إنهم يذبحون الشعر…
د. غازي هلال مخلف
تعج الساحة( الأدبية ) المعاصرة بالكثير الكثير ممن يسهل على بعض الألسن إطلاق مسمى شاعر عليهم..فالعديد من أولئك لا يجيد حتى فن الاستنساخ والتقليد ورغم ذلك يطلق عليه بسهولة ودون تورع مسمى شاعر…إن مثل هؤلاء لا يصلحون أن يكونوا في حزب من قال:
.كأننا والماء يجري من حولنا
.قوم جلوس حولهم ماء…
فكيف وهم يتواقحون في محاولة وضع أنفسهم في خيمة البحتري والمتنبي والسياب ونزار وسواهم من الشعراء الحقيقيين..ينبغي على كل من يريد أن يطلق على بعض كلمات له مسمى(قصيدة ) أن يتمم بصعيد طاهر من الأرض ثم يقف مصفر الوجه بحضرة الشعر ثم يتقبل حكمه العادل في تلك الكلمات، لا أن يتبجح الصغار في إطلاق ما يحلو لهم من الالقاب دون مخافة المرور بمحكمة الشعر.
إن بعض النماذج الجديدة المحسوبة على مسمى المعاصرة تمكن أن يجد له زاوية ضيقة مظلمة نتنة في خيمة الصحافة فهو يقتات على فضائح العباد وحين وجد من يصفق له بحرارة ممن هم على شاكلته توهم أنه قريب قاب قوسين أو أدنى من الشعر فكتب كلمات على غرار:
أمام وراء وراء أمام
أمام وراء وراء أمام…
فصار أولئك ينادونه: شاعرنا المبجل وخرج صوته ليزاحم الأصوات الشعرية الفريدة الحقيقية، ولك أن تجد في العديد من نماذج الساحة العراقية ما تجد فيه ضالتك المنشودة.
لقد تكلم أدونيس كلامًا حول الثورة السياسية ومخلفاتها وهو كلام يمكننا ببساطة إسقاطه على مزاعم الثورة الأدبية التي كان هو نفسه من أوائل المنادين إليها والداعين لها..فقد قال بتصرفنا(…الثورة اليوم اتسخت…إن الثورة اليوم يقوم بها أناس متطرفون متوحشون أكثر من الأنظمة التي يسوؤون عليها…صرنا في وضع معقد..فالحلول صارت أكثر سوءًا من المشكلات….نحن العرب اليوم في مرحلة انقراض..لا في مرحلة ثورة ولا في مرحلة نهوض..نحن في بحيرة تجف مليئة بالسمك..وهذا السمك يأكل بعضه بعضًا…بعماوة وبضلالة كاملة…..)
إن من بعض مخلفات المعاصرة في رأينا إتقان أولئك الأدعياء على الشعر فن الاحتيال الأدبي،وهو أكثر قذارة من فن الإغارة الأدبية،إذ يعمد أحدهم إلى صورة شعرية قديمة مرموقة فيحتال على معانيها الدقيقة ثم يقولبها يمنة ويسرة حتى يشوه ملامحها الأصيلة ثم يخرجها فب سياق ساذج لا يليق بها البتة حتى ينسبها زورًا إلى نفسه مدعيًا شعريتها الجديدة، بعد ذلك يتلقفها سذج القراء ممن هم أشباهه في الطباع فيتوهمون أن تلك الصورة المسكينة هي من بنات أفكار هذا الدعي على الشعر فيكثر نتيجة لذلك التصفيق والهتاف وكأنهم وهو تمكنوا من تحرير الأرض المقدسة من براثن الغاصبين.بيد أن الناقد الحصيف لا يمكنه بحال من الأحوال إغفال تلك الألاعيب القذرة التي يمارسها هؤلاء فيعمد إلى فضحها والتشهير بها على ملأ القراء ثم ليكون عدوًا لدودًا لأولئك الأدعياء.
إن الشاعر لكي يكون شاعرًا مطالب بأن لا يكون أحادي اللغة لأنه سيعزل نفسه في زاوية ضيقة ربما يصلها الضياء وربما لن يمر بها البتة حال دورة المعاني والصور داخل فضاء النص،فلا بد أن يأتي بجانب اللغة التأثيري قبل الإتيان بجانبها الإيصالي فتلك الثنائية كفيلة بصنع الشعرية والشاعر معًا.أما ما نراه اليوم في أغلبه لا يعد سوى هرطقات غامضة لا شأن لها سوى تقديم الشعر في مسماه الحقيقي إلى مقصلة الذبح والإهلاك بدعوى التجديد والتحديث وصناعة شعراء جدد يفوقون الأقدمين في مسألة الطبع فضلًا عن الصنعة،وهنا تكمن المعضلة في عدم وجود نقاد حقيقيين يتولون التصدي لمثل هؤلاء الصغار والذود عن حياض الأدب والشعر.
إن القارئ الحصيف المتمثل بدقة لمقولة الناقد الأديب ابن المعتز في إطارها العام ( … والعامة الحمقى تنسب كل شعر في إلى أبي نواس…) هذه المقولة يمكن سحبها تمامًا هذا اليوم على واقعنا الأدبي المزري، إذ إن غالبية العامة اليوم الذين لا باع لهم في التذوق الأدبي والشعري فضلًا عن نقده ينسبون كل كلام غزا مسامعهم أيًا كان إلى خيمة الشعر لا لشيء إلا لأن ذلك الكلام صدر عن إنسان تافه روجت له بعض الظروف ووسائل الإعدام الهابطة الذمم ووضعته بمساعدة تلك العامة قسرًا في جلباب الشعر والأدب،فصار أولئك الأدعياء ممثلين لمركز الأدب ونواة الشعر والداعين له فيما ظل الشعراء الحقيقيون تحت رحمة ذلك الهامش وظله المقيت.
إن هذه النماذج المدعية للشعرية إنما هم في الحقيقة قد ذهبوا ( بخبز الشعر والشعراء..) كما يقال بسبب ما أشرنا إليه أول المقال فضلًا عن تمكنهم من صناعة الحيل واستمالة أولئك الحمقى نحو نصوصهم المضحكة التي لا يتورعون في تسميتها بالقصائد.
إننا نؤكد غير زاعمين أن قضية الذوق الخاص المرتبط بالأدب والشعر قد آلت إلى الهلاك القريب من الموت لما أصبحت بيد فئتين من أولئك الحمقى، حيث فئة المدعين للشعرية المعاصرة إلى جانب فئة النقاد المختصة بنقد تجارب تلك الفئة المشار إليها آنفًا ومن ثم فئة المتلقين الذين تولوا مهمة الإجهاز النهائي على ذلك الذوق حتى صار نسيًا منسيًا.
.أنى تعود إلى المعنى بكارته
.لنشهد الرعشة الأولى من الشبق..
إن هذا التساؤل المنطقي للشاعر المتألق محمد عبد الباري يدلنا على حقيقة ذلك الضياع والتضييع الذي يعانيه الأدب العربي اليوم ولاسيما الشعر المعاصر، إذ ما دامت تلك النماذج البشرية المهترئة تمارس هراءها ذاك بدعوى الشعر والمعاصرة من خلال هذه النصوص الفاقدة لأهلية الشعرية فلن نتمكن من معانقة ذاك المعنى بشبق كما أشار إليه الشاعر محمد عبد الباري.
إننا نطالب الإنسان الذي يروم أن يصبح شاعرًا بأن يكون شاعرًا فاعلًا لا شاعرًا عابرًا، فهو والحالة هذه سيتعدى مرحلة الزوال من الثانية ليمتلك ناصية الأولى حيث النضج والتأثير.. فإنه إن وقع ضحية الثانية سيكون من أولئك الذين أسماهم هذا المقال( إنهم يذبحون الشعر…).
.إن من بين تلك السمات التي تميزت بها الشعرية الكلاسيكية وحتى شعرية التفعيلة ما يشير إلى مهارة الشاعر الحقيقية في إتقان لعبة الترميز، ذلك الترميز الذي من شأنه خلخلة أنظمة القراءة على عمقها لدى القارئ من خلال ذلك الغموض والحيرة والإلتباس الذي يتركه أمامه حال شروعه بالقراءة والتحليل والتفسير والنقد، وعلى عكس ذلك تمامًا فإننا نجد ذلك التخبط الفوضوي الكلامي الذي صنعت به تلك النماذج المعاصرة المدعية للشعرية مستنقعًا كريه الرائحة لتقوم بدورها بوضع الشعرية العربية الفريدة في مأزق الضياع والتلاشي واللاشعرية.
لقد كان الشاعر مذ عرفناه وحتى زمان قريب هو الوسيلة المثالية التي تكاد تكون الوحيدة التي توظفها الأمم للتعبير عن كل معالم الحياة فيها، فالقصيدة هي وسيلة نشر الأحداث المجتمعية ولسان المجتمع الرسمي الناطق التي تمكنت من تأدية دور التلفاز بل وحتى الشبكة العنكبوتية لما كانت تتمتع به من النضج الهائل وهيبة الحضور والقيم الفنية الحقيقية وهنا أدت تلك القصيدة دورها بحرفية دقيقة جدًا، على عكس ما نراه اليوم من تدهور النتاج الأدبي الحقيقي وحلول هذه النصوص العقيمة النثرية التي أطلق عليها ظلمًا مسمى الشعر فأفضى ذلك إلى عزوف العديد من طبقات المجتمع عن هذا الأدب عمومًا والشعر خصوصًا ومن ثم التوجه صوب الفن الروائي وهنا ليس يليق بهؤلاء إلا القول في حقهم أنهم أفسدوا الأدب والشعر أكثر مما أصلحوا منه.