مع نجيب محفوظ في أولاد حارتنا *
عدنان الظاهر
مَنْ هو الجبلاوي ؟ أجاب نجيب محفوظ وأيّده الدكتور أحمد كمال أبو المجد أنَّ الجبلاوي هو الدين أو يرمز للدين فهل كان الرجلان صادقين فيما قالا ؟ سنرى.
ثمَّ ، وتحت ضغط وتهديدات بعض مشايخ الأزهر أُضطر المرحوم نجيب للقول إنَّ المجتمع يتحرك على محورين لا ينفصلان هما الدين والعلم . أُثبّتُ ما قال الرجلان وما قالا هو في نظري من باب التقية أي إتقاء الشرور والمخاطر .
(( وفي إطار ” أولاد حارتنا فإنني فهمتُ شخصية ” عرفة ” بأنها رمزٌ للعلم المجرّد .. وليست رمزاً لعالم بعينه ، كما فهمتُ شخصية ” الجبلاوي ” على أنها تعبيرٌ عن الدين وليست بحال من الأحوال تشخيصاً رمزياً للخالق سبحانه وهو أمرٌ يتنزهُ عنه الأستاذ ” نجيب محفوظ ” ولا يقتضيه أي اعتبار أدبي فضلاً عن أنْ يستسيغه أو يقبله / الدكتور أحمد كمال أبو المجد / الصفحة 583 من الرواية )).
(( إنَّ كتاباتي كلها ، القديم منها والجديد ، تتمسكُ بهذين المحورين : الإسلام الذيس هو منبع قيم الخير في أمتّنا ، والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا . وأحبُّ أنْ أقولَ : إنه حتى رواية ” أولاد حارتنا ” التي أساء البعضُ فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية . ولقد كان المغزى الكبير الذي توّجتُ به أحداثها .. أنَّ الناس حين تخلوا عن الدين ممثلاً في ” الجبلاوي ” وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في ” عرفة ” أنْ يديروا حياتهم على أرضهم ( التي هي حارتنا ) .. إكتشفوا أنَّ العلمَ بغير الدين قد تحوّل إلى أداة شر ،وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم .. فعادوا من جديد يبحثون عن ” الجبلاوي ” / نجيب محفوظ / الصفحة 587 من الرواية )) .
في إمكان أي قارئ لرواية أولاد حارتنا أنْ يفهم وأنْ يفسّر هذه الرواية تفسيرات شتّى مُغايرة فهي حمّالة أوجه . هذا حق القارئ يمارسه حسب ثقافته واجتهاده وقدرته على الغوص عميقاً واستكناه بواطن الأمور وكشف ما يُخفي كاتب النص وما يختفي بين السطور . قال نجيب محفوظ رأيه فيما كتب فأعطانا حرية أنْ نكتب ما رأينا في روايته فحقوقنا متساوية . في الفصل الخاص الذي يحمل عنوان ( أدهم ، أي آدم / الصفحة 11 ) كلام صريحٌ واضح فيه حوارات بين الجبلاوي وكل من ولديه الأكبر إدريس أي إبليس ، والآخر أدهم أي آدم . هل للدين أبناء ومن هم أبناء هذا الدين وعن أي دين تكلم كاتب الرواية ؟ ثم هل كان هناك ثمّة من دين في بدايات خلق الإنسان سواء في جنّة الخلد [ أين مكانها الدقيق ؟ ] وبعد معصية آدم وحوّاء لأمر الرب وهبوطهما إلى الأرض عقوبةً لمخالفتهما الأمر ؟ أي دين ؟ فالأديان السماوية معروفة . نقرأ ما قال نجيب محفوظ في الفصل الذي خصصه لأدهم { مقتطفات متفرقة } :
(( .. ويوماً دعا الواقف أبناءه إلى مجلسه بالبهو التحتاني المتصل بسلاملك الحديقة . وجاء الأبناء جميعاً ، إدريس وعبّاس ورضوان وجليل وأدهم في جلابيبهم الحريرية فوقفوا بين يديه وهم من إجلاله لا يكادون ينظرون نحوه إلاّ خِلسةً .. وهو يبدو بطوله وعرضه خلقاً فوق الآدميين كأنما من كوكب هبط … وما يقلقهم إلاّ أنه جبّارٌ في البيت كما هو جبّارٌ في الخلاء .. وقال بصوت خشن عميق ..
ـ أرى من المستحسن أنْ يقومَ غيري بإدارة الوقف .. وقد وقع اختياري على أخيكم أدهم ليديرَ الوقف تحت إشرافي … فغضوا الأبصار حذراً من أنْ يقرأَ ما في نفوسهم إلاّ إدريس فقد قال بإصرار .
ـ ولكنني الأخ الأكبر . فقال الجبلاوي مستاءً : أظن أنني أعلم ذلك ، فأنا الذي أنجبتك )) . ما يضع نجيب أمام عيوننا في هذه الأقوال ؟ أليس هذا مشهد من مشاهد ما ورد في قرآننا من آياتٍ تصف الجنة وما فيها وما جرى هناك من نقاش حامٍ بين الله وإبليس ؟ فلنقرأ سورة الأعراف. أترك هذه النقطة فربما أعودُ إليها بعد أنْ أفرغ من استعراض الكثير من جزئيات الرواية .
لا ريبَ أنَّ نجيب محفوظ كاتب بارع في السرد القصصي والحكائي وله نفس طويل جداً في استحضار دقائق الأمور الحياتية ووصف ما لا يخطر على بال الناس . غير أنه في روايته الطويلة هذه [593 صفحات ] لم يشأ أنْ يقيد نفسه تقييداً حرفياً بالحقائق المعروفة والمكتوبة في كتب الأديان الثلاثة : اليهودية والمسيحية ثم الإسلام . أخذ نُبذاً وفقراتٍ منها ثم صاغ منها وحولها قصصاً وحكايا وترك للقارئ أمر ردّها لأصولها كما وردت في كتب الديانات . إنه بهذا يضع القارئ العارف بما في الكتب الثلاثة بين أمرين لا ثالثَ لهما . إما أنْ يخضع جزئيات الرواية للتأويلات وفق ما يعرف عن هذه الأديان وما جاء في كتبها أو أنْ يعتبرَ الرواية برمتها مجموعة قصص مصممة في الأصل كحكايا للأطفال تقصها عليهم جدّاتهم قبيل النوم . نعم ، وجدتها تصلح قصصاً للأطفال وهذا لا يُنقص من قدر المرحوم نجيب .
آدم وغواية إبليس /
حاول الروائي صاحب أولاد حارتنا أنْ يُعيد قصة خلق الإنسان إعتباراً من عصيان أبينا آدم [ أدهم ] لأمر ربه حيث أغواه إبليس [ إدريس ] فحلت عليه وزوجه حوّاء [ أُميمة ] اللعنة وأُهبطا إلى الأرض مُستقراً لهما وفيها لهما ولذرّيتهما متاع (( قال اهبطوا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مُستقرٌ ومتاعٌ إلى حين . قال فيها تَحيونَ وفيها تموتونَ ومنها تُخرجون / الآيتان 25 و 26 من سورة الأعراف )). في مستقرهما الجديد على الأرض أنجب أبوانا قدري [ قابيل ] وهُمام [ هابيل ] كما أنجب إدريس [ إبليس ] بنتاً أسماها هنداً ! لا أحد يعرف أنَّ إبليس تزوج وأنجب خاصة وأنَّ ربّه لم يُخرجه من الجنة بل أبقاه هناك حسب طلبه إلى يوم يُبعثون (( قال ما منعك ألاّ تسجدَ إذْ أمرتكَ قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين . قال فاهبطْ منها فما يكونُ لك أنْ تتكبّرَ فيها فاخرجْ إنّكَ من الصاغرين . قال انظرني إلى يوم يُبعثون . قال إنّكَ من المُنظرين / الآيات 12 و 13 و 14 من سورة الأعراف )). إذاً ما كان إبليس يوماً على الأرض فكيف تزوج وأنجب ومن كانت زوجه ؟ يلوحُ لي أنَّ كاتب هذه الرواية أراد أنْ يبالغ في سوء خلق وطبع إبليس وأنه لم يمت ولم يختفِ بل وتزوج قابيلُ قاتلُ أخيه هابيل من إبنته هند ليقول نجيب ـ وقد قال بالفعل ـ إنَّ قسماً كبيراً من البشر هم من ذريّة قتلة وأشرار فهذا قابيل القاتلُ وهذه هند إبنة العاصي والغاوي إبليس فمن وكيف ستكونُ ذريّتهم ومن سيخلفون ؟ (( وفي تواريخ متقاربة ودّعَ الحياةَ أدهم فأميمة ثم إدريس . وكبر الأطفال وعاد قدري بعد غيبة طويلة ومعه هند . نشأوا { كتبها نجيب بشكل نشئوا .. وله طريقته الخاصة في كتابة الهمزة تخالف ما يعرفه العراقيون عن رسمها وضبطها } جنباً إلى جنب وخالطوا غيرهم فازدادوا بهم عدداً. وانتشر العمرانُ بفضل أموال الوقف فارتسمت في صفحة الوجود حارتنا. ومن هؤلاءِ وأؤلئك جاء أبناءُ حارتنا / الصفحة 119 )).
لاحظتُ اجتهاد نجيب في اختياره للأسماء أنْ تكونَ قريبة أو مشتقة أو شبيهة بالأسماء الأصل . فأدهم هو آدم وآدم مشتق من الأديم وكانت بشرته سمراء أو داكنة كما يصفون . وكذلك الأدهم . أميمة هي حوّاء أم الجميع وأميمة مصغر أم. قدري هو قابيل القاتل وهُمام هو هابيل القتيل . وإدريس هو إبليس فهل من شك في أسلوب نجيب في إختياره لأسماء شخوص روايته ؟ سنرى الكثير من ذلك كلما توغلنا في أحداث الرواية أبعد وأكثر .
قصة نبي اليهود موسى [ جبل ]
قفز نجيب محفوظ قفزة طولية شاسعة في مداها الزمني حيث انتقل من آدم وما أحاق به من عقاب صارم جرّاء مخالفته لأمر ربه .. إنتقل إلى حِقبة موسى ونشأته في قصر فرعون مصر تحت رعاية زوجه الهانم . أجاد الكاتب في صياغة ورسم مفاصل وأحداث هذا الفصل ولا من عجب ! فهو يروي بأساليب روائية ناجحة تأريخ بني إسرائيل في مصر وهرب موسى إلى أرض مدين إثر قتله لرجل من رعية آل فرعون أي من غير شيعته بني إسرائيل . أفاض نجيب هنا مستعيناً بما قرأ في العديد من سور القرآن حول مولد موسى وتبني زوج
الفرعون له وهربه وزواجه من إحدى بنات شُعيب في أرض مدين أو مديان . ثم إنقاذه لقومه اليهود بني إسرائيل . ذهب خيال نجيب به إلى تخوم بعيدة غير متوقعة منها مثلاً أنَّ موسى غدا في مدين وفي بيت حميّه شُعيب صائد وحاوي ثعابين يعرف كيف يسحرها ويحركها كيفما يشاء بل حتى ويمسخ عصاه حيّة تسعى وتلتقم ثعابين سَحرة الفرعون . تلك آيات أقنعت الفرعون أنَّ موسى نبيٌّ ذو آيات ربانية . شُعيب إذاً كان حاوي ومدرّب وساحر ثعابين ومنه أخذ موسى أسرار الصنعة . هذا أمر جديد لم يسمع به أحدٌ لا من قبلُ ولا من بعدُ . نسخ نجيب في هذا الفصلَ الخاصَّ بموسى وقد أسماه [ جبل ] لأنه سمع كلام ربّه في قمة جبل حوريب أو سيناء .. نسخ حرفياً تقريباً ما ورد في القرآن حول هذا الجزء من حياة موسى . نجدُ التفاصيل الدقيقة في سورتي طه والقصص . فمن سورة القصص (( وأوحينا إلى أم موسى أنْ ارضعيه فإذا خفتِ عليه فألقيهِ في اليمِ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادوه إليكِ وجاعلوه من المُرسلين. فالتقطه آل فرعونَ ليكونَ لهم عدوّاً وحَزَناً إنَّ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما كانوا خاطئين. وقالت امرأةُ فرعونَ قُرّتُ عينٍ لي ولك لا تقتلوه عسى أنْ ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون… ودخلَ المدينةَ على حين غفلةٍ من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّهِ فاستغاثه الذي من شيعتهِ على الذي من عدوّهِ فوكزه موسى فقضى عليهِ قال هذا من عمل الشيطانِ إنّهُ عدوٌّ مُضلٌّ مبين… وجاء رجلٌ من أقصى المدينةِ يسعى قال يا موسى إنَّ الملأَ يأتمرون بكَ ليقتلوكَ فاخرجْ إني لكَ من الناصحين … ولمّا توجّهَ تِلقاءَ مَدينَ قال عسى ربّي أنْ يهديني سواءَ السبيل . ولما وردَ ماءَ مَدينَ وجد عليه أُمّةً من الناس يسقون . ووجد من دونهم امرأتين تذودانِ قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتّى يُصدرَ الرِعاعُ وأبونا شيخٌ كبير . فسقى لهما ثم تولّى إلى الظلِّ فقال ربِّ إني لما أنزلتَ إليَ من خيرٍ فقيرٌ . فجاءت إحداهما تمشي على استحياءٍ قالت إنَّ أبي يدعوك ليُجزيكَ أجرَ ما سقيتَ لنا فلما جاءهُ وقصَّ عليه القَصصَ قال لا تخفْ نجوتَ من القومِ الظالمين . قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إنَّ خيرَ من استأجرتَ القويُّ الأمين. قال إني أريدُ أنْ أُنكِحك إحدى ابنتي هاتينِ … / من سورة القصص )). لم يخرج نجيب محفوظ عن جوهر ما ورد في هذه الآيات من تفاصيل إلاّ قليلاً وحسب ما تقتضيه آليات وخيالات السرد القصصي ومقتضيات الإثارة الدرامية . إستغرق هذا الفصلُ الأجزاء 24 إلى 43 غطّت الصفحات 120 حتى 221 أي أكثر من مائة صفحة بصفحة واحدة .هذا هو موسى نجيب محفوظ وقد أعطاه قدره التأريخي المعروف بشأن إنقاذه بني إسرائيل من ظلم آل فرعون فقال في ختام هذا الفصل [[ كان أول من ثار على الظلم في حارتنا . وأول من حظيَ بلقيا الواقف بعد اعتزاله.. ولبث بين آله مثالاً للعدل والقوة والنظام . أجلْ لم يهتم بالآخرين من أبناء حارتنا .. ]] . { وأول من حظيَ بلقيا الواقف بعد اعتزاله .. } قصد محفوظ بقوله هذا قصة ما حصل لموسى فوق جبل حوريب إذْ ناداه ربّه كما ورد تفصيلاً في سورة الأعراف (( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّهُ قال ربِ أرني انظرْ إليكَ قال لن تراني ولكنْ انظرْ إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربُّهُ للجبلِ جعله دكّاً وخرَّ موسى صَعِقاً فلما أفاقَ قال سبحانكَ تُبتُ إليكَ وأنا أوّلُ المؤمنين / الآية 143 )) . هذا أمر طبيعي فنجيب محفوظ قرأ القرآن ويعرف ما فيه من سور وآيات لذا قد استعار ما قرأ واستوعب وصاغه بقوالب تنسجم مع الخط العام لروايته وإنْ جاءت هذه الإستعارات مجزوءة ورمزية لكنَّ أصلها شديد الوضوح .
هل توخّى نجيب محفوظ في كتابته الفصل الخاص بموسى … هل توخّى عرض التأريخ وإعادة قراءته بأسلوب روائي بما يحقق طموحاته الشخصية ككاتب قصصي وروائي أم أنه رام قاصداً مجاملة اليهود تمهيداً لترشيحه لجائزة نوبل في الأدب ؟ أم لا هذا ولا ذاك ، إنما كتب هذا الفصل حسب مقتضيات روايته التي تناول فيها قصة خلق الإنسان ومن ثم تدرّج البشرية في سلّم الأديان الواحد تلو الآخر إبتداءً بالديانة اليهودية فالمسيحية ثم الإسلام آخرها ؟ لم يأتِ محفوظ بجديد ـ من وجهة نظري ـ في سعيه وجهده الكبير والمضني لإعادة كتابة التأريخ ولا سيّما تأريخ الأديان الثلاثة المعروفة. لم أجد ما يشوّقني فيما كتب عن الأنبياء الثلاثة موسى ” جَبَلْ ” وعيسى ” رفاعة ” ثم محمد ” قاسم ” . لم يقدّم للأديان رؤى جديدة ولا دلّنا على وسائل تحديثها حتى تنسجم وتلائم مقتضيات حياتنا المعاصرة. ما كان قصده إذاً من الرجوع إلى الوراء لآلاف السنين وسرد ما وقع حينذاك وما جرى من أحداث ووقائع وفق منهج خيالي لا يخلو من الترميز والإشارات التي فشلت في إضاءة خفايا تلكم الحقب ولم تخدم القارئ في معرفة أسرارها ومغازيها وأسباب تكليف أناس بعينهم ليكونوا رُسلاً او أنبياءً يعرّفون الناس على ربّهم وتعليماته وشرائعه ونواميسه . لا يكفي أنْ يكونَ موسى رجلاً قوي الشخصية تحدّى مَنْ ربّاه في قصره طالباً منه تحرير بني إسرائيل والكف عن ظلمهم وتسخيرهم وقتل الذكور من بين مواليدهم الجُدد واستحياء نسائهم . لا يكفي أنْ يقول لنا نجيب أنَّ عيسى كان رجلاً عفيفاً جميل الصورة وفاقد القدرة الجنسية طيّب القلب يحب الناس حتى أنه تزوّج من امرأة عاهرة أسماها ياسمينة وما كان معروفاً عن عيسى أنه تزوّج في حياته سوى تعلّق ماريا المجدلية به وعطفه عليها وتساهله معها بعد أنْ دافع عنها وأنقذها من غضب وربما بطش رجال ذلك الزمان في قوله الشهير [[ مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِ نفسه بحجر ]] . سأتكلم عنه وعن نبينا محمد كلاّ في الفصل الخاص به .
عيسى المسيح [ رفاعة ]
( الصفحات 222 حتى 321 … مائة صفحة إلاّ واحدة، أي أنَّ موسى وعيسى شغلا في الكتاب عدداً متساوياً من الصفحات فهل لذلك من دلالة ؟ ) .
شافعي وعبدة : كيف جعل نجيب محفوظ عيسى المسيح نجّاراً أخذ الصنعة عن أبيه ” شافعي ” ؟ أستعرض إستطراداً ما قالت الأناجيل في مولد عيسى لا لأسبب للراحل نجيب محفوظ والمعجبين بفنه الروائي حرجاً ولكنْ من أجل معرفة الدوافع التي كانت تحرّكه وأغرته في النأي عمّا نعرف وما قرأنا في الكتب ذات العلاقة سواء في موضوع ولادة عيسى وفي غيره من الموضوعات الشائكة تأريخياً ودينياً . في إنجيل متّى [[ أما ولادة يسوعَ المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريمُ مخطوبةً ليوسفَ قبل أنْ يجتمعا وُجدتْ حُبلى من الروح القدس / الإصحاح الأول ]]. نقرأ في إنجيل مرقص [[ أليس هو النجّارُ إبن مريمَ وأخو يعقوبَ ويوُسي ويهوذا وسِمعان. أوَليست أخواتُهُ ههنا عندنا / الإصحاح السادس ]]. وما جاء في إنجيل لوقا [[ …فصعدَ يوسفُ أيضاً من الجليلِ من مدينة الناصرة إلى اليهوديّة إلى مدينة داوُد التي تُدعى بيت لَحم لكونه من بيت داوُد وعشيرته ليُكتتبَ مع مريمَ امرأتهِ المخطوبة وهي حُبلى. وبينما هما هناكَ تمّتْ أيامها لتلدَ. فولدت ابنها البِكرَ وقمّطتهُ وأضجعته في المِذودِ إذْ لم يكنْ لهما موضعٌ في المنزل / الإصحاح الثاني ]]. أما ما جاء في إنجيل يوحنا فيما يخص علاقة يسوع المسيح بيوسف فهو كما يلي [[ … فيلُبِسُ وجدَ نثنائيلَ وقال لهُ وجدنا الذي كتبَ عنه موسى في الناموسِ والأنبياءُ يسوعَ ابنَ يوُسفَ الذي من الناصرة / الإصحاح الأول ]]. لم يدخل هذا الإنجيل في تفاصيل ما يُسمّى بمعجزة خلق أو مولد عيسى المسيح فاكتفى بالقول ” يسوع إبن يوسف ” . لم يقطعْ إنجيلٌ أو أحدٌ أنَّ يوسف النجّارَ كان قد دخل بمريم فحملت منه بعيسى فكيف نتقبل فكرة أنَّ المسيح هو إبن يوسف ؟ هذا هو الإشكال الحقيقي والجدّي في تفسير وفهم نص إنجيل يوحنا القائل { يسوع إبن يوسف } فأنجيلُ متّى قال { لمّا كانت مريمُ مخطوبةً ليوسفَ قبل أنْ يجتمعا وُجدت حُبلى من الروح القدس }. لقد مال نجيب محفوظ إلى أضعف ركن في قصة عيسى المسيح من حيث المولد والمهنة. جعل النجّار شافعي أباه وعبدة أمّه . لم يتفق المسيحيون جميعهم حول هذا الموضوع بل وأغلبهم يكذّبه ويستنكره خاصة الكاثوليك منهم أصحاب الثالوث المعروف [ الأب والأبن وروح القدس ] فعيسى عند هؤلاء هو إبن الله وليس إبن بشر إسمه يوسف النجّار. جعل الكاتبُ عيسى المسيحَ إبناً لرجل يمتهن النجارة دعاه ” شفيع “. لماذا خالف محفوظ غالبية المسيحيين وخالف نصوص القرآن الواردة في سورة مريم وكانت امرأة عذراء لم يمسسها بشرٌ وما كانت بغيّا؟ (( قالت أنّى يكونُ لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أكُ بغيّا / الآية 20 )). قد يكون الكاتب على قناعة أنَّ عيسى رجلٌ جاء الدنيا كغيره مثل سائر البشر وله أمٌّ وله أبٌ وأنا أحترم قناعته هذه وأشاركه في صحتها وأرفض وجهات النظر الأخرى . طريق ولادتنا الطبيعي معروف وشروطه كذلك معروفة فلِمَ يشذُّ واحدٌ منّا ويختص بطريقه الخاص والوحيد غير المسبوق ؟ كان موسى قبله بشراً سويّاً وهكذا كان الرسول محمدٌ رجلاً أنجبه أبٌ وأم معروفان . سوى أنَّ اعتراضي على طرح نجيب محفوظ ينبعُ من تشكيكي في أهمية أنْ يكونَ لعيسى مهنة نجارة يمتهنها أخذها عن أبيه يوسف النجار لملاقاة شروط الحياة ومتطلباتها من مأكل ومسكن وملبس وما إلى ذلك . كان عيسى زاهداً في الطعام قليلاً ما يتناول المتوفر منه . كان الخبزُ كفاف يومه يجود به عليه أنصاره ومحبّوه وحواريوه . فهل زادته حِرفة النجارة ثراءً أو جاهاً أو هيأت له إمتيازات إجتماعية يسّرت له سُبل نشر تعاليم دينه ؟ الجواب كلاّ ! إختار نجيب محفوظ هذا الخط الأوسط الثالث بذكاء وتصميم. رفض فكرة أنَ عيسى هو إبنُ الله متّبِعاً ما ورد في قرآننا من نفي قطعي لهذه الفكرة [[ ما كان لله أنْ يتخذَ من وَلَدٍ سُبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقولُ له كنْ فيكون / سورة مريم الآية 25 ]] . [[ لقد كفرَ الذين قالوا إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ وما من إلهٍ إلاّ إلهٌ واحدٌ وإنْ لم ينتَهوا عمّا يقولونَ لَيَمسّنَّ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم / سورة المائدة الآية 73 ]] . [[ لو أرادَ اللهُ أنْ يتخذَ ولداً لأصطفى مما يخلقُ ما يشاءُ سُبحانَهُ هو اللهُ الواحدُ القهّارُ / سورة الزمَرْ الآية 4 ]] . [[ وقلِ الحمدُ للهِ الذي لم يتخذَ وَلَداً ولم يكنْ له شريكٌ في المُلكِ ولم يكنْ له وليٌّ من الذُلِّ وكبّرهُ تكبيرا / سورة الإسراء الآية 111 ]] . [[ وقالوا اتخذَ الرحمنُ وَلَداً سُبحانَهُ بلْ عِبادٌ مُكْرَمون / سورة الأنبياء الآية 26 ]] . [[ وإذْ قال اللهُ يا عيسى ابنَ مريمَ ءأنتَ قلتَ للناسِ اتخذوني وأمّي إلهينِ من دون اللهِ قال سُبحانكَ ما يكونُ لي أنْ أقولَ ما ليس بحقٍّ إنْ كنتُ قُلتهُ فقد عَلِمتَهُ تعلمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسكَ إنكَ أنتَ علاّمُ الغُيوب / سورة المائدة الآية 116 ]] . في القرآن آيات أخرى غير قليلة تؤكد هذه المضامين وتنفي أنْ يكون المسيحُ إلهاً أو ابن الله أو ثالث ثلاثة . إلتزم نجيب محفوظ بهذا الخط ولم يحدْ عنه . لكنه رفض الفكرة الأخرى التي جاء بها القرآن ووردت في غير قليل من الآيات ، تلك القاضية أنَّ عيسى المسيح هو نفخة من روح الله في جسد والدته مريم العذراء التي لم يمسسها بشرٌ أو أنه كلمة من الله ألقاها إلى مريمَ [[ يا أهلَ الكتابِ لا تغلوا في دينكمْ ولا تقولوا على الله إلاّ الحقَّ إنما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسولُ اللهِ وكلمتهُ ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه فآمنوا بالله ورُسُله ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهوا خيراً لكمْ إنمّا اللهُ إلهٌ واحدٌ سُبحانه أنْ يكونَ له وَلَدٌ له ما في السماواتِ وما في الأرضِ وكفى باللهِ وكيلا / سورة النساء الآية 171 ]] . هناك آيات أخرى لا تخرجُ عن مضمون هذه الآية . رفض نجيب إذاً كلتا الفرضيتين بشأن خلق عيسى فانتهج السبيل الطبيعي السوي منْ أنَّ لكل مولود لا بدَّ من أبٍ وأم. رفض فكرة الإعجاز في مولد عيسى كما لم يقبل فكرة أنْ يكون عيسى نتاج كلمة أو نفخة روحٍ إلهية . ألا يكفي هذان الموقفان الصارمان لتجريم نجيب ومنع تداول روايته في مجتمع مصري عيون مشايخ الأزهر فيه كبيرة مفتوحة على آخرها ؟
إشكالية أخرى ما وجدتها معقولة في هذا الكتاب . أعني زواج عيسى [ رفاعة ] من المومس ياسمينة . هل زاده هذا الزواج رفعةً أو أعطاه ميزات لا يمكنه الإستغناء عنها ؟ وهل يليق بنبي رسول يحمل رسالة عظيمة للبشرية … هل يليق به أنْ يقترنً بمومس ؟ كانت تزور تحت جنح الظلام عشيقاً لها شقيّاً ، فتوّة، من بلطجية أحد أحياء الحارة إسمه بيّومي [[ منذُ قليل رأيتها خارجة من باب بيت بيومي الخلفي، تبعتها إلى هنا ثم سألتها عمّا كانت تفعله في بيت الفتوّة فتبين لي سكرها. كانت رائحة الخمر تخرجُ من فيها فتملأ الدهليز. أفلتت مني وأغلقت على نفسها الباب. والآن سلوا أنفسكم عما يمكن أنْ تفعله امرأةٌ سكرانة في بيت فتوّة ]] . سأختصر ما جاء بهذا الصدد في الصفحتين 265 و 266 وأترك للقارئ العارف بالأناجيل المسيحية فُرصة أنْ يقارن وأنْ يستنتج [[ وتتابعت الأصواتُ في غضب : أطردوها من حي آل جبل . يجب أنْ تُجلد قبل طردها. أقتلوها قتلاً… لكنَّ رفاعة سُمع وهو يسألُ أباه : أليس الأولى بهم يا أبي أنْ يصبّوا غضبهم على بيومي المُعتدي ؟ … فأفلت من يد أبيه وشقَّ طريقه إلى بيت ياسمينة وهتف برجاء : رحمةً بضعفها وذعرها… وناداه شافعي بحرارة لكنه لم يُبالِ وأجاب زيتونة : الله يسامحك ثم للجميع : إرحموها وافعلوا بي ما تشاؤون { كتبها نجيب تشاءون ! } ، ألا تحرّكُ الإستغاثات قلوبكم ؟! … فتساءل رفاعة : هل يُرضيكم أنْ أتزوجَ منها ؟ ]] . كم عدداً من الرسل أمثال عيسى تحتاج البشرية لإنقاذ ملايين المومسات بالزواج منهنَّ يا نجيب محفوظ ؟ لم يتزوج المسيحُ من المرأة الزانية التي أراد الكَتبةُ والفريسيون رجمها حسب شريعة موسى في الناموس إنما قال لهم قولته الأكثر شهرة (( مَنْ كان منكم بلا خطيئةٍ فليرمها بحجر … قال لها يا امرأة أين هم أولئك المُشتكون عليك. أما دانك أحدٌ. فقالت لا أحدَ يا سيّدُ. فقالَ لها يسوعُ ولا أنا أدينكِ. اذهبي ولا تُخطئي أيضاً / إنجيل يوحنا الإصحاح الثامن )). كما أنه لم يتزوج المرأة الأخرى التي دهنت قدميه بفاخر العطور ثم بلّتهما بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها (( وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة إذْ علمتْ أنه مُتكئٌ في بيت الفريسيِّ جاءت بقارورة طيبٍ ووقفت عند قدميهِ من ورائهِ باكيةً وابتدأتْ تبلُّ قدميهِ بالدموع وكانت تمسحهما بشعرِ رأسها وتقبّلُ قَدميهِ وتدهنهما بالطيب / إنجيل لوقا الإصحاح السابع )).
ربط نجيب محفوظ بين رفاعة وعيسى بذكره بشئ من التفصيل قدرات رفاعة على إخراج العفاريت وإنقاذ مرضاها منها وإشفاء المريض والأكمه والأبرص وإحياء الموتى مما قرأنا في القرآن والأناجيل [[ قالت ربِّ أنّى يكونُ لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ قال كذلكَ اللهُ يخلقُ ما يشاءُ إذا قضى أمراً فإنمّا يقولُ له كنْ فيكونُ. ويُعلّمهُ الكتابَ والحِكمةَ والتوراةَ والإنجيل. ورسولاً إلى بني إسرائيلَ أني قد جئتكمْ بآيةٍ من ربّكمْ أخلُقُ لكمْ من الطينِ كهيئةِ الطيرِ فانفخُ فيهِ فيكونُ طيراً بإذنِ اللهِ وأبرْئُ الأكمَهَ والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذنِ اللهِ وأُنبئكمْ بما تأكلون وما تدّخرونَ في بيوتكمْ إنَّ في ذلكَ لآيةً لكمْ إنْ كنتم مؤمنينَ / سورة آل عمران الآيتان 47 و 48 ]] . في الأناجيل الكثير من هذا القول الذي ينسب للمسيح من الخوارق ما لا يتقبله عقل إنسان سليم . المهم .. أنَّ نجيب محفوظ أفاد من هذه الأساطير ليرسم صورةً قريبة مما قيل في هذه الكتب { السماوية } عن معجزات المسيح الذي دعاه في روايته ” رفاعة ” والرفاعية فرقة من المتصوفة معروفون بترويض الأفاعي واستخلاص سمومها لعلاج بعض العلل أو لخلطها مع التبغ والحشيشة وهي خلطة شهيرة معروفة بين مشايخ الطُرق وخاصة في إيران . تُضاهي كلمة ” رفاعي ” معنى الحكيم أو الطبيب المداوي من العلل والأمراض وهذا ما كان ولم يزلْ معروفاً عن المسيح . رفاعة في رواية نجيب قادرٌ على إخراج العفاريت من الناس أي يخلّصهم مما في نفوسهم من شرور ويُنقّيهم من ذنوبهم وخطاياهم فهو إذاً نبيٌّ ورسول . هكذا أدخلنا نجيب محفوظ في طور المسيحية بعد يهودية موسى أو جبل . مثال واحد ورد في إنجيل متّى [[ ولما صار المساءُ قدّموا إليه مجانينَ كثيرينَ فأخرجَ الأرواحَ بكلمة وجميعَ المرضى شفاهم ]] . وهذا هو رفاعة أولاد حارتنا .
نهاية حياة رفاعة ( عيسى ) : شذّ نجيب محفوظ كثيراً عن رواية مقتل عيسى صلباً من قبل اليهود وهي رواية معروفة على أوسع نطاق جاءت تفاصيلها في الإصحاحين السابع والعشرين والثامن والعشرين من إنجيل متى ، وفي الإصحاحين الخامس عشر والسادس عشر من إنجيل مرقس. صورة مقتل عيسى في أولاد حارتنا هي صورة بدائية ومتخلّفة جداً مقارنة بما جاء في الإنجيلين سالفي الذِكْر. رسم هذان الإنجيلان صورة حيّة رائعة متحركة لأحداث محاكمة وصلب المسيح وما رافق ذلك الصلب من تمثيل به حيّاً وتعذيب وأخيراً ما قيل في أمر قيامته حتى أنَّ قرآننا قال قولته في مصير عيسى المسيح [[ وقولِهم إنّا قتلنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ وما قتلوهُ وما صَلَبوهُ ولكنْ شُبّهَ لهمْ وإنَّ الذين اختلفوا فيهِ لَفي شكٍّ منهُ ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباعِ الظنِ وما قتلوهُ يقيناً بل رفعه اللهُ إليهِ وكان اللهُ عزيزاً حكيماً / سورة النساء الآية 157 ]]. قد يقولُ قائلٌ إنَّ أولادَ حارتنا هي رواية لا تتقيد بالأحداث التأريخية تقيّداً حرفياً وهذا صحيح ولكنْ، المفروض والمتوقع أنْ تصوّر الروايات والفن والأدب عموماً … أنْ تصورها وتخرجها بأشكال وصياغات وصور تبدو أفضل من حقائقها المروية والمعروفة . هذه هي رسالة الروائي والفنان والأديب وإلاّ فليتركوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر كما قال المسيحُ لمن أراد توريطه أمام حكام زمانه. المفروض أنْ يتفوقَ نجيب محفوظ في سرده وإعادة صوغه لتأريخ الأديان وما حصل فيها … أنْ يتفوق فيما سرد وأنْ يعلو بها إلى حيث المُتوقع من الإبداعات في تجديد الرؤية لما كان قد وقع وإخراجها بأفضل أشكال وأُطر. كانت معالجة محفوظ لحادث مقتل رفاعة { عيسى } معالجة سوقية هابطة المستوى ومقززة للنفس لدى مقارنتها بمشاهد محاكمة عيسى أمام الوالي بيلاطُس بحضور الكَهَنة والشيوخ .
أنقلُ ما جاء في إنجيل متّى من وصف لمشهد محاكمة يسوع ليتمكن قارئ رواية أولاد حارتنا أنْ يعقدَ مقارنة بينها وبين العرض الذي قدّمه نجيب محفوظ لها [[ وكان الوالي مُعتاداً في العيد أنْ يُطلقَ للجمع أسيراً واحداً مَنْ أرادوه. وكان لهم حينئذٍ أسيرٌ مشهورٌ يُسمّى باراباس. ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطُس مَنْ تريدون أنْ أُطلقَ لكم باراباس أم يسوع الذي يُدعى المسيح. لأنه علمَ أنهم أسلموه حَسَداً. وإذْ كان جالساً على كرسيّ الولاية أرسلتْ إليه امرأته قائلةً إيّاكَ وذلك البارّ. لأني تألّمتُ اليومَ كثيراً في حُلمٍ من أجله. ولكنَّ رؤساءَ الكَهَنة والشيوخ حرّضوا الجموعَ على أنْ يطلبوا باراباس ويُهلكوا يسوع. فأجابَ الوالي وقال لهم مَنْ مِن الإثنين تريدون أنْ أُطلقَ لكم. فقالوا باراباس. قال لهم بيلاطُس فماذا أفعلُ بيسوعَ الذي يُدعى المسيح. قال له الجميعُ ليُصلبَ. فقال الوالي وأيَّ شرٍّ عملَ. فكانوا يزدادون صُراخاً قائلينَ ليُصلبَ. فلمّا رأى بيلاطُس أنّه لا ينفعُ شيئاً بل بالحري يحدثُ شَغبٌ أخذَ ماءً وغسلَ يديهِ قُدّام الجميع قائلاً إنّي بريءٌ من دمِ هذا البار. أَبصروا أنتمْ. فأجاب جميعُ الشعب وقالوا دمُهُ علينا وعلى أولادنا. حينئذٍ أطلقَ لهم باراباسَ. وأمّا يسوعُ فجلده وأسلمهُ ليُصلبّ. فأخذَ عسكرُ الوالي يسوعَ إلى دار الولايةِ وجمعوا عليه كلَّ الكَتَبة. فعرّوهُ وألبسوه رداءً قرمزيّاً. وضفروا إكليلاً من شوكٍ ووضعوهُ على رأسه وقَصبةً في يمينه. وكانوا يجثونَ قدّامهُ ويستهزئون به قائلين السلامُ يا ملكَ اليهود. وبصقوا عليهِ وأخذوا القصبةَ وضربوهُ على رأسهِ. وبعدما استهزأوا به نزعوا عنه الرداءَ وألبسوهُ ثيابَهُ ومضوا به للصلب / الإصحاح السابع والعشرون من إنجيل متّى ]].
فليتابع القارئ الكريم بقية ما ورد في هذا الإصحاح من تفصيلات صلب يسوع
وما جرّعوه من خل ممرور وما وضعوا فوق رأسه من إكليل شوك. أقرأ الإصحاح السابع والعشرين من إنجيل متّى فيأخذني العجب حتى كأني أمام فيلم سينمائي بالألوان زاخر بالحركة والحيوية ونظام دمقراطي كأنه نظامٌ حديث معاصر يُعطى المسيح فيه حق الدفاع عن نفسه في محاكمة علنية يشهدها جمهور واسع من أعداء المسيح يسألهم الوالي بيلاطُس هل يُطلق سراحَ الأسير باراباس أو المسيح ؟ قالوا باراباس . في وسط هذا المشهد الملحمي والدرامي معاً يحضر مشهدٌ آخرُ يشقُّ الأحداث شقّاً فيه أروع العبر والمفاجآت التي أفاد منها شكسبير في مسرحياته … أعني معارضة زوج الوالي وتحذيرها له من مغبّة قتل عيسى المسيح (( إنجيل متّى الإصحاح السابع والعشرون )). فما قال نجيب محفوظ في مقتل مسيحه رفاعة وكيف صور الحادث ؟ أنقلُ بعض ما قصَّ حول هذه الواقعة الأليمة [[ … وأوغلوا في الخلاء فثقُلت خطواتهم فوق الرمال. وشعر رفاعة { عيسى } بالغربة في الخلاء وذكر أنَّ امرأةً خانتهُ { هي زوجه ياسمينة } وأنَّ الأصحابَ لاذوا بالفرار. أراد أنْ يلتفتَ إلى الوراء صوب البيت ولكنَّ يد بيّومي دفعته في ظهره بغتةً فسقط على وجهه. ورفع بيومي نبّوته وهتف : معلم خنفس ؟ فرفع الرجل نبّوته قائلاً معك إلى النهاية يا معلم. وتساءل رفاعة في يأس لماذا تبغون قتلي ؟ فهوى بيومي بنبوته على رأسه بشدة فصرخ رفاعة صرخة عالية وهتف من أعماقه ” يا جبلاوي ” ! وفي اللحظة التالية كان نبوت خنفس يصيب عنقه، واستبقت النبابيتُ. وساد صمت لم تسمع خلاله إلاّ حشرجة. وأخذت الأيدي تحفر الأرض بقوة في الظلام ]].
< فصرخ رفاعة صرخة عالية وهتف يا جبلاوي > . أليس هذا الكلام هو عين ما جاء في أنجيل متّى بعد صلب المسيح << ونحو التاسعة صرخَ يسوعُ بصوتٍ عظيم قائلاً إيلي إيلي لما شَبَقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني. صرخة يا جبلاوي هي بالضبط صرخة إلهي إلهي فكيف افترى نجيب محفوظ وادّعى أنَّ جبلاوي هو الدين وليس الله ؟ على كل حال … يتحمل المرحوم في عالمه الآخر عاقبة ما كتبَ وقال وما ادّعى . كل ما كتبه في أولاد حارتنا هو ضد الدين وليس دفاعاً عنه. كان مُلحداً وكان مثل سلمان رشدي في آياته الشيطانية وإنْ جاء هذا بعده بعقود.
** الإسلام / النبي محمد [ قاسم ]
322 ـ 465