مع نجيب محفوظ في أولاد حارتنا
د. عدنان الظاهر
مَنْ هو الجبلاوي ؟ أجاب نجيب محفوظ وأيّده الدكتور أحمد كمال أبو المجد أنَّ الجبلاوي هو الدين أو يرمز للدين فهل كان الرجلان صادقين فيما قالا ؟ سنرى.
ثمَّ ، وتحت ضغط وتهديدات بعض مشايخ الأزهر أُضطر المرحوم نجيب للقول إنَّ المجتمع يتحرك على محورين لا ينفصلان هما الدين والعلم . أُثبّتُ ما قال الرجلان وما قالا هو في نظري من باب التقية أي إتقاء الشرور والمخاطر .
(( وفي إطار ” أولاد حارتنا فإنني فهمتُ شخصية ” عرفة ” بأنها رمزٌ للعلم المجرّد .. وليست رمزاً لعالم بعينه ، كما فهمتُ شخصية ” الجبلاوي ” على أنها تعبيرٌ عن الدين وليست بحال من الأحوال تشخيصاً رمزياً للخالق سبحانه وهو أمرٌ يتنزهُ عنه الأستاذ ” نجيب محفوظ ” ولا يقتضيه أي اعتبار أدبي فضلاً عن أنْ يستسيغه أو يقبله / الدكتور أحمد كمال أبو المجد / الصفحة 583 من الرواية )).
(( إنَّ كتاباتي كلها ، القديم منها والجديد ، تتمسكُ بهذين المحورين : الإسلام الذيس هو منبع قيم الخير في أمتّنا ، والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا . وأحبُّ أنْ أقولَ : إنه حتى رواية ” أولاد حارتنا ” التي أساء البعضُ فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية . ولقد كان المغزى الكبير الذي توّجتُ به أحداثها .. أنَّ الناس حين تخلوا عن الدين ممثلاً في ” الجبلاوي ” وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلاً في ” عرفة ” أنْ يديروا حياتهم على أرضهم ( التي هي حارتنا ) .. إكتشفوا أنَّ العلمَ بغير الدين قد تحوّل إلى أداة شر ،وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم .. فعادوا من جديد يبحثون عن ” الجبلاوي ” / نجيب محفوظ / الصفحة 587 من الرواية )) .
في إمكان أي قارئ لرواية أولاد حارتنا أنْ يفهم وأنْ يفسّر هذه الرواية تفسيرات شتّى مُغايرة فهي حمّالة أوجه . هذا حق القارئ يمارسه حسب ثقافته واجتهاده وقدرته على الغوص عميقاً واستكناه بواطن الأمور وكشف ما يُخفي كاتب النص وما يختفي بين السطور . قال نجيب محفوظ رأيه فيما كتب فأعطانا حرية أنْ نكتب ما رأينا في روايته فحقوقنا متساوية . في الفصل الخاص الذي يحمل عنوان ( أدهم ، أي آدم / الصفحة 11 ) كلام صريحٌ واضح فيه حوارات بين الجبلاوي وكل من ولديه الأكبر إدريس أي إبليس ، والآخر أدهم أي آدم . هل للدين أبناء ومن هم أبناء هذا الدين وعن أي دين تكلم كاتب الرواية ؟ ثم هل كان هناك ثمّة من دين في بدايات خلق الإنسان سواء في جنّة الخلد [ أين مكانها الدقيق ؟ ] وبعد معصية آدم وحوّاء لأمر الرب وهبوطهما إلى الأرض عقوبةً لمخالفتهما الأمر ؟ أي دين ؟ فالأديان السماوية معروفة . نقرأ ما قال نجيب محفوظ في الفصل الذي خصصه لأدهم { مقتطفات متفرقة } :
(( .. ويوماً دعا الواقف أبناءه إلى مجلسه بالبهو التحتاني المتصل بسلاملك الحديقة . وجاء الأبناء جميعاً ، إدريس وعبّاس ورضوان وجليل وأدهم في جلابيبهم الحريرية فوقفوا بين يديه وهم من إجلاله لا يكادون ينظرون نحوه إلاّ خِلسةً .. وهو يبدو بطوله وعرضه خلقاً فوق الآدميين كأنما من كوكب هبط … وما يقلقهم إلاّ أنه جبّارٌ في البيت كما هو جبّارٌ في الخلاء .. وقال بصوت خشن عميق ..
ـ أرى من المستحسن أنْ يقومَ غيري بإدارة الوقف .. وقد وقع اختياري على أخيكم أدهم ليديرَ الوقف تحت إشرافي … فغضوا الأبصار حذراً من أنْ يقرأَ ما في نفوسهم إلاّ إدريس فقد قال بإصرار .
ـ ولكنني الأخ الأكبر . فقال الجبلاوي مستاءً : أظن أنني أعلم ذلك ، فأنا الذي أنجبتك )) . ما يضع نجيب أمام عيوننا في هذه الأقوال ؟ أليس هذا مشهد من مشاهد ما ورد في قرآننا من آياتٍ تصف الجنة وما فيها وما جرى هناك من نقاش حامٍ بين الله وإبليس ؟ فلنقرأ سورة الأعراف. أترك هذه النقطة فربما أعودُ إليها بعد أنْ أفرغ من استعراض الكثير من جزئيات الرواية .
لا ريبَ أنَّ نجيب محفوظ كاتب بارع في السرد القصصي والحكائي وله نفس طويل جداً في استحضار دقائق الأمور الحياتية ووصف ما لا يخطر على بال الناس . غير أنه في روايته الطويلة هذه [593 صفحات ] لم يشأ أنْ يقيد نفسه تقييداً حرفياً بالحقائق المعروفة والمكتوبة في كتب الأديان الثلاثة : اليهودية والمسيحية ثم الإسلام . أخذ نُبذاً وفقراتٍ منها ثم صاغ منها وحولها قصصاً وحكايا وترك للقارئ أمر ردّها لأصولها كما وردت في كتب الديانات . إنه بهذا يضع القارئ العارف بما في الكتب الثلاثة بين أمرين لا ثالثَ لهما . إما أنْ يخضع جزئيات الرواية للتأويلات وفق ما يعرف عن هذه الأديان وما جاء في كتبها أو أنْ يعتبرَ الرواية برمتها مجموعة قصص مصممة في الأصل كحكايا للأطفال تقصها عليهم جدّاتهم قبيل النوم . نعم ، وجدتها تصلح قصصاً للأطفال وهذا لا يُنقص من قدر المرحوم نجيب .
آدم وغواية إبليس /
حاول الروائي صاحب أولاد حارتنا أنْ يُعيد قصة خلق الإنسان إعتباراً من عصيان أبينا آدم [ أدهم ] لأمر ربه حيث أغواه إبليس [ إدريس ] فحلت عليه وزوجه حوّاء [ أُميمة ] اللعنة وأُهبطا إلى الأرض مُستقراً لهما وفيها لهما ولذرّيتهما متاع (( قال اهبطوا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مُستقرٌ ومتاعٌ إلى حين . قال فيها تَحيونَ وفيها تموتونَ ومنها تُخرجون / الآيتان 25 و 26 من سورة الأعراف )). في مستقرهما الجديد على الأرض أنجب أبوانا قدري [ قابيل ] وهُمام [ هابيل ] كما أنجب إدريس [ إبليس ] بنتاً أسماها هنداً ! لا أحد يعرف أنَّ إبليس تزوج وأنجب خاصة وأنَّ ربّه لم يُخرجه من الجنة بل أبقاه هناك حسب طلبه إلى يوم يُبعثون (( قال ما منعك ألاّ تسجدَ إذْ أمرتكَ قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين . قال فاهبطْ منها فما يكونُ لك أنْ تتكبّرَ فيها فاخرجْ إنّكَ من الصاغرين . قال انظرني إلى يوم يُبعثون . قال إنّكَ من المُنظرين / الآيات 12 و 13 و 14 من سورة الأعراف )). إذاً ما كان إبليس يوماً على الأرض فكيف تزوج وأنجب ومن كانت زوجه ؟ يلوحُ لي أنَّ كاتب هذه الرواية أراد أنْ يبالغ في سوء خلق وطبع إبليس وأنه لم يمت ولم يختفِ بل وتزوج قابيلُ قاتلُ أخيه هابيل من إبنته هند ليقول نجيب ـ وقد قال بالفعل ـ إنَّ قسماً كبيراً من البشر هم من ذريّة قتلة وأشرار فهذا قابيل القاتلُ وهذه هند إبنة العاصي والغاوي إبليس فمن وكيف ستكونُ ذريّتهم ومن سيخلفون ؟ (( وفي تواريخ متقاربة ودّعَ الحياةَ أدهم فأميمة ثم إدريس . وكبر الأطفال وعاد قدري بعد غيبة طويلة ومعه هند . نشأوا { كتبها نجيب بشكل نشئوا .. وله طريقته الخاصة في كتابة الهمزة تخالف ما يعرفه العراقيون عن رسمها وضبطها } جنباً إلى جنب وخالطوا غيرهم فازدادوا بهم عدداً. وانتشر العمرانُ بفضل أموال الوقف فارتسمت في صفحة الوجود حارتنا. ومن هؤلاءِ وأؤلئك جاء أبناءُ حارتنا / الصفحة 119 )).
لاحظتُ اجتهاد نجيب في اختياره للأسماء أنْ تكونَ قريبة أو مشتقة أو شبيهة بالأسماء الأصل . فأدهم هو آدم وآدم مشتق من الأديم وكانت بشرته سمراء أو داكنة كما يصفون . وكذلك الأدهم . أميمة هي حوّاء أم الجميع وأميمة مصغر أم. قدري هو قابيل القاتل وهُمام هو هابيل القتيل . وإدريس هو إبليس فهل من شك في أسلوب نجيب في إختياره لأسماء شخوص روايته ؟ سنرى الكثير من ذلك كلما توغلنا في أحداث الرواية أبعد وأكثر .
قصة نبي اليهود موسى [ جبل ]
قفز نجيب محفوظ قفزة طولية شاسعة في مداها الزمني حيث انتقل من آدم وما أحاق به من عقاب صارم جرّاء مخالفته لأمر ربه .. إنتقل إلى حِقبة موسى ونشأته في قصر فرعون مصر تحت رعاية زوجه الهانم . أجاد الكاتب في صياغة ورسم مفاصل وأحداث هذا الفصل ولا من عجب ! فهو يروي بأساليب روائية ناجحة تأريخ بني إسرائيل في مصر وهرب موسى إلى أرض مدين إثر قتله لرجل من رعية آل فرعون أي من غير شيعته بني إسرائيل . أفاض نجيب هنا مستعيناً بما قرأ في العديد من سور القرآن حول مولد موسى وتبني زوج
الفرعون له وهربه وزواجه من إحدى بنات شُعيب في أرض مدين أو مديان . ثم إنقاذه لقومه اليهود بني إسرائيل . ذهب خيال نجيب به إلى تخوم بعيدة غير متوقعة منها مثلاً أنَّ موسى غدا في مدين وفي بيت حميّه شُعيب صائد وحاوي ثعابين يعرف كيف يسحرها ويحركها كيفما يشاء بل حتى ويمسخ عصاه حيّة تسعى وتلتقم ثعابين سَحرة الفرعون . تلك آيات أقنعت الفرعون أنَّ موسى نبيٌّ ذو آيات ربانية . شُعيب إذاً كان حاوي ومدرّب وساحر ثعابين ومنه أخذ موسى أسرار الصنعة . هذا أمر جديد لم يسمع به أحدٌ لا من قبلُ ولا من بعدُ . نسخ نجيب في هذا الفصلَ الخاصَّ بموسى وقد أسماه [ جبل ] لأنه سمع كلام ربّه في قمة جبل حوريب أو سيناء .. نسخ حرفياً تقريباً ما ورد في القرآن حول هذا الجزء من حياة موسى . نجدُ التفاصيل الدقيقة في سورتي طه والقصص . فمن سورة القصص (( وأوحينا إلى أم موسى أنْ ارضعيه فإذا خفتِ عليه فألقيهِ في اليمِ ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادوه إليكِ وجاعلوه من المُرسلين. فالتقطه آل فرعونَ ليكونَ لهم عدوّاً وحَزَناً إنَّ فرعونَ وهامانَ وجنودَهما كانوا خاطئين. وقالت امرأةُ فرعونَ قُرّتُ عينٍ لي ولك لا تقتلوه عسى أنْ ينفعنا أو نتخذه ولداً وهم لا يشعرون… ودخلَ المدينةَ على حين غفلةٍ من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوّهِ فاستغاثه الذي من شيعتهِ على الذي من عدوّهِ فوكزه موسى فقضى عليهِ قال هذا من عمل الشيطانِ إنّهُ عدوٌّ مُضلٌّ مبين… وجاء رجلٌ من أقصى المدينةِ يسعى قال يا موسى إنَّ الملأَ يأتمرون بكَ ليقتلوكَ فاخرجْ إني لكَ من الناصحين … ولمّا توجّهَ تِلقاءَ مَدينَ قال عسى ربّي أنْ يهديني سواءَ السبيل . ولما وردَ ماءَ مَدينَ وجد عليه أُمّةً من الناس يسقون . ووجد من دونهم امرأتين تذودانِ قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتّى يُصدرَ الرِعاعُ وأبونا شيخٌ كبير . فسقى لهما ثم تولّى إلى الظلِّ فقال ربِّ إني لما أنزلتَ إليَ من خيرٍ فقيرٌ . فجاءت إحداهما تمشي على استحياءٍ قالت إنَّ أبي يدعوك ليُجزيكَ أجرَ ما سقيتَ لنا فلما جاءهُ وقصَّ عليه القَصصَ قال لا تخفْ نجوتَ من القومِ الظالمين . قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إنَّ خيرَ من استأجرتَ القويُّ الأمين. قال إني أريدُ أنْ أُنكِحك إحدى ابنتي هاتينِ … / من سورة القصص )). لم يخرج نجيب محفوظ عن جوهر ما ورد في هذه الآيات من تفاصيل إلاّ قليلاً وحسب ما تقتضيه آليات وخيالات السرد القصصي ومقتضيات الإثارة الدرامية . إستغرق هذا الفصلُ الأجزاء 24 إلى 43 غطّت الصفحات 120 حتى 221 أي أكثر من مائة صفحة بصفحة واحدة .هذا هو موسى نجيب محفوظ وقد أعطاه قدره التأريخي المعروف بشأن إنقاذه بني إسرائيل من ظلم آل فرعون فقال في ختام هذا الفصل [[ كان أول من ثار على الظلم في حارتنا . وأول من حظيَ بلقيا الواقف بعد اعتزاله.. ولبث بين آله مثالاً للعدل والقوة والنظام . أجلْ لم يهتم بالآخرين من أبناء حارتنا .. ]] . { وأول من حظيَ بلقيا الواقف بعد اعتزاله .. } قصد محفوظ بقوله هذا قصة ما حصل لموسى فوق جبل حوريب إذْ ناداه ربّه كما ورد تفصيلاً في سورة الأعراف (( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّهُ قال ربِ أرني انظرْ إليكَ قال لن تراني ولكنْ انظرْ إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربُّهُ للجبلِ جعله دكّاً وخرَّ موسى صَعِقاً فلما أفاقَ قال سبحانكَ تُبتُ إليكَ وأنا أوّلُ المؤمنين / الآية 143 )) . هذا أمر طبيعي فنجيب محفوظ قرأ القرآن ويعرف ما فيه من سور وآيات لذا قد استعار ما قرأ واستوعب وصاغه بقوالب تنسجم مع الخط العام لروايته وإنْ جاءت هذه الإستعارات مجزوءة ورمزية لكنَّ أصلها شديد الوضوح .
هل توخّى نجيب محفوظ في كتابته الفصل الخاص بموسى … هل توخّى عرض التأريخ وإعادة قراءته بأسلوب روائي بما يحقق طموحاته الشخصية ككاتب قصصي وروائي أم أنه رام قاصداً مجاملة اليهود تمهيداً لترشيحه لجائزة نوبل في الأدب ؟ أم لا هذا ولا ذاك ، إنما كتب هذا الفصل حسب مقتضيات روايته التي تناول فيها قصة خلق الإنسان ومن ثم تدرّج البشرية في سلّم الأديان الواحد تلو الآخر إبتداءً بالديانة اليهودية فالمسيحية ثم الإسلام آخرها ؟ لم يأتِ محفوظ بجديد ـ من وجهة نظري ـ في سعيه وجهده الكبير والمضني لإعادة كتابة التأريخ ولا سيّما تأريخ الأديان الثلاثة المعروفة. لم أجد ما يشوّقني فيما كتب عن الأنبياء الثلاثة موسى ” جَبَلْ ” وعيسى ” رفاعة ” ثم محمد ” قاسم ” . لم يقدّم للأديان رؤى جديدة ولا دلّنا على وسائل تحديثها حتى تنسجم وتلائم مقتضيات حياتنا المعاصرة. ما كان قصده إذاً من الرجوع إلى الوراء لآلاف السنين وسرد ما وقع حينذاك وما جرى من أحداث ووقائع وفق منهج خيالي لا يخلو من الترميز والإشارات التي فشلت في إضاءة خفايا تلكم الحقب ولم تخدم القارئ في معرفة أسرارها ومغازيها وأسباب تكليف أناس بعينهم ليكونوا رُسلاً او أنبياءً يعرّفون الناس على ربّهم وتعليماته وشرائعه ونواميسه . لا يكفي أنْ يكونَ موسى رجلاً قوي الشخصية تحدّى مَنْ ربّاه في قصره طالباً منه تحرير بني إسرائيل والكف عن ظلمهم وتسخيرهم وقتل الذكور من بين مواليدهم الجُدد واستحياء نسائهم . لا يكفي أنْ يقول لنا نجيب أنَّ عيسى كان رجلاً عفيفاً جميل الصورة وفاقد القدرة الجنسية طيّب القلب يحب الناس حتى أنه تزوّج من امرأة عاهرة أسماها ياسمينة وما كان معروفاً عن عيسى أنه تزوّج في حياته سوى تعلّق ماريا المجدلية به وعطفه عليها وتساهله معها بعد أنْ دافع عنها وأنقذها من غضب وربما بطش رجال ذلك الزمان في قوله الشهير [[ مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِ نفسه بحجر ]] . سأتكلم عنه وعن نبينا محمد كلاّ في الفصل الخاص به .
عيسى المسيح [ رفاعة ]
( الصفحات 222 حتى 321 … مائة صفحة إلاّ واحدة، أي أنَّ موسى وعيسى شغلا في الكتاب عدداً متساوياً من الصفحات فهل لذلك من دلالة ؟ ) .
شافعي وعبدة : كيف جعل نجيب محفوظ عيسى المسيح نجّاراً أخذ الصنعة عن أبيه ” شافعي ” ؟ أستعرض إستطراداً ما قالت الأناجيل في مولد عيسى لا لأسبب للراحل نجيب محفوظ والمعجبين بفنه الروائي حرجاً ولكنْ من أجل معرفة الدوافع التي كانت تحرّكه وأغرته في النأي عمّا نعرف وما قرأنا في الكتب ذات العلاقة سواء في موضوع ولادة عيسى وفي غيره من الموضوعات الشائكة تأريخياً ودينياً . في إنجيل متّى [[ أما ولادة يسوعَ المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريمُ مخطوبةً ليوسفَ قبل أنْ يجتمعا وُجدتْ حُبلى من الروح القدس / الإصحاح الأول ]]. نقرأ في إنجيل مرقص [[ أليس هو النجّارُ إبن مريمَ وأخو يعقوبَ ويوُسي ويهوذا وسِمعان. أوَليست أخواتُهُ ههنا عندنا / الإصحاح السادس ]]. وما جاء في إنجيل لوقا [[ …فصعدَ يوسفُ أيضاً من الجليلِ من مدينة الناصرة إلى اليهوديّة إلى مدينة داوُد التي تُدعى بيت لَحم لكونه من بيت داوُد وعشيرته ليُكتتبَ مع مريمَ امرأتهِ المخطوبة وهي حُبلى. وبينما هما هناكَ تمّتْ أيامها لتلدَ. فولدت ابنها البِكرَ وقمّطتهُ وأضجعته في المِذودِ إذْ لم يكنْ لهما موضعٌ في المنزل / الإصحاح الثاني ]]. أما ما جاء في إنجيل يوحنا فيما يخص علاقة يسوع المسيح بيوسف فهو كما يلي [[ … فيلُبِسُ وجدَ نثنائيلَ وقال لهُ وجدنا الذي كتبَ عنه موسى في الناموسِ والأنبياءُ يسوعَ ابنَ يوُسفَ الذي من الناصرة / الإصحاح الأول ]]. لم يدخل هذا الإنجيل في تفاصيل ما يُسمّى بمعجزة خلق أو مولد عيسى المسيح فاكتفى بالقول ” يسوع إبن يوسف ” . لم يقطعْ إنجيلٌ أو أحدٌ أنَّ يوسف النجّارَ كان قد دخل بمريم فحملت منه بعيسى فكيف نتقبل فكرة أنَّ المسيح هو إبن يوسف ؟ هذا هو الإشكال الحقيقي والجدّي في تفسير وفهم نص إنجيل يوحنا القائل { يسوع إبن يوسف } فأنجيلُ متّى قال { لمّا كانت مريمُ مخطوبةً ليوسفَ قبل أنْ يجتمعا وُجدت حُبلى من الروح القدس }. لقد مال نجيب محفوظ إلى أضعف ركن في قصة عيسى المسيح من حيث المولد والمهنة. جعل النجّار شافعي أباه وعبدة أمّه . لم يتفق المسيحيون جميعهم حول هذا الموضوع بل وأغلبهم يكذّبه ويستنكره خاصة الكاثوليك منهم أصحاب الثالوث المعروف [ الأب والأبن وروح القدس ] فعيسى عند هؤلاء هو إبن الله وليس إبن بشر إسمه يوسف النجّار. جعل الكاتبُ عيسى المسيحَ إبناً لرجل يمتهن النجارة دعاه ” شفيع “. لماذا خالف محفوظ غالبية المسيحيين وخالف نصوص القرآن الواردة في سورة مريم وكانت امرأة عذراء لم يمسسها بشرٌ وما كانت بغيّا؟ (( قالت أنّى يكونُ لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ولم أكُ بغيّا / الآية 20 )). قد يكون الكاتب على قناعة أنَّ عيسى رجلٌ جاء الدنيا كغيره مثل سائر البشر وله أمٌّ وله أبٌ وأنا أحترم قناعته هذه وأشاركه في صحتها وأرفض وجهات النظر الأخرى . طريق ولادتنا الطبيعي معروف وشروطه كذلك معروفة فلِمَ يشذُّ واحدٌ منّا ويختص بطريقه الخاص والوحيد غير المسبوق ؟ كان موسى قبله بشراً سويّاً وهكذا كان الرسول محمدٌ رجلاً أنجبه أبٌ وأم معروفان . سوى أنَّ اعتراضي على طرح نجيب محفوظ ينبعُ من تشكيكي في أهمية أنْ يكونَ لعيسى مهنة نجارة يمتهنها أخذها عن أبيه يوسف النجار لملاقاة شروط الحياة ومتطلباتها من مأكل ومسكن وملبس وما إلى ذلك . كان عيسى زاهداً في الطعام قليلاً ما يتناول المتوفر منه . كان الخبزُ كفاف يومه يجود به عليه أنصاره ومحبّوه وحواريوه . فهل زادته حِرفة النجارة ثراءً أو جاهاً أو هيأت له إمتيازات إجتماعية يسّرت له سُبل نشر تعاليم دينه ؟ الجواب كلاّ ! إختار نجيب محفوظ هذا الخط الأوسط الثالث بذكاء وتصميم. رفض فكرة أنَ عيسى هو إبنُ الله متّبِعاً ما ورد في قرآننا من نفي قطعي لهذه الفكرة [[ ما كان لله أنْ يتخذَ من وَلَدٍ سُبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقولُ له كنْ فيكون / سورة مريم الآية 25 ]] . [[ لقد كفرَ الذين قالوا إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ وما من إلهٍ إلاّ إلهٌ واحدٌ وإنْ لم ينتَهوا عمّا يقولونَ لَيَمسّنَّ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم / سورة المائدة الآية 73 ]] . [[ لو أرادَ اللهُ أنْ يتخذَ ولداً لأصطفى مما يخلقُ ما يشاءُ سُبحانَهُ هو اللهُ الواحدُ القهّارُ / سورة الزمَرْ الآية 4 ]] . [[ وقلِ الحمدُ للهِ الذي لم يتخذَ وَلَداً ولم يكنْ له شريكٌ في المُلكِ ولم يكنْ له وليٌّ من الذُلِّ وكبّرهُ تكبيرا / سورة الإسراء الآية 111 ]] . [[ وقالوا اتخذَ الرحمنُ وَلَداً سُبحانَهُ بلْ عِبادٌ مُكْرَمون / سورة الأنبياء الآية 26 ]] . [[ وإذْ قال اللهُ يا عيسى ابنَ مريمَ ءأنتَ قلتَ للناسِ اتخذوني وأمّي إلهينِ من دون اللهِ قال سُبحانكَ ما يكونُ لي أنْ أقولَ ما ليس بحقٍّ إنْ كنتُ قُلتهُ فقد عَلِمتَهُ تعلمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسكَ إنكَ أنتَ علاّمُ الغُيوب / سورة المائدة الآية 116 ]] . في القرآن آيات أخرى غير قليلة تؤكد هذه المضامين وتنفي أنْ يكون المسيحُ إلهاً أو ابن الله أو ثالث ثلاثة . إلتزم نجيب محفوظ بهذا الخط ولم يحدْ عنه . لكنه رفض الفكرة الأخرى التي جاء بها القرآن ووردت في غير قليل من الآيات ، تلك القاضية أنَّ عيسى المسيح هو نفخة من روح الله في جسد والدته مريم العذراء التي لم يمسسها بشرٌ أو أنه كلمة من الله ألقاها إلى مريمَ [[ يا أهلَ الكتابِ لا تغلوا في دينكمْ ولا تقولوا على الله إلاّ الحقَّ إنما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسولُ اللهِ وكلمتهُ ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منه فآمنوا بالله ورُسُله ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهوا خيراً لكمْ إنمّا اللهُ إلهٌ واحدٌ سُبحانه أنْ يكونَ له وَلَدٌ له ما في السماواتِ وما في الأرضِ وكفى باللهِ وكيلا / سورة النساء الآية 171 ]] . هناك آيات أخرى لا تخرجُ عن مضمون هذه الآية . رفض نجيب إذاً كلتا الفرضيتين بشأن خلق عيسى فانتهج السبيل الطبيعي السوي منْ أنَّ لكل مولود لا بدَّ من أبٍ وأم. رفض فكرة الإعجاز في مولد عيسى كما لم يقبل فكرة أنْ يكون عيسى نتاج كلمة أو نفخة روحٍ إلهية . ألا يكفي هذان الموقفان الصارمان لتجريم نجيب ومنع تداول روايته في مجتمع مصري عيون مشايخ الأزهر فيه كبيرة مفتوحة على آخرها ؟
إشكالية أخرى ما وجدتها معقولة في هذا الكتاب . أعني زواج عيسى [ رفاعة ] من المومس ياسمينة . هل زاده هذا الزواج رفعةً أو أعطاه ميزات لا يمكنه الإستغناء عنها ؟ وهل يليق بنبي رسول يحمل رسالة عظيمة للبشرية … هل يليق به أنْ يقترنً بمومس ؟ كانت تزور تحت جنح الظلام عشيقاً لها شقيّاً ، فتوّة، من بلطجية أحد أحياء الحارة إسمه بيّومي [[ منذُ قليل رأيتها خارجة من باب بيت بيومي الخلفي، تبعتها إلى هنا ثم سألتها عمّا كانت تفعله في بيت الفتوّة فتبين لي سكرها. كانت رائحة الخمر تخرجُ من فيها فتملأ الدهليز. أفلتت مني وأغلقت على نفسها الباب. والآن سلوا أنفسكم عما يمكن أنْ تفعله امرأةٌ سكرانة في بيت فتوّة ]] . سأختصر ما جاء بهذا الصدد في الصفحتين 265 و 266 وأترك للقارئ العارف بالأناجيل المسيحية فُرصة أنْ يقارن وأنْ يستنتج [[ وتتابعت الأصواتُ في غضب : أطردوها من حي آل جبل . يجب أنْ تُجلد قبل طردها. أقتلوها قتلاً… لكنَّ رفاعة سُمع وهو يسألُ أباه : أليس الأولى بهم يا أبي أنْ يصبّوا غضبهم على بيومي المُعتدي ؟ … فأفلت من يد أبيه وشقَّ طريقه إلى بيت ياسمينة وهتف برجاء : رحمةً بضعفها وذعرها… وناداه شافعي بحرارة لكنه لم يُبالِ وأجاب زيتونة : الله يسامحك ثم للجميع : إرحموها وافعلوا بي ما تشاؤون { كتبها نجيب تشاءون ! } ، ألا تحرّكُ الإستغاثات قلوبكم ؟! … فتساءل رفاعة : هل يُرضيكم أنْ أتزوجَ منها ؟ ]] . كم عدداً من الرسل أمثال عيسى تحتاج البشرية لإنقاذ ملايين المومسات بالزواج منهنَّ يا نجيب محفوظ ؟ لم يتزوج المسيحُ من المرأة الزانية التي أراد الكَتبةُ والفريسيون رجمها حسب شريعة موسى في الناموس إنما قال لهم قولته الأكثر شهرة (( مَنْ كان منكم بلا خطيئةٍ فليرمها بحجر … قال لها يا امرأة أين هم أولئك المُشتكون عليك. أما دانك أحدٌ. فقالت لا أحدَ يا سيّدُ. فقالَ لها يسوعُ ولا أنا أدينكِ. اذهبي ولا تُخطئي أيضاً / إنجيل يوحنا الإصحاح الثامن )). كما أنه لم يتزوج المرأة الأخرى التي دهنت قدميه بفاخر العطور ثم بلّتهما بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها (( وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة إذْ علمتْ أنه مُتكئٌ في بيت الفريسيِّ جاءت بقارورة طيبٍ ووقفت عند قدميهِ من ورائهِ باكيةً وابتدأتْ تبلُّ قدميهِ بالدموع وكانت تمسحهما بشعرِ رأسها وتقبّلُ قَدميهِ وتدهنهما بالطيب / إنجيل لوقا الإصحاح السابع )).
ربط نجيب محفوظ بين رفاعة وعيسى بذكره بشئ من التفصيل قدرات رفاعة على إخراج العفاريت وإنقاذ مرضاها منها وإشفاء المريض والأكمه والأبرص وإحياء الموتى مما قرأنا في القرآن والأناجيل [[ قالت ربِّ أنّى يكونُ لي ولدٌ ولم يمسسني بشرٌ قال كذلكَ اللهُ يخلقُ ما يشاءُ إذا قضى أمراً فإنمّا يقولُ له كنْ فيكونُ. ويُعلّمهُ الكتابَ والحِكمةَ والتوراةَ والإنجيل. ورسولاً إلى بني إسرائيلَ أني قد جئتكمْ بآيةٍ من ربّكمْ أخلُقُ لكمْ من الطينِ كهيئةِ الطيرِ فانفخُ فيهِ فيكونُ طيراً بإذنِ اللهِ وأبرْئُ الأكمَهَ والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذنِ اللهِ وأُنبئكمْ بما تأكلون وما تدّخرونَ في بيوتكمْ إنَّ في ذلكَ لآيةً لكمْ إنْ كنتم مؤمنينَ / سورة آل عمران الآيتان 47 و 48 ]] . في الأناجيل الكثير من هذا القول الذي ينسب للمسيح من الخوارق ما لا يتقبله عقل إنسان سليم . المهم .. أنَّ نجيب محفوظ أفاد من هذه الأساطير ليرسم صورةً قريبة مما قيل في هذه الكتب { السماوية } عن معجزات المسيح الذي دعاه في روايته ” رفاعة ” والرفاعية فرقة من المتصوفة معروفون بترويض الأفاعي واستخلاص سمومها لعلاج بعض العلل أو لخلطها مع التبغ والحشيشة وهي خلطة شهيرة معروفة بين مشايخ الطُرق وخاصة في إيران . تُضاهي كلمة ” رفاعي ” معنى الحكيم أو الطبيب المداوي من العلل والأمراض وهذا ما كان ولم يزلْ معروفاً عن المسيح . رفاعة في رواية نجيب قادرٌ على إخراج العفاريت من الناس أي يخلّصهم مما في نفوسهم من شرور ويُنقّيهم من ذنوبهم وخطاياهم فهو إذاً نبيٌّ ورسول . هكذا أدخلنا نجيب محفوظ في طور المسيحية بعد يهودية موسى أو جبل . مثال واحد ورد في إنجيل متّى [[ ولما صار المساءُ قدّموا إليه مجانينَ كثيرينَ فأخرجَ الأرواحَ بكلمة وجميعَ المرضى شفاهم ]] . وهذا هو رفاعة أولاد حارتنا .
نهاية حياة رفاعة ( عيسى ) : شذّ نجيب محفوظ كثيراً عن رواية مقتل عيسى صلباً من قبل اليهود وهي رواية معروفة على أوسع نطاق جاءت تفاصيلها في الإصحاحين السابع والعشرين والثامن والعشرين من إنجيل متى ، وفي الإصحاحين الخامس عشر والسادس عشر من إنجيل مرقس. صورة مقتل عيسى في أولاد حارتنا هي صورة بدائية ومتخلّفة جداً مقارنة بما جاء في الإنجيلين سالفي الذِكْر. رسم هذان الإنجيلان صورة حيّة رائعة متحركة لأحداث محاكمة وصلب المسيح وما رافق ذلك الصلب من تمثيل به حيّاً وتعذيب وأخيراً ما قيل في أمر قيامته حتى أنَّ قرآننا قال قولته في مصير عيسى المسيح [[ وقولِهم إنّا قتلنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ وما قتلوهُ وما صَلَبوهُ ولكنْ شُبّهَ لهمْ وإنَّ الذين اختلفوا فيهِ لَفي شكٍّ منهُ ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباعِ الظنِ وما قتلوهُ يقيناً بل رفعه اللهُ إليهِ وكان اللهُ عزيزاً حكيماً / سورة النساء الآية 157 ]]. قد يقولُ قائلٌ إنَّ أولادَ حارتنا هي رواية لا تتقيد بالأحداث التأريخية تقيّداً حرفياً وهذا صحيح ولكنْ، المفروض والمتوقع أنْ تصوّر الروايات والفن والأدب عموماً … أنْ تصورها وتخرجها بأشكال وصياغات وصور تبدو أفضل من حقائقها المروية والمعروفة . هذه هي رسالة الروائي والفنان والأديب وإلاّ فليتركوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر كما قال المسيحُ لمن أراد توريطه أمام حكام زمانه. المفروض أنْ يتفوقَ نجيب محفوظ في سرده وإعادة صوغه لتأريخ الأديان وما حصل فيها … أنْ يتفوق فيما سرد وأنْ يعلو بها إلى حيث المُتوقع من الإبداعات في تجديد الرؤية لما كان قد وقع وإخراجها بأفضل أشكال وأُطر. كانت معالجة محفوظ لحادث مقتل رفاعة { عيسى } معالجة سوقية هابطة المستوى ومقززة للنفس لدى مقارنتها بمشاهد محاكمة عيسى أمام الوالي بيلاطُس بحضور الكَهَنة والشيوخ .
أنقلُ ما جاء في إنجيل متّى من وصف لمشهد محاكمة يسوع ليتمكن قارئ رواية أولاد حارتنا أنْ يعقدَ مقارنة بينها وبين العرض الذي قدّمه نجيب محفوظ لها [[ وكان الوالي مُعتاداً في العيد أنْ يُطلقَ للجمع أسيراً واحداً مَنْ أرادوه. وكان لهم حينئذٍ أسيرٌ مشهورٌ يُسمّى باراباس. ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطُس مَنْ تريدون أنْ أُطلقَ لكم باراباس أم يسوع الذي يُدعى المسيح. لأنه علمَ أنهم أسلموه حَسَداً. وإذْ كان جالساً على كرسيّ الولاية أرسلتْ إليه امرأته قائلةً إيّاكَ وذلك البارّ. لأني تألّمتُ اليومَ كثيراً في حُلمٍ من أجله. ولكنَّ رؤساءَ الكَهَنة والشيوخ حرّضوا الجموعَ على أنْ يطلبوا باراباس ويُهلكوا يسوع. فأجابَ الوالي وقال لهم مَنْ مِن الإثنين تريدون أنْ أُطلقَ لكم. فقالوا باراباس. قال لهم بيلاطُس فماذا أفعلُ بيسوعَ الذي يُدعى المسيح. قال له الجميعُ ليُصلبَ. فقال الوالي وأيَّ شرٍّ عملَ. فكانوا يزدادون صُراخاً قائلينَ ليُصلبَ. فلمّا رأى بيلاطُس أنّه لا ينفعُ شيئاً بل بالحري يحدثُ شَغبٌ أخذَ ماءً وغسلَ يديهِ قُدّام الجميع قائلاً إنّي بريءٌ من دمِ هذا البار. أَبصروا أنتمْ. فأجاب جميعُ الشعب وقالوا دمُهُ علينا وعلى أولادنا. حينئذٍ أطلقَ لهم باراباسَ. وأمّا يسوعُ فجلده وأسلمهُ ليُصلبّ. فأخذَ عسكرُ الوالي يسوعَ إلى دار الولايةِ وجمعوا عليه كلَّ الكَتَبة. فعرّوهُ وألبسوه رداءً قرمزيّاً. وضفروا إكليلاً من شوكٍ ووضعوهُ على رأسه وقَصبةً في يمينه. وكانوا يجثونَ قدّامهُ ويستهزئون به قائلين السلامُ يا ملكَ اليهود. وبصقوا عليهِ وأخذوا القصبةَ وضربوهُ على رأسهِ. وبعدما استهزأوا به نزعوا عنه الرداءَ وألبسوهُ ثيابَهُ ومضوا به للصلب / الإصحاح السابع والعشرون من إنجيل متّى ]].
فليتابع القارئ الكريم بقية ما ورد في هذا الإصحاح من تفصيلات صلب يسوع
وما جرّعوه من خل ممرور وما وضعوا فوق رأسه من إكليل شوك. أقرأ الإصحاح السابع والعشرين من إنجيل متّى فيأخذني العجب حتى كأني أمام فيلم سينمائي بالألوان زاخر بالحركة والحيوية ونظام دمقراطي كأنه نظامٌ حديث معاصر يُعطى المسيح فيه حق الدفاع عن نفسه في محاكمة علنية يشهدها جمهور واسع من أعداء المسيح يسألهم الوالي بيلاطُس هل يُطلق سراحَ الأسير باراباس أو المسيح ؟ قالوا باراباس . في وسط هذا المشهد الملحمي والدرامي معاً يحضر مشهدٌ آخرُ يشقُّ الأحداث شقّاً فيه أروع العبر والمفاجآت التي أفاد منها شكسبير في مسرحياته … أعني معارضة زوج الوالي وتحذيرها له من مغبّة قتل عيسى المسيح (( إنجيل متّى الإصحاح السابع والعشرون )). فما قال نجيب محفوظ في مقتل مسيحه رفاعة وكيف صور الحادث ؟ أنقلُ بعض ما قصَّ حول هذه الواقعة الأليمة [[ … وأوغلوا في الخلاء فثقُلت خطواتهم فوق الرمال. وشعر رفاعة { عيسى } بالغربة في الخلاء وذكر أنَّ امرأةً خانتهُ { هي زوجه ياسمينة } وأنَّ الأصحابَ لاذوا بالفرار. أراد أنْ يلتفتَ إلى الوراء صوب البيت ولكنَّ يد بيّومي دفعته في ظهره بغتةً فسقط على وجهه. ورفع بيومي نبّوته وهتف : معلم خنفس ؟ فرفع الرجل نبّوته قائلاً معك إلى النهاية يا معلم. وتساءل رفاعة في يأس لماذا تبغون قتلي ؟ فهوى بيومي بنبوته على رأسه بشدة فصرخ رفاعة صرخة عالية وهتف من أعماقه ” يا جبلاوي ” ! وفي اللحظة التالية كان نبوت خنفس يصيب عنقه، واستبقت النبابيتُ. وساد صمت لم تسمع خلاله إلاّ حشرجة. وأخذت الأيدي تحفر الأرض بقوة في الظلام ]].
< فصرخ رفاعة صرخة عالية وهتف يا جبلاوي > . أليس هذا الكلام هو عين ما جاء في أنجيل متّى بعد صلب المسيح << ونحو التاسعة صرخَ يسوعُ بصوتٍ عظيم قائلاً إيلي إيلي لما شَبَقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني >>. صرخة يا جبلاوي هي بالضبط صرخة إلهي إلهي فكيف افترى نجيب محفوظ وادّعى أنَّ جبلاوي هو الدين وليس الله ؟ على كل حال … يتحمل المرحوم في عالمه الآخر عاقبة ما كتبَ وقال وما ادّعى . كل ما كتبه في أولاد حارتنا هو ضد الدين وليس دفاعاً عنه. كان مُلحداً وكان مثل سلمان رشدي في آياته الشيطانية وإنْ جاء هذا بعده بعقود.
الإسلام / النبي محمد [ قاسم ]
( الصفحات 322 ـ 465 يساوي 143 صفحة مخصصة لفترة قاسم )
كما كان الأمر مع الأقسام السالفة من رواية أولاد حارتنا ، وجدتُ إيجابيات وسلبيات في هذا الجزء الذي خصصه كاتب الرواية للرسالة المحمدية. كان واضح التحيز لمحمد الرسول رغم ما اعتور هذا الفصل الخاص من عيوب على رأسها وصفه ل [ قاسم ] بالحشّاش ومحب للغناء فضلاً عن خِلال أخرى تطيب لها النفوس. إذا كان الكاتب يبغي الجد فيما كتب فما كان معروفاً أنَّ نبيَّ الإسلام كان يتعاطى الحشيشة وسماع الأغاني. ثمَّ، هل كانت الحشيشة معروفة في مجتمع مكة قبل وبعد الإسلام ؟ أضف إلى ذلك أنَّ محمداً ما كان يسيغ سماع الموسيقى والغناء ولا يحب الصور والرسم ويحث نساءه على تجنب استخدام السًتُر والأقمشة الملونة . ما الذي حدا بكاتب الرواية إلى لصق هذه التهم ببطل هذا الجزء من روايته ؟ أما إذا كان هازلاً أو غير جادٍّ فلسوف يسقط أحد أكثر أركان روايته أهمية وخطورةً : قيمتها التأريخية والتنويرية وإضاءة الكثير من المسائل التي بقيت غامضة وغير معروفة من بينها خصائص وتفصيلات حياة الرسول البيتية والعائلية وكيف كانت علاقاته بزوجه قمر [ خديجة ] وكيف كانت تعامله كقرينة كانت أرملة ثرية تمتهن التجارة. ثم ما كان محمدٌ راعياً للغنم وحتى لو كان كذلك فما كان معروفاً عنه أنْه كان يرعى عنزةً لخديجة أعطاها إسم [ نعمة ] ! هذه صور كاريكاتورية هازلة ومضحكة لا تليق بسياقات الرواية العريضة ولا برسالتها ومجمل أهدافها لأني أفترض أنَّ كاتبها رجلٌ بصير ذكيّ ذو أهداف اجتماعية لم تفارق ما كتب من قصص وروايات حسب اجتهاداته ورؤاه الخاصة أخص بالذكر منها رواية ميرامار وثرثرة فوق النيل واللص والكلاب وغيرها. ما كان الرجل سياسياً مؤدّلجاً لكنه حمل رسالة تنويرية واضحة في كل ما كتب. مؤاخذة أخرى تتعلق بتوظيفه لبعض الأسماء الثقيلة التي لا يتقبلها الذوق السليم من قبيل دنجل ولهيطة وجلطة وزقلة وخردة. إذا قصد السخرية من هؤلاء الرجال لأنهم كانوا من الشقاة العُتاة يرهبون الناس ويفرضون الإتاوات الثقيلة عليهم ثم لأنهم كانوا في الصف المعادي للنبي الجديد ورسالته الجديدة فيكفي لمقتهم واحتقارهم فظاعة وشناعة ما كانوا يمارسون من أعمال البلطجة والشر وظلم أُناس الحارة أي المجتمع المكي الذي انقسم إلى ثلاث حارات واحدة للنصارى [ حي رفاعة / عيسى ] والأخرى لليهود [ حي آل جبل / موسى ] والثالثة أسماها حي الجرابيع [ أي حي المسلمين أو ربما حي بني هاشم قوم قاسم [ محمد ] . قلتُ إنَّ كاتب الرواية أجاد إذْ أضاف اجتهاداً جديداً يحتاجه الناس ولو من باب الفضول للوقوف على تفصيلات حياة نبيّهم اليومية أثناء ساعات تفرّغه لأزواجه سواءً أكانت الأولى خديجة أو الأخريات اللواتي دخلن بيوته تباعاً. كما أنه قدّم ثلاثة تفسيرات لكثرة زواجات [ قاسم ] تفسيران منهما معروفان أما الثالث فإنه تفسير جديد وطريف وفيه الكثير من الإجتهاد الذكي . التفسيران المعروفان هما : ( … فعلى حبّه بدرية ـ زوجته الثانية بعد قمر ـ تزوّج حسناء من آل جبل ـ أي يهودية من آل موسى ـ وأخرى من آل رفاعة ـ أي مسيحية من آل عيسى ـ . وقال أناسٌ في ذلك : إنه يبحثُ عن شيء افتقده مُذْ فقد زوجته الأولى وهذا هو التفسير الأول . وقال عمّهُ زكريا ـ هو أبو طالب والد عليّ ـ : إنه يريدُ أنْ يوثّقَ أسبابه بأحياء الحارة جميعاً وهذا هو التفسير الثاني وكلاهما معروفان متداولان على نطاق واسع ) . أما التفسير الثالث الذي رآه نجيب محفوظ وفيه أثر قوي من نظرية إبن خلدون في العمران والفساد فهو كما يلي وبكلمات نجيب نفسه ( … فضلاً عن ذوقه الجميل وحبه الغناء والنكتة لم يتغير من شأنه شيء اللهمَّ إلاّ أنه توسع في حياته الزوجية كأنما جرى فيها مجراه في تجديد الوقف وتنميته ) . معنى هذا الكلام أنَّ توسع نفوذ المسلمين بعد غلبتهم على كفّار قريش وكثرة ما أصابهم من غنائم وأموال وثراء واتساع في المال غير مسبوق قد أثّرت هذه جميعاً على قاسم بطل النصر ومحرر الفقراء من حي الجرابيع فنمت وتضخّمت رغبته صوب الجنس وتعدد الأزواج كأنَّ قوته وطاقاته الجنسية الجديدة هي امتداد طبيعي لا مناصَ منه لقوة المال والسلاح والكراع فقوة البدن من قوة المال والسلاح .
ملاحظة : كل ما اقتبستُ من كلام في هذا الخصوص ووضعته بين أقواس مذكور بالنص على الصفحة 465 من رواية أولاد حارتنا .
أمر أخر أعجبني فيما ذكر الروائي عن صادق [ أراه أبا بكر الصديق ] وعن حسن [ وهو علي بن أبي طالب ، إبن عم محمد وزوج ابنته إحسان [ فاطمة الزهراء ] . كانا ساعدي قاسم الأيسر والأيمن وكانا أول من آمن برسالته وقيادته وقاتلا معه وأبليا البلاء النادر ثم تزوج قاسم ـ بعد وفاة زوجه قمر ـ من بدرية أخت صادق . لم نقرأ في التأريخ أنَّ محمداً تزوج من أخت أبي بكر الصديق إنما تزوج ابنته الصغيرة عائشة وهو في مراحل متقدمة من عمره. على أية حال … نجيب محفوظ مسؤول عمل قال واجتهد لكنَّ للقارئ كل الحق في أنْ يفهم ويفسّر الأمور حسب فهمه واجتهاداته وتفسيراته الخاصة وإنْ كرِهُ الروائيون . قد يرى البعض أنَّ جبل المقطم الذي جرت في بعض سفوحه ووممراته الضيقة معارك فاصلة بين جماعة قاسم وسكنة الحارة الآخرين إنما هو جبل أُحُد فمعركة أُحد معروفة وكانت معركة حاسمة خلال تطور وانتصار الإسلام ديناً جديداً . وحادثة كسر ثنيّة الرسول في هذه المعركة هي حادثة كذلك معروفة وعليه فلا سبيلَ أمام نجيب محفوظ أنْ يدّعي أنْ لا من علاقة تربط روايته بما نعرف عن الأديان الثلاثة [ لكنَّ صادق قال له : إنَّ الدمَ يسيلُ من أسنانك وذقنك / الصفحة453 ] . إنه أخذ منها الكثير لكنه أعاد صياغات الروايات وتصرّف ببعضها كثيراً وباشكال شتى بعضها مقبول لا يرفضه المنطق وقوة الإحتمال لكنَّ البعض الآخر مرفوض وعسير قبوله والتسليم به . منها أنه جعل أحداث روايته ، وهي كبيرة لا شكّ ، تدور في بعض أحياء القاهرة كحي الجمّالية المعروف والقريب من ساحة ومسجد الحسين وخان الخليلي . فضلاً عن جبل المُقطّم وأماكن أخرى يعرفها المصريون من سكنة القاهرة. لم يذكر نهر النيل ولا إهرامات مصر على وجه الإطلاق . مكّة بعيدة عنهما لكنَّ جبل المقطم كذلك بعيد عنها . إذا التزم كاتب هذه الرواية بخط تدرّج وتسلسل الأديان الزمني كما فعل في واقع الأمر … سنجده أوقع نفسه في مأزق تأريخي عويص . أعني أنَّ المسلمين كانوا قد خسروا معركة أُحد كما أوضح التأريخ وأبان أسباب انكسار المسلمين الأوائل أمام كفّار قريش في تلك المعركة . لكنَّ نجيب محفوظ جعلهم يكسبونها وينتصرون على قريش إنتصاراً حاسماً مؤزّراً فيدخل هو وأتباعه الحارة بل ويقتحم بيت الناظر ولعله يقصد الكعبة بهذا البيت فقد كانت الكعبة وبيت الله في قبضة القرشيين ولا سيّما آل سفيان وأحد مصادر ثرائهم الفاحش حسب مقاييس ذاك الزمان . لقد مصّرَ الكاتب روايته أمكنةً وأسماءً ومواقع وأكلات مثل الطعمية المصرية الشهيرة ولم يفته تمصير المشروبات مثل البوظة والنبيذ بل وحتى الجوزة ( النارجيلة ) . نجح لا ريب في تمصير الرواية لكنه فشل في إقناع القارئ مرتين وعلى الصعيدين كليهما : التاريخي وماهية وجوهرية الوقائع والأحداث . لذا لا أتقبل هذه الرواية إلاَ على أنها مجموعة قصص مصممة للأطفال وأطفال المدارس خاصةً تمهيداً لعقولهم لتقبّل واستيعاب تأريخ الدين الإسلامي .
نزول الوحي على محمد /
كتب نجيب محفوظ حول هذا الموضوع على الصفحات 364 ـ 367 كلاماً شبيهاً أو قريباً مما نعرف عن قصة النزول . فبدل غار حِراء جعل قاسمَ يُغمى عليه عند صخرة هند . وجبريل غدا قنديل [ … قال لي أنا قنديل ! فعجبتُ لشأنه وقلتُ له : لا تؤاخذني فأنا … فقاطعني قائلاً : أنا قنديلُ خادم الجبلاوي / الصفحة 367 ] . نقرأ في القرآن [[ قلْ مَنْ كان عدوّاً لجبريلَ فإنه نزّلهُ على قلبكَ باذن اللهِ مُصدّقاً لما بين يديه وهُدىً وبُشراً للمؤمنين / سورة البقرة الآية 97 ]] . ثم [[ قلْ نزّلهُ روحُ القُدسِ من ربّكَ بالحقِّ ليُثبّتَ الذين آمنوا وهُدىً وبُشرىً للمسلمين / سورة النحل الآية 102 ]] . كيف ينفي محفوظ أنَّ الجبلاوي هو الله في روايته ولا أرى في ذلك أي ضرر أو تجديف ؟ جبريلُ هو واسطة وناقل الوحي وهو الروح القدس الأمين . في الرواية أدلة وإشارات قوية كثيرة تُشير إلى صحة ما استعار المؤلف في روايته من قصص الأديان وتأريخ الأنبياء التي قصرها على ثلاثة بينما عرفت مكة والجزيرة العربية ديانات أخرى منها المجوسية والزرادشتية والمندائية الغنوصية والبابلية إذْ ورد اسمُ بابل في القرآن والساحرين هاروتَ وماروتَ في بابل . من هذه الإشارات القوية ما قال في الصفحة 400 [[ فهزَّ قاسم رأسه في حيرة وتساءل : لماذا يكذّبُني آل جبل وآل رفاعة ومنهم من قابله الجبلاوي أو حادثهُ ؟ لماذا يكذبونني وهم أولى الناس بتصديقي وتأييدي ؟ ]]. أليس في هذا الكلام شبه قوي بما قال القرآن [[ لَتجدنَّ أشدَّ الناسِ عداوةً لِلذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا ولَتجدنَّ أقرَبَهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنَّ منهم قسيسينَ ورُهباناً وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أُنزِلَ للرسولِ ترى أعينهمْ تفيضُ من الدمعِ مما عَرَفوا من الحقِّ يقولون ربَّنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين / سورة المائدة الآيتان 82 و 83 ]]. موسى هو من قابله الربُّ وكلّمه فوق جبل طور سيناء . أسوق إشارات أخرى لأبيّنَ صحة علاقة أحداث رواية أولاد حارتنا بالمعروف في تراثنا وموروثنا الديني والثقافي . أسوق مثلين وأكتفي بهما فهنالك يبقى الكثير . قال نجيب على الصفحة464 من روايته [[ وبدا قاسم باسماً متواضعاً رقيقاً مَهيباً معاً فأشار إلى أعلى، إلى البيت الكبير وقال : هنا يُقيمُ الجبلاوي، جدّنا جميعاً، لا تمييز في الإنتساب إليه بين حي وحي، أو فرد وفرد، أو رجل وامرأة ]] . ألا تعني عبارة { جدّنا جميعاً } ما جاء في سورة يونس في القرآن [[ وما كان الناسُ إلاّ أمّةً واحدةً فاختلفوا ولولا كلمةٌ سبقت من ربّكَ لَقُضيَ بينهم فيما فيه يختلفون / الآية رقم 19 ]]. جدّنا جميعاً إنما هو اللهُ خالق السماوات والأرض وما بينهما وهو نفسه خالق آدم وباقي البشر من تراب أو طين [[ الذي أحسنَ كلَّ شيءٍ خلقهُ وبدأَ خلقَ الإنسانِ من طين / سورة السجدة الآية السابعة ]] . [[ ومن آياته أنْ خلقكمْ من تُرابٍ ثمَّ إذا أنتمْ بشرٌ تنشِرون / سورة الروم الآية 20 ]] . المثال الأخير جاء في الصفحة 464 من أولاد حارتنا [[ وحولكم وقفهُ وسيكون لكم جميعاً على السواء كما وعد أدهم حين قال له : سيكون الوقفُ لذرّيتك ]ُ] . الوقف هو الأرض وأدهم كما رأينا سابقاً هو آدم وله قال ربّه بعد أنْ خالف أمره [[ قال اهبطوا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرضِ مُستَقرٌ ومتاعٌ إلى حين . قال فيها تَحيونَ وفيها تموتونَ ومنها تُخرَجون / الآياتان 24 و 25 من سورة الأعراف ]] .
لا من سبيل أمام الراحل نجيب محفوظ لإنكار حقيقة روايته وما جاء فيها من أحداث وتفاصيل فهي مكشوفة تحت نور الشمس بل وحتى في عتمات الليل .
الساحر عَرَفة
الصفحات 466 حتى 590 ( مجموع الصفحات يساوي 124 صفحة فقط )
من هو عَرَفة ؟ إنه شخص يمارس السحر نشأ في هذه الحارة في يوم ما وعرفته أنه لا يعرف أباه أي أنه لقيط وابن سفاح . نقرأ شيئاً مما قال عنه أو فيه بعض قاطني هذه الحارة [[ وسألته امرأةٌ كانت مقتعدة الأرض أمام أحد الربوع : يا الف مصيبة عليك ، من أنت حتى تسكن في حارتنا ؟ فضحك الرجل وقال : محسوبك عرفة، من أولاد حارتكم كالآخرين، وهو عائد بعد غيبة طويلة. فدققت المرأة فيه النظر وتساءلت : إبنُ مَنْ يا روح أمّك ؟ فبالغ في الضحك تودداً وقال : خالدة الذكر جحشة، ألا تعرفينها يا ست النساء ؟ / الصفحة 469 ]] وعلى الصفحة 470 نقرأ [[ وحياها ومضى نحو الربع الذي أشارت إليه وأصبح محط أنظار كثيرين فقال رجل ساخراً : عرفنا أمه فمن ذا يعرف أباه ؟ ]]. هذه هي خلفية ومنشأ هذا الساحر الذي جعله نجيب محفوظ عالماً أو رمزاً للعلم والعلماء. هل أراد أنْ يشبهه أو يقابله بعيسى المسيح من حيث الغموض والإختلاف اللذين سادا حول مولده ومن حيث ما قدم هذا من معجزات وأنَّ هذه المعجزات إنْ هي إلا من باب السحر والخرافات ؟ ثم ما كان مبلغ علم اللقيط عرفة ؟ حبوب لتقوية الجنس عند الرجال كما هو الحال اليوم مع الفياغرا والسياليس … ثم قنينة قابلة للإنفجار مثل زجاجة مولوتوف علماً أنَّ محفوظ جعلها تحتوي على الرمل وكسر الزجاج فقط وهذان غير كافيين لإحداث إنفجار بدون مادة متفجرة أو حارقة ومصدر أو آلة للتفجير كالبارود أو النفط أو الكبريت [[ لم يسعفك السحرُ حتى اليوم إلاّ بأقراص منشّطة وقارورة مُهلكة / الصفحة 571 ]] . طوّرعرفة وسيلة للقتل الجماعي فالسيف يقتل واحداً لكنَّ هذه الزجاجة ( القنبلة ) تتسبب في قتل أو جرح أو إيذاء العديد . إنه يذكّرنا باختراع البارود وما لعب من أدوار حاسمة في ميادين المعارك واليوم نعرف نتائج استخدام أمريكا للأسلحة الذرية في شهر آب عام 1945 بعد أنْ ألقت قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين. من أفاد من اختراعي عرفة هذين ؟ أفاد الأثرياء وكبار القوم من حبوب رفع الحيوية الجنسية وما عرفها بقية الناس. كما قتلت قنبلته البدائية مصممها نفسه ثم آلت ملكيتها إلى الناظر أي الحاكم لتزيد من تسلطه وجبروته وتحكمه في رقاب ومصير رعيته. أهذا هو المطلوب والمرتجى من سحر أو علم عرفة ؟ أهذه هي الخاتمة التي أرادها وروّج نجيب محفوظ لها ؟ [[ فتردد حنش قليلاً ثم قال : إنها كراسة عرفة. عرفة ! الله يسامحه. قتل الجبلاوي ( أي الله ) ثم أعطى الناظرَ سحره وذهب / الصفحة 578 ]]. لقد انقلب الناس على ربّهم وعلى دينهم متشبثين بسحر أو علم عرفة فكيف يوفق نجيب محفوظ بين الدين والعلم ؟ فلنسمع ما يقول الناس [[ ومن عجبٍ أنْ تلقّى الناسُ أكاذيب الرباب بفتور وسخرية، وبلغ بهم العناد أنْ قالوا : لا شأن لنا بالماضي ولا أمل لنا إلاّ في سحر عرفة، ولو خيّرنا بين الجبلاوي والسحر لأخترنا السحر / الصفحة 581 ]]. ناس حارة نجيب محفوظ يفضلون السحر على الله ! أين الدين الذي لا ينهض مجتمع إلاّ به والعلم ؟ أفلم يكن هو من قال [[ إنَّ كتاباتي كلها، القديم منها والجديد، تتمسك بهذين المحورين : الإسلام الذي هو منبع قيم الخير في أمتنا، والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا والمستقبل / الصفحة 587 ]]. الساحر ، رمز العلم والعالم، عرفة قتل خادم ربّه وهو عجوز أسود البشرة ؟ فتأثر الرب ، الجبلاوي ، فمات هو الآخر ! هل يموت ربٌّ وكيف يموت ؟ وهل من دين سماوي بدون رب ؟ [[ كنتُ خادمة الجبلاوي وقد مات بين يدي. أنت ؟! نعم أنا فصدقني. ولم يكن في حاجة إلى دليل فسألها بصوت مضطرب : وكيف مات جدنا ؟ فقالت المرأة بنبرة حزينة : إشتدَّ به التأثر عقب اكتشاف جثة خادمه، وبغتةً أُحتضرَ فسارعتُ إليه لأسند ظهره المختلج ! ذلك الجبّار الذي دان له الخلاء ! / الصفحة 565 ]]. وبشّرِ القاتل بالقتل ! قتل الناظرُعرفة بدفنه وزوجه عواطف أحياء وهذا ما كنتم به توعدون . قتله السلاح الذي اخترع والذي آل في نهاية المطاف إلى ملكية الحاكم بأمره ليزيده قوة وجبروتاً وعتوّاً [[ فتردد حنش قليلاً ثم قال : إنها كراسة عرفة. عرفة ! الله يسامحه. قتل الجبلاوي ثم أعطى الناظرَ سحره وذهب / الصفحة 578 ]]. [[ وذاع حيناً ما أنَّ عرفة قُتل بنفس السلاح السحري الذي قتل به سعد الله والجبلاوي / الصفحة 577 ]]. لماذا جعل نجيب محفوظ بطله الساحر عرفة رجلاً كافراً ملحداً وقاتلاً ؟ أهذه سجايا وصفات العلماء ؟ كيف كان الساحر كافراً ؟ نتابع أقواله كما وردت في الرواية [[ فقال حنش يهز رأسه عجباً : لم يكن من عاداتك أنْ تتحدثَ عن جدّنا باحترام. عرفة : كان ذلك في الزمان الأول وأنا كثير الإرتياب، أما وقد مات فحقٌ للميت الإحترام ]]. ونقرأ [[ وليس غريباً على مجهول الأب أنْ يتطلع بكل قوته إلى جده. وحجرتي الخلفية علمتني ألاّ أؤمن بشيء إلا إذا رأيته بعيني وجرّبته بيدي / الصفحتان 509 و 510 ]]. قال الفتوّة قدري لعرفة [[ أنت حشاش يا عرفة لا ساحر / 563 ]]. قول قدري هذا أعطاني الحق أنْ أقول لنجيب إنك أكبر حشاش في مصر يا نجيب محفوظ ! ليس في ذلك عيب ما دام الكثير من مشاهير أدباء وشعراء العالم لا يستطيعون الكتابة إلا إذا كانوا تحت تأثير الكحول أو المخدرات وقائمة أسمائهم طويلة ومعروفة .
ختام واستطراد ضروري
العبرة والخلاصة التي خرجت بهما بعد قراءتي المتأنية لرواية أولاد حارتنا أنَّ كاتب الرواية قد أخفق إيّما إخفاق في البرهنة على ما ادعى من ضرورة الدين والعلم معاً لمجتمعه الإسلامي إذْ أساء في طول روايته وعرضها ، أساء لكليهما الدين والعلم بل وأساء لأنبياء الأديان الثلاثة إساءات بالغة لا مبرر لها سوى الإنجراف المروّع تحت تأثير الحشيشة وشطحات المسطولين حيث لا رقابة على النفس ولا من سيطرة على الفكر والرأس ولا إحساس بأيّما مسؤولية. روايته الطويلة هذه مجرد حشو ولغو وثرثرة وانزلاقات صبيانية غير محسوبة أخّرت أكثر مما قدّمت وأساءت أكثر مما أحسنتْ وغالط فيها نجيب محفوظ وخالف نفسه وتناقض بشكل صارخ مع كل ما ادّعى وبرر فتبريراته كاذبة مرائية إدّعاها من باب التقيّة والخوف من ألسنة شيوخ الأزهر والسلفيين . أكرر، أنَّ رواية أولاد حارتنا بقضّها وقضيضها لا تصلح إلاّ كمجموعة قصص للأطفال خاصة وفيها الكثير من شكل وطابع ومنحى سرديات ألف ليلة وليلة مع الإختلافات الكبيرة في مضامين ما جاء فيهما من قصص. أعترف أنه وعلى هذا الصعيد نجح محفوظ في تقديم مرجع آخر لتسلية الأطفال وتعليمهم مبادئ بعض الأمور. يبقى عجبي كبيراً كيف ولماذا كتب نجيب هذه الرواية التي وضعها في 581 صفحة في عام واحد هو عام 1967 ! عام النكسة الكبيرة حيث حرب الأيام الستة وخسارة مصر لها الخسارة المدوية . أعجب كذلك من قول بعض الأخوة من معارفي إنَّ نجيب محفوظ كان كاتباً { تقدمياً } وإنه كان متعاطفاً مع الشيوعيين وكان مع الفقراء والمعوزين. ليس عندي لهم من رد أكثر بلاغة مما كتب هذا الرجل نفسه في رواية ميرامار ( 1967 كذلك ) . لقد وقف موقفاً عدائياً استفزازياً في هذه الرواية من أحد مريدي ثورة يوليو عام 1952 في مصر المنحاز للإشتراكية المحاسب سرحان البحيري ( مثل الدور يوسف شعبان ) حيث تقلّب وخان ثلاث نساء ثم انتهى مخموراً منتحراً [ هذه هي نهاية ثورة يوليو إذاً كما أرادها محفوظ ]. أليس في هذا دور سياسي ذو دلالة وموقف من الثورة والإشتراكية ؟ نعم ، عرض محفوظ في ميرامار نماذج متباينة من المصريين حيال الثورة فبين أنَّ البعض منهم كان معها وقسماً كان ضدها ممن تضرروا بقوانين وإجراءات الثورة ( نائب الوزير السابق طلبة مرزوق )، وهناك فئة محايدة لم تتضرر مصالحها لكنها لم تكن مع الثورة ( منصور باهي ). وعلى العموم كان نجيب في ميرامار أفضل منه في أولاد حارتنا بما لا يُقاس.
ليس في مقدوري اليوم أنْ أتعرّض لنجيب محفوظ بما له وما عليه لأنني لا أعرف الرجل ولأنني لم أقرأ رواياته وقصصه جميعاً. لذا أحسب أنَّ وضعه في كفة الميزان السياسي والعقائدي إنما هي مسألة بالغة التعقيد فضلاً عن كونها نافلة فات أوانها ولا علاقة لها بإبداع المبدعين فأنا أفصل الإبداع عن عقيدة المبدع كما يفصل العلمانيون والمتنورون الدولة عن الدين.
* *أولاد حارتنا / رواية لنجيب محفوظ. الناشر : دار الشروق، مدينة نصرـ القاهرة ـ مصر. الطبعة الثامنة 2009 .