموجهة للتنمية الصناعية والانفاق الاستهلاكي، وسوء توزع الانفاق الاستهلاكي.
** اختلال في بنية القطاع الصناعي بين الصناعات المختلفة بالارتباط مع الإمكانيات الاقتصادية المتوفرة في البلاد لاسيما النفط والغاز وموارد معدنية أخرى من جهة، والمحاصيل والمنتجات الزراعية والحيوانية من جهة ثانية.
** اعتماد النسبة العظمى من المنتجات الصناعية المحلية على تصنيع السلع نصف المصنعة المستوردة من الخارج.
** اختلال في المستوى التقني والحداثة في المشاريع الصناعية العراقية، والتي اقترنت بالحروب الماضية والحصار وتلف أو تعطل كثير من المشاريع الصناعية.
** اختلال كبير في توزيع المشاريع الصناعية جغرافياً، أو على المحافظات العراقية المختلفة، وبالتالي فالتباين في مستوى تطور أغلب مدن المحافظات الجنوبية والغربية وبعض محافظات الوسط وكردستان كانت ومازالت تعاني من نقص في المشاريع الصناعية، في حين تركزت أغلب المشاريع الصناعية في بغداد والبصرة والموصل في فترات معينة، لاسيما في السبعينيات من القرن الماضي حيث حظيت البصرة ببعض المشاريع المهمة في الصناعات البتروكيمياوية. أما الآن فكلها تعاني من التخلف وتوقف مجموعة كبيرة من تلك المشاريع الحكومية. ويجد ضعف مستوى القوى المنتجة تعبيره في ضعف التوجه صوب التعليم الفني والمهني والتدريب والتأهيل وإعادة التأهيل للعاملين لصالح توفير الكوادر الفنية والمهنية الوسطية الضرورية للتنمية الصناعية.
إن كل ذلك وغيره، لاسيما النظرة الدونية للحكام الحاليين إزاء عملية التنمية والتثمير الإنتاجي، لاسيما في القطاع الصناعي. أثر بشكل مباشر على القدرة التشغيلية في البلاد ونشوء المزيد من البطالة وضعف الدخل المتحقق للعائلات ونقص في السيولة النقدية وانتشار الفقر والعوز في آن واحد. لقد كان ومازال في الإمكان إقامة مشاريع صناعية زراعية ضرورية وصناعات دقيقة وحديثة لتغيير بنية الدخل القومي والتخلص من السمة الريعية النفطية للاقتصاد العراقي.
كل المعطيات المتوفرة تشير إلى أن القطاع الوحيد الذي حظي برعاية القوى الحاكمة الفاسدة هو قطاع النفط الخام لما يدّره من ريع لها ولخزينة الدولة وما يوفره من إمكانيات لهيمنة الدولة على المجتمع ومصادرة الحريات ونشر الفساد المالي وتهريب النفط الخام بطرق شتى. وإلى حد ما يلعب الإنتاج السلعي الصغير دوره الملموس في العملية الاقتصادية المرتبط مباشرة بمجالات المقاولة والبناء. في حين تزدهر تجارة الاستيراد التي لم تغرق الأسواق المحلية بكل أنواع السلع السيئة والمتوسطة النوعية فحسب، بل وساهمت في تعطيل التوجه صوف توظيف رؤوس الأموال في التنمية الصناعية وتحديث وتنمية الزراعة من جانب الدولة والقطاع الخاص. وتؤكد كثير من الدلائل إلى أن هذه السياسة مقصودة من جانب كل من إيران وتركيا، التي وجدت التأييد من النخب الحاكمة الفاسدة في العراق. فالمعطيات المتوفرة تشير إلى أن مساهمة قطاع الزراعة في توليد الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020 بلغت 2,02%، في حين بلغت مشاركة القطاع الصناعي التحويلي 0,84% فقط، وهما يعبران عن البؤس الحقيقي لهذين القطاعين الأساسيين في البنية الاقتصادية العراقية.[1] في حين كانت مساهمة القطاعين الزراعي 4,7% والصناعي 4,5% في إجمالي الناتج المحلي لعام 1980، وهي السنة التي بدأت بها الحرب العراقية – الإيرانية، ثم بلغتا في عام 1985 إلى 14% و9,2%.[2]
وهذا التراجع في عام 2020 يعتبر نتيجة منطقية لطبيعة السياسات التي مارستها النخب الحاكمة طوال السنوات المنصرمة وابتعادها الشديد عن توجيه توظيفات رأسمالية صوب القطاعين الإنتاجيين، وغياب العناية بالمشاريع القائمة. فعلي سبيل المثال لا الحصر تشير معطيات القطاع الصناعي إلى الواقع التالي:[3]
عدد المنشآت الصناعة الصغيرة العاملة 27856 منشأة
عدد العاملين في المنشآت الصناعية الصغيرة 114762 عامل
أما في المنشآت الصناعية الكبيرة فكانت على النحو التالي:
عدد المنشآت الصناعية الكبيرة العاملة 600 منشأة
عدد المنشآت الصناعية الكبيرة المتوقفة 561 منشأة
عدد العاملين في المنشآت الصناعية الكبيرة 114762 عامل
هذا الواقع يجسد طبيعة الدولة عموماً والسلطتين التنفيذية والتشريعية خصوصاً، فهما سلطتان تعبران عن مصالح الفئات الطفيلية وغير الإنتاجية في المجتمع، فئات رثة وفاسدة من حيث الفكر والممارسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية في آن واحد، وهي فئات مناهضة للتنمية والتقدم الاقتصادي والبشري.
فمع إن السمة الريعية المميزة للاقتصاد العراقي ليست جديدة وميّزت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية واحتلت مكانة القطاع الزراعي ودوره الريعي، بما اقترن بها من خصائص أساسية من حيث بروز مظاهر العداء للديمقراطية ثم الاستبداد والقهر الاجتماعي ومصادرة الحياة الدستورية وحقوق الإنسان وممارسة القمع عبر العديد من أجهزة الأمن والمخابرات وتنوع أساليبها في الإرهاب والتعذيب، إضافة إلى هيمنة شديدة للحكومة والتحكم ببقية سلطات الدولة ومؤسساتها وهيأتها المستقلة دستورياً وموظفيها، دع عنك الهيمنة السياسية الشرسة على المجتمع والحياة الاقتصادية والثقافية، فأن تفاقماً ملموساً شهدته العقود الأربعة المنصرمة لدور الريع وعواقبه السلبية من جهة، وتدهوراً دراماتيكياً للبنية الاقتصادية غير النفطية، أي لقطاعي الصناعة والزراعة، وعواقبهما السلبية الأكثر دراماتيكية على البنية الطبقية للمجتمع العراقي ووعيه الاجتماعي الفردي والجمعي. فإلقاء نظرة على إجمالي إيرادات العراق وتوزيعها بين إيرادات القطاع النفطي والقطاعات الأخرى سيجد القراء والقارئات اللوحة المشوهة التالية لعام 2020:[4]
إجمالي الإيرادات النفطية 17,23,074,613,067 دينار عراقي، أي 95%,
إجمالي الإيرادات غير النفطية 935,028,991,961 دينار عراقي أي 5%،
إجمالي الإيرادات العراقية 18,168,103,605,028 دينار عراقي 100 %.
ومما زاد في الطين بلة في العقدين الأخيرين حتى الآن هو النهج الطائفي والفساد السائد، كنظام فاعل، والأزمات السياسية والاقتصادية المتعددة والمتفاقمة والمتشابكة، بما ساهم في رفع حالة انكشاف الاقتصاد والمجتمع على الخارج وتبعيته المجحفة والشديدة لإيران على نحو خاص. فالمعطيات المتوفرة تشير إلى ارتفاع كبير في حجم الاستيرادات العراقية السنوية التي تستنزف جزءاً مهماً من إيرادات الدولة السنوية، لاسيما الاستيرادات والمصروفات العسكرية، ونسبة مهمة من استيرادات العراق من ثلاثة مناشئ هي الصين وإيران وتركيا. وتلعب الدولتان الأخيرتان دوراً كبيراً ومباشراً في عرقلة عمليتي التنمية والتثمير الإنتاجي في الاقتصاد العراقي. فقد بلغ حجم الاستيراد العراقي خلال السنتين 2018 و2019 على النحو التالي: 37 مليار دولار أمريكي و21 مليار دولار أمريكي على التوالي. وهذا التراجع في عام 2019 ارتبط بانخفاض إيرادات العرق من النفط الخام المصدر والذي سيلاحظ في عام 2020 أيضاً ولنفس السبب. وهيمن الانفاق العسكري والأمن على نسبة عالية من ميزانية الدولة العراقية حيث بلغت عام 2020 بحدود 22,6% وهي نسبة عالية جداً، في مقابل 9,3% للتربية والتعلمي و 3,8 للصحة.
إن المشكلة لا تكمن في حجم الاستيراد الخارجي للعراق فحسب، بل وبالأساس في بينة الاستيراد السلعي التي لم تشهد توجهاً صوب استيراد السلع الإنتاجية التي تساهم في تنمية الاقتصاد الإنتاجي، بل كان في استيراداً للسلع الصناعية والزراعية الاستهلاكية والسلع الكمالية التي تلعب كلها دوراً في إعاقة عملية التنمية وتطور الإنتاج السلعي العراقي بسبب منافستها للإنتاج المحي لاسيما من حيث النوعية والتكاليف والسعر. وهذا الدور تمارسه فئة التجار الكومبرادور المرتبطة مصالحها بمصالح المنتجين والمصدرين الأجانب للسلع والمناهضين لتصنيع العراق. في ظل هذا الواقع، كيف أصبحت البنية الطبقية في العراق حالياً؟
إن التتبع المستمر للواقع الاجتماعي والاطلاع على جملة من الدراسات والأبحاث في الشأن ذاته تؤكد كلها تسهم في وضع عدد من الاستنتاجات نشير إلى أهمها فيما يلي:
- انحسار شديد وتراجع كبير في حجم وبنية ومواقع عمل ووعي الطبقة العاملة العراقية وخاصة في القطاعات الإنتاجية، الصناعة والزراعة، والخدمات الإنتاجية المرتبطة بها. وهذا يعني بدوره انحسار كبير في دور وتأثير الطبقة العاملة العراقية في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد.
- انحسار شديد في شبابية وحجم الفئات الفلاحية العاملة في الزراعة والريف العراقي وتراجع كبير في عدد العمال الزراعيين، لصالح زيادة عدد الفلاحين العاملين لدى أصحاب الملكيات الكبيرة من كبار الملاكين وشيوخ العشائر، مع تراجع في الوعي الاجتماعي والسياسي وتأثير الدين والفكر الديني المتخلف عليها.
- انحسار كبير في حجم ومكانة ودور البرجوازية المتوسطة الصناعية في الاقتصاد الوطني وتخلف شديد في الاستثمارات الإنتاجية الخاصة والحكومية وضعف كبير في تأثيرها في السياسة والمجتمع، إضافة إلى ضعف ملموس في وعيها لمصالحها ودورها كواحدة من القوى الأساسية الحاملة للمجتمع المدني الديمقراطي، إضافة إلى الطبقة العاملة والفئة المثقفة. وتجليات ذلك كثيرة ومتنوعة.
- تنامي ملموس في دور البرجوازية التجارية الكبيرة الكومبرادورية المرتبطة مباشرة باستيراد السلع والخدمات ومناهضتها الفعلية لتطوير القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد الوطني، إضافة إلى نمو ملموس ومؤذي للبرجوازية المالية الطفيلية التي تعيش على مسائل مهمة منها: المضاربة المالية، ونهب المال العام وتهريبه، وغسيل الأموال، ومزاد العملة الصعبة. كما تارك بفعالية طفيلية كبيرة الفئة المضاربة بالعقارات بدعم ومشاركة الأحزاب والنخب الحاكمة التي ساهمت بنهب عدد كبير من العقارات الخاصة والحكومية، أو استولت على أراضي حكومية بطرق شتى أو تحويل صنف الأرض من زراعية إلى عقار للبناء.
- رغم ضعف مكانة ودور البرجوازية الصغير في الإنتاج السلعي الصغير، إلّا إنها أفضل حالاً من البرجوازية الوطنية الصناعية.
- تشير معطيات الواقع إلى اتساع ملموس في حجم فئة المثقفين والمثقفات والمتعلمين والمتعلمات في العراق، إلّا إن هذه السعة لا تتناسب مع الدور والتأثير اللذين يجب أن تلعبها هذه الفئة التنويرية والتثقيفية المهمة في المجتمع. وهي نتيجة منطقية لطبيعة الدولة ونهج السلطتين التنفيذية والتشريعية المناهض للثقافة والفنون والتنوير والتوعية الاجتماعية.
مقابل هذا نجد أن هناك نمواً ملموساً في البنية الطبقية المشوهة المرتبطة بواقع العراق منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي والمتفاقم سنة بعد أخرى حتى الوقت الحاضر على النحو التالي:
- النمو الكبير في بنية الفئة البرجوازية الطفيلية في أجهزة الدولة وقياداتها (برجوازية بيروقراطية عليا) وفي قطاع السمسرة المالية والعقارية والتجارية والسوق الموازي والجنس والمخدرات وفي دور جمهرة من شيوخ الدين في الأحزاب الحاكمة وخارجها. وهذه الفئة الاجتماعية هي الماسكة للسلطة التنفيذية والمجلس التشريعي وسلطة القضاء.
- استعادة كبار الملاكين القدامى وشيوخ العشائر لسطوتهم الاقتصادية والاجتماعية على مجتمع الريف العراقي وعلى مناطق السكن العشوائية التي هَجَرت الريف العراقي في فترات مختلفة ولم تتخلص من تأثير بقايا تقاليد وعادات وفكر العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية والذهنية العشائرية. كتب عبد السادة البصري موضحاً واقع المناطق العشوائية بقوله: “المناطق السكنية العشوائية هي المناطق التي كانت خالية ومتروكة سابقاً، ثم سكنها الناس بعد 2003 بسبب أزمة السكن، التي يعاني منها العراقيون منذ نصف قرن وما يزالون. ولأنهم شيّدوا بيوتهم كيفما اتفق بلا تخطيط عمراني ولا خدمات واغلبها من الصفيح (الجينكو) سميّت بالعشوائيات (الحواسم) ويسمونها (التجاوز)! إنها المناطق الفقيرة، بل الأكثر فقراً في وطننا، عائلات تعيش تحت خط الفقر وأخرى متوسطة الحال ومن ذوي الدخل المحدود التي أرهقتها تكاليف الإيجار وقلّة الراتب، بسبب الاستقطاعات والقرارات التي ما انزل الله بها من سلطان كما يقال! في كل محافظاتنا الوسطى والجنوبية تحديدا ومنها العاصمة، انتشرت هذه التجمعات السكانية وأخذت بالاتساع يوما بعد آخر، بسبب اللامبالاة والفساد المستشري في كل مفاصل البلاد، اللامبالاة بحياة الناس ومعيشتهم سواء عاشوا أو ماتوا، أكلوا أم جاعوا، سكنوا بيتاً أو في العراء.”[5]
- نمو هائل في بنية الفئة الاجتماعية الرثة الأكثر بؤساً وفاقة وحرماناً، حتى إن أجزاءً منها أشد بؤساً من أشباه البروليتاريا من الرجال والنساء، فئة اجتماعية كبيرة تعيش على هامش الاقتصاد الوطني والمجتمع والسياسة والحياة الثقافية وتحت ظروف بيئية متردية في المناطق العشوائية. وهي التي التهمت نسبة عالية من الطبقة العاملة ومن البرجوازية الصغيرة في المدينة والريف في آن واحد، كما تحتضن نسبة مهمة من المتعلمين والخريجين من مستويات مختلفة والعاطلين عن العمل.
- تفاقم ظاهرة البطالة في المجتمع العراقي، رغم استيعاب القوات الحكومية وأجهزة الدولة نسبة كبيرة من القوى القادرة على العمل، وهم في قطاعات الخدمات غير المنتجة والمستهلكة للدخل القومي. فالمعلومات المتوفرة تشير إلى الأرقام التالية في كل العراق:
عدد الموظفين: 5,292,000 موظف
عدد المتقاعدين: 2,229,000 متقاعد
عدد العاطلين عن العمل على وفق تصريح وزير العمل في العراق وصل إلى حدود 4 مليون عامل عاطل. وفي الواقع فأن الرقم الحقيقي يزيد عن ذلك بكثير. مع واقع وجود عمالة أجنبية تصل إلى 3000 عامل في قطاع النفط والفندقة والخدمات الأخرى.[6]
معدل البطالة العمرية في العراق:
الفئة العمرية 15 سنة فأكثر 13,8%
الفئة العمرية 15-24 سنة 24,5%
الفئة العمرية 15-59 سنة 27,5%
الفئة العمرية 60-64 سنة 2,9%
وإذ قدرت البطالة في عام 1918 بحدود 13,8% فأنها أصبحت في عام 2020 بحدود 40% من القوى القادرة على العمل لسبب إضافي هو وباء كورونا.
- كما ازداد عدد الفقراء في العراق ونسبتهم إلى مجموع الشعب. وهي نتيجة منطقية لما جرى ويجري في الحياة الاقتصادية. وإذ بلغت نسبة الفقر في تموز/يوليو 2019 31,7%،[7] أي بارتفاع 12% بالمقارنة مع عام 2018، أما في عام 2020 فقد ارتفعت حسب وزير العمل والشؤون الاجتماعية إلى34% فقط،[8] في حين إن كل المؤشرات الاجتماعية المتوفرة تشير إلى ارتفاع نسبة الفقراء في البلاد إلى أكثر من نصف المجتمع.
نحن أمام ائتلاف حاكم يمثل فئات اجتماعية طفيلية تعبر عن فكر ومصالح البرجوازية البيروقراطية الكبيرة والبرجوازية المالية والتجارية الكومبرادورية والعقارية والمقاولة، مع جمهرة من شيوخ الدين من أصحاب النعمة الحديثة وجمهرة أخرى من كبار الملاكين القدامى وشيوخ العشائر، إضافة إلى تشابك مصالح جمهرة من هؤلاء بعلاقات مع تشكيلات الجريمة المنظمة في مجال الاتجار بالعهر النسائي والذكوري وبالمخدرات، مستفيدة من أوضاع بؤس وفاقة عوائل كثيرة وفراغ وبطالة الشبيبة وتهريب النفط والآثار القديمة والسوق الموازي وغيرها، بشكل مباشر أو عبر الميليشيات الطائفية المسلحة والمكاتب الاقتصادية التابعة لها ولإيران. إنها سلطة عدوانية مناهضة لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما إنها مناهضة لمصالح الشعب وتغيير بنيتي الاقتصاد والمجتمع وتأمين العدالة الاجتماعية ومستنزفة باستمرار موارد الدولة المالية من الباطن بشكل علني وهائل. هنا العديد من العوامل التي تسببت في الوصول إلى هذا الواقع المزري في البلاد نشير إلى أبرزها فيما يلي:
1) هيمنة الدكتاتورية المطلقة على الدولة والمجتمع فكراً وممارسةً وانتهاجها سياسات قمعية دموية وسيطرة النزعة العسكرية والتسلح ونشوب حروب متعاقبة، وصولاً إلى الاحتلال الخارجي وإقامة نظام سياسي طائفي محاصصي وما اقترن بهما من عواقب على الدولة والمجتمع والاقتصاد الوطني والبيئة.
2) الإهمال الكامل للاقتصاد الوطني وتفاقم دور الريع النفطي في الاقتصاد، وتراجع شديد ومدمر لدور القطاع الصناعي، سواء بإهمال تام للمنشآت الصناعية الحكومية القائمة، أو بخصخصتها دون الاهتمام بما ستؤول إليه، أو بالابتعاد الكامل عن توظيف رؤوس أموال حكومية في القطاع الصناعي، لاسيما في الصناعات البتروكيمياوية والصناعات الغذائية والصناعات الإنشائية وصناعات الغزل والنسيج والصناعات الدقيقة …الخ، بما يتناغم مع حماية البيئة الملوثة اصلاً في العراق، وخنق المنتج المحلي من خلال فتح أبواب الاستيراد على مصاريعها دون أي اعتبار لقانون حماية المنتجات المحلية من المنافسة الأجنبية من جهة، ودور أتباع إيران وتركيا في العراق في منع توجيه رؤوس أموال لهذا القطاع أو جهد لتطويره وحمايته.
3) الإهمال الفعلي لقطاع الزراعة. فالمعلومات المتوفرة تشير إلى المعوقات الأتية التي تحرم القطاع الزراعي من إمكانية النمو والتطور، كم[9]ا يشير إلى ذلك مستشار رئيس الاتحاد العام للجمعيات السيد أحمد القصير:
- عدم دفع المستحقات (أثمان الحاصل المسّٓوق)، وتأخيره لفترات طويلة ودفعات متباعدة لا تفي بالغرض.
- ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي، بسبب ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من البذور والأسمدة، الكهرباء، الوقود، المبيدات، الحراثة وملحقاتها والحصاد.
- تفاقم التملح وتدهور خصوبة التربة لتفاقم مشكلة استصلاحها وتقلص المساحة الصالحة للزراعة، مما أدى إلى انخفاض في غلة الدونم الواحد وتراجع حجم وزيادة الإنتاج، وتردي دخل العائلة.
- عدم توظيف الدولة لاستثمارات رأسمالية ضرورية في القطاع الزراعي، سواء في محطات المكائن الزراعية، أو في مجالات مكافحة الآفات الزراعية، أو في توفير الخدمات الأساسية للريف والزراعة.
إن هذا الواقع يتطلب من وزارة الزراعة والبرنامج الحكومي توجيه العمل لصالح:
** تقليص الحد الأعلى للتأجير (في الأراضي المروية) وجعلهِ ضعف وحدة التوزيع، أو الحد الأعلى المقرر في القانون 117 لسنة 1970.
** الاهتمام الجدي بالأراضي التي تعتمد على الآبار، وتوفير احتياجاتها من مكائن والوقود، وشبكات الري الحديثة، إيصال الكهرباء لهذهِ المناطق باعتبارها مشاريع المستقبل.
** الخدمات الأساسية، الطرق، الماء الصالح للشرب، الصحة، التعليم، الكهرباء، مما يزيد تعلق أبناء الفلاحين بأرضهم وتقليل الهجرة.
** السماح للفلاح بغرس النخيل والأشجار المثمرة في المساحات المؤجرة وفق القانون 35 لسنة 1983 بمساحة من 5 إلى50 دونم ضمن العقد وتمليكها بعد أن تستوفي شروط البستنة المقررة في القانون 117 لسنة 1970.
4) الدور الدولي والإقليمي في التأثير السلبي على الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية والثقافية، لاسيما الدينية والمذهبية، للدولة والمجتمع، وخاصة دور الاحتلال الأمريكي-البريطاني والمؤسسات المالية الدولية وكل من حكومتي إيران وتركيا.
5) الفساد المالي والإداري الذي رافق العقود الأربعة المنصرمة والذي تفاقم سنة بعد أخرى ليصل إلى مستوى نظام متكامل وشامل للفساد، وليس ظواهر مبعثرة هنا وهناك، تمارسه سلطات الدولة الثلاث وأجهزتها ومؤسساتها المختلفة ويمتد ليشمل المجتمع وكل الدول التي تتعامل مع العراق، لاسيما إيران وتركيا والولايات المتحدة وروسيا ودول الخليج. وتشير منظمة الشفافية الدولية إلى أن العراق احتل موقع 162 من 180 دولة،[10] وهو واحد من أكثر ست دول عربية فساداً.[11] والمعطيات المتوفرة تشير إلى أن حجم المنهوب من موارد العراق المالية وحدها خلال الحكم الطائفي السياسي بلغ حسب “الخبير الاقتصادي منار العبيدي إن المقدار الحقيقي للأموال “الضائعة” يقدر بـ”400 -450 مليار دولار أميركي”، أي نحو 40 بالمئة من مجموع موازنات العراق.[12] وكان وزير المالية العراقي علي علاوي قد صرح بأن الأموال التي سرقت من العراق منذ عام 2003 بلغت 250 مليار دولار أمريكي.[13] وقد ردَّ عليه الخبير الاقتصادي منار العبيدي بأن المبلغ الذي تحدث عن وزير المالية (250 مليار دولار أمريكي هو فقط للأموال التي ضاعت بدون قيود صرف رسمية“..[14]
6) تراجع شديد في وعي الإنسان السياسي والاجتماعي الفردي والجمعي وعزلته الشديدة عن التحولات الجارية في العالم، وتراجع مستوى التعليم والعقلانية في جميع مراحله واختصاصاته، ووقوعه في وبراثن الفساد والغيبيات والأساطير والخرافات وتأثيرها الفعلي المباشر وغير المباشر على دور وقدرة المجتمع في التأثير على سياسات الدولة ونهجها الاستبدادي والقمعي.
7) التشابك غير العقلاني بين الدين والفكر الديني من جهة، ومؤسسات السلطات الثلاث، لاسيما في مجالات التعليم والثقافة والإعلام، وتأثير ذلك على وعي الإنسان وقدرته على فهم واستيعاب حقيقة ما يجري في البلاد من جهة ثانية.
إن خلاص العراق يتطلب تحالفاً واسعاً وسريعاً لكل القوى الاجتماعية ذات المصلحة الفعلية في عملية التغيير العميقة في الواقع العراقي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وبيئياً. وهذه القوى بحاجة ماسة وقادرة على تحقيق مثل هذا التحالف الوطني المدني الديمقراطي، رغم ضعفها الراهن وهامشية الدور الذي تتميز به على صعيد السياسة العراقية.
من الناحية النظرية يمكن لمثل هذا التحالف الاجتماعي الواسع أن يتشكل من القوى الاجتماعية التالية:
القوى العمالية والفئات الفلاحية والبرجوازية الصناعية والبرجوازية الصغيرة، بمن فيها فئة صغار الموظفين، وفئة المثقفين والمتعلمين والطلبة، وأجزاء واسعة من أشباه البروليتارية التي تعاني من التهميش والإقصاء والفقر والحرمان. ومن الناحية العملية في ظروف العراق الملموسة يلاحظ المتتبع عدم وجود مشاركة سياسية واسعة في الحياة السياسية أو في الانتفاضة التشرينية لفئات العمال والفلاحين والبرجوازية الصناعية وفئات البرجوازية الصغيرة من الكسبة والحرفيين، في حين كانت المشاركة سياسياً واحتجاجياً من فئة أشباه البروليتارية المسحوقة وجمهرة من المثقفين الديمقراطيين والطلبة من الذكور والإناث، والشبيبة. وهي قوى غير كافية لتحقيق التغيير المنشود في المجتمع. كما أن أغلب الفئات والقوى السياسية ذات المصلحة الحقيقية في التغيير لا تمتلك أحزابها السياسية ولا تمتلك حتى الآن الوعي فإقامة مثل هذه الأحزاب السياسية، لاسيما البرجوازية الصناعية وفئات البرجوازية الصغيرة وقوى الانتفاضة التشرينية.
ويشير واقع البلاد إلى أن قوى التيار المدني والديمقراطي العراقي لم تستطع حتى الآن تحريك الريف العراقي ولا فئات البرجوازية الصغيرة العاملة في القطاعات السلعية الصغيرة أو البرجوازية الوطنية لاسيما الصناعية، وهي مازالت بعيدة عن تمثيل كل الطبقات والفئات الاجتماعية ذات المصلحة الفعلية في التغيير المنشود. وفي الوقت ذاته لم تنشأ تلك الأحزاب القادرة على التعبير عن إرادة ومصالح العديد من الفئات الاجتماعية ذات المصلحة بالتغيير. إنها عملية صيرورة وسيرورة معقدة وطويلة ومرتبطة ببنية الاقتصاد والمجتمع والوعي الاجتماعي، إنها عملية نضالية ذات محتوى سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي متشابك لا بد من خوضها لصالح التغيير.
الانتفاضة التي تفجرت في تشرين الأول 2019 كانت نتيجة مخاض نضالي طويل للقوى المدنية وفضح مستمر لسياسات النظام الطائفي الفاسد، ومثلت بنية قوى الانتفاضة الشبيبة من الفئات الاجتماعية الفقيرة والرثة والمثقفين وخريجي الكليات والمعاهد والثانويات الذين يعانون من البطالة، وكذلك الطلبة من النساء والرجال. إنها خليط غير متجانس، ولكن في غالبيته ممن يعانون الأمرين من طبيعة النظام ونهجه وسياساته وفساده، وممن خاب ظنهم بهذا النظام الذي اعتقدوا أنه يعمل لمصلحتهم!
إن هذا الواقع يجعل من الصعوبة بمكان استمرار الانتفاضة مجدداً ما لم تتخذ بنية الانتفاضة نزوعاً واعياً نحو العمق الفكري والسياس ووضوح الأهداف، ونحو العمل لجلب المزيد من الفئات الاجتماعية والقوى الواعية للعملية النضالية، ونحو الوعي بأهمية التنظيم والقيادة الموحدة للعملية الثورية الجارية في البلاد، أي لتحالف متين ومتماسك لقوى الانتفاضة وأصحاب المصلحة الفعلية بأهدافها المركزية، أي التغيير الجذري في طبيعة النظام السياسي القائم.
ملاحظة: نشر المقال في مجلة الثقافة الجديدة، العراق، في عدد شهر أيار/مايس 2021.
الهوامش والمصادر
[1] أنظر: محمود محمد القيسي، الرقمنة العراقية 2020.، ص 27 و28.
[2] أنظر: كاظم حبيب، لمحات من عراق القرن العشرين، العراق في العهد الجمهوري، استبداد وبداية حروب الجمهورية الرابعة في العراق، الكتاب التاسع، الجزء الثاني 1979&1980-1989&1990. دار أراس للطباعة والنشر، أربيل- إقليم كردستان العراق- العراق، 2013م.
[3] المصدر اسابق نفسه.
[4] المصدر السابق نفسه.
[5] أنظر: عبد السادة البصري، ساكنوا العشوائيات …!، جريدة طريق الشعب، العدد 51، السنة 86، 23 شباط 2021، ص 12.
[6] أنظر: الرقمنة العراقية، مصدر سابق.
[7] أنظر: مؤيد الطرفي، معدلات الفقر في العراق إلى ارتفاع والحكومة تحاول السيطرة عليها/ موقع غربية، في 31/12/2020.
[8] أنظر: تقرير تزايد لافت لمعدلات الفقر في العراق.. وهذه هي الأسباب، موقع الجزيرة، في 07/02/2021.
[9] أنظر: مراسلة خاصة مع السيد أحمد القصير عبر الصديق الإعلامي حمدي فؤاد العاني حول أوضاع الزراعة والفلاحين في الريف العراقي.
[10] أنظر: أنظر: تقرير تزايد لافت لمعدلات الفقر في العراق.. وهذه هي الأسباب، موقع الجزيرة، في 07/02/2021.، منظمة الشفافية الدولية، في 26/01/2020.
[11] أنظر: د. أسامة مهدي، العراق ضمن سد دول عربية الأكثر فساداً في العالم، موقع إيلاف، 28/01/2021
[12] أنظر: يكفي لبناء دول”.. خبراء يكشفون بالأرقام حجم “أموال العراق الضائعة، موقع الحرة، في 05/10/2020.
[13] أنظر: علي السويعدي، الكشف عن حجم الأموال المنهوبة من العراق منذ 17 عاما، موقع العين الإخبارية. بتاريخ 05/10/2020.
[14] أنظر: يكفي لبناء دول”.. خبراء يكشفون بالأرقام حجم “أموال العراق الضائعة، موقع الحرة، مصدر سابق.