اتفاقية الإطار الاستراتيجي مع أميركا وضياع الفرص العراقية
د. عقيل عباس
خلال أيام سيحل رئيس وزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، ضيفا على العاصمة الأميركية، واشنطن، في زيارته الثانية للولايات المتحدة كرئيس للوزراء.
يرافق الكاظمي في هذه الزيارة وفدٌ عراقي كبير نسبيا يغطي الجوانب التي ستتناولها الزيارة كالخدمات والتعليم والصحة والبنوك فضلاً عن الملفين الأساسيين المتعلقين بالسياسة والدفاع.
الإطار الرسمي لهذه الزيارة هو اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي وقعتها الولايات المتحدة والعراق في نوفمبر عام 2008، وصادق عليها مجلس النواب العراقي في نهاية نفس العام ودخلت حيز التنفيذ في شهر يناير من العام التالي 2009.
ترسي هذه الاتفاقية واسمها الكامل هو “اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة وتعاون بين الولايات المتحدة وجمهورية العراق” أسس تعاون مشترك وطويل المدى بين البلدين في سبعة مجالات رئيسية هي: 1-السياسة والدبلوماسية، 2- الدفاع والأمن، 3- الثقافة، 4- الاقتصاد والطاقة، 5- الصحة والبيئة، 6- تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، 7- تطبيق القانون والقضاء. في كل واحدة من مجالات التعاون هذه، حددت الاتفاقية الأهداف العامة المرتبطة بكل قطاع وهي، في أغلبها، تتصل بتقوية المؤسسات العراقية وتطوير قدراتها على تأدية مهامها بفعالية. للإشراف على إنجاز هذه الأهداف، نصت الاتفاقية على تشكيل لجنة تنسيق عليا أميركية-عراقية، تلتقي دورياً، مهمتها متابعة تنفيذ بنود الاتفاقية وتُمثل فيها الوزارات والمؤسسات المعنية بالمشاريع التي تُحدد في إطار الاتفاقية. هذا فضلاً عن تشكيل لجان تنسيق مشتركة، عند الحاجة، تكون من مستوى أدنى، تتكون عموماً من الفنيين المختصين، وتقوم بالإشراف المباشر على تنفيذ المشاريع التي يتفق عليها الطرفان. تقدم لجان التنسيق هذه تقاريرها إلى لجنة التنسيق العليا.
بعكس ما يتصوره عراقيون كثيرون، لا تتضمن الاتفاقية التزاماً أميركياً بالدفاع عن العراق ضد أي تهديد أمني داخلي أو غزو خارجي، بل أقصى ما تشير إليه بهذا الصدد هو ” تطوير تعاون وثيق بخصوص ترتيبات أمنية ودفاعية من دون التجاوز على السيادة العراقية” في إطار “تحسين قدرة جمهورية العراق على صد التهديدات ضد سيادتها وأمنها ووحدة أراضيها”.
حيز اتفاقية الإطار هذه شامل وطموح ومفتوح ومرن ويقوم على الحاجات العراقية كما يحددها العراق، إذ هو يشمل كل مجالات التعاون الممكنة مع أميركا لتطوير مؤسسات الدولة العراقية، وغير محدد بفترة زمنية، ويمكن للعراق أن يخرج من كامل الاتفاقية إذا شاء من خلال إبلاغ الطرف الآخر بعام واحد قبل انسحابه منها. للاستفادة الحقيقية من هذه الاتفاقية المهمة، يحتاج العراق أن يرسم رؤية متكاملة لكيفية تطوير مؤسسات الدولة وتحسين أدائها عبرها، ويشكل اللجان اللازمة ويتابع العمل من خلالها مع الجانب الأميركي على نحو جدي ومتواصل وتراكمي. لكن لسوء الحظ ليس هذا ما حصل، إذ ذهبت هذه الاتفاقية، كأشياء أخرى كثيرة في البلد، ضحيةً لتقلبات المزاج السياسي وضعف التخطيط والحاجات الآنية للحكومات العراقية المتعاقبة، وليس الحاجات الطويلة المدى للدولة العراقية.
ظلت هذه الاتفاقية، عملياً، مركونةً على الرفوف العراقية أكثر من ثلاث سنوات بعد دخولها حيز التنفيذ في بداية 2009، إلى أن دعا رئيس الوزراء حينها، نوري المالكي، في خريف 2012 إلى تفعيلها، بعد تصاعد المطالب الشعبية بتحسين الخدمات، لتتبع هذه الدعوة بعد أشهر في بغداد أول الاجتماعات الجدية مع نظراء أميركيين للتعاطي مع تحديات الخدمات والصحة والتعليم والاستثمار. لم يتم البناء على هذه الاجتماعات والأفكار التي أثيرت، وبعضها مهم. اضطرابات الأمن والسياسة في العراق والخصومة المتصاعدة بين حكومة المالكي وإدارة أوباما حينها، جعلت متابعة بنود الاتفاقية هامشاً مُهملاً في بغداد.
وحتى مع تحسن العلاقات الأميركية-العراقية بعد تولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء في 2014، لم تُستثمر اتفاقية الإطار الاستراتيجي على نحو شامل على أساس رؤية عراقية متكاملة، بل عُمد إلى العادة السيئة، المتواصلة لحد الآن، بانتقاء ملفات وترك غيرها، على أساس الحاجات الآنية للحكومة. وهكذا ركزت حكومة العبادي على القضايا المتعلقة بالأمن والدفاع في ضوء التحدي الذي كان يواجهه البلد ضد تنظيم داعش، وتم اعتبار الاتفاقات والتقدم الحاصل في هذا المجال على أنه جزء من اتفاقية الإطار. أيضاً، في سياق الأزمة المالية الخانقة حينها التي عاشتها حكومة العبادي، فُعِّلَ الجانب المتعلق بالإصلاح الاقتصادي والمالي في الاتفاقية، وحصل تقدم مهم بهذا الصدد، لكن عندما عادت أسعار النفط إلى الارتفاع، توقفت الحكومة عن متابعة إصلاحات مهمة بدأت بها فعلياً لكنها تخلت عنها فيما بعد! في عهد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي عاشت اتفاقية الإطار موتاً سريرياً، إلى أن “أحيتها” حكومة مصطفى الكاظمي، بإجرائها، لحد الآن، أربع جولات حوار، العدد الأعلى الذي قامت به أي حكومة عراقية.
باستثناء ملفات الدفاع والطاقة (التي تتحمس لها الشركات الأميركية عادةً بسبب العقود الدسمة المرتبطة بها)، ليس ثمة تقدم مضطرد وتراكمي في تنفيذ بنود الاتفاقية الأخرى، التي تحولت تدريجياً إلى ما يشبه اللازمة اللغوية في الإعلانات الدبلوماسية، الإميركية خصوصاً، الواردة في تفسير الكثير من النشاطات المشتركة للبلدين، فحتى زيارات رؤساء الوزراء العراقيين لأميركا أو لقاءات المسؤولين الأميركيين مع نظرائهم العراقيين توضع في سياق اتفاقية الإطار الاستراتيجي، وكأن العراق أو أميركا بحاجة إلى اتفاقية استراتيجية للقاء مسؤولين منهما أو عقد تفاهمات بين البلدين!! حتى لجنة التنسيق العليا التي تشكلت لمتابعة تنفيذ الاتفاقية تحولت تدريجياً إلى شكل دبلوماسي معبأ بالأمنيات والنيات الطيبة لكنه خال من المحتوى الجدي.
رغم أن حكومة الكاظمي تحاول تفعيل الجوانب المختلفة والمفيدة في الاتفاقية، فإن السبب الرئيسي لاهتمامها بها يتعلق أساساً بالتحديات الآنية التي تواجهها بخصوص القوى الميليشياوية، التي في إطار تغولها العام على الدولة والمجتمع، تضغط على الحكومة لإخراج القوات الأميركية من البلد.
في الحقيقة، لو حرصت الحكومات العراقية المتتابعة منذ عام 2009 حين دخلت اتفاقية الإطار الاستراتيجي حيز التنفيذ، بتطبيق الأهداف التي نص عليها البندان الثالث (الأمن والدفاع) والثامن (تطبيق القانون والقضاء) من الاتفاقية، لما كان اليوم في العراق ميليشيات تنافس الدولة وتتحداها! العراق بلد الفرص المضيعة بامتياز، والسبب هو النخب السياسية التي توالت على حكمه.