[[ لمناسبة إنقلاب الثامن من شباط 1963 ]]
د. عدنان الظاهر
شباط 1962
حين كسروا رأسي
وتناثر دمي على رصيف شارع الثقافة والمكتبات
دنا منّي ملازم الإنضباط البعثي الفاشي ( شريف صبيح )
ـ مسدسه العسكري الضخم يتدلى من حزامه ـ
قال ، ووجههُ الجميلُ يقطرُ لؤماً وجبناً ونذالةً :
(( تستاهل )) أكثر .
تركَ ميدانَ المعركة مُسرِعاً
وكان العريفُ المسلّحُ يجري كالكلب خلفه.
في الطريقِ إلى مركز الشرطة
إعترضتُ سيارة متصرف اللواء ( المحافظ ) خيري الحافظ
ـ عقيد متقاعد ومتآمر سابق ـ
لم يتبينْ سائق سيارته ملامحي ـ وكان زميلاً لي في الإبتدائية ـ
كذلك نائب العريف حمدان… مرافق السيد المحافظ
كان الدمُ الحار ما زال يسيل بغزارة
قلتُ للمحافظ هل أستأهلُ هذا ؟
ـ وأشرتُ إلى رأسي النازف وملابسي المغطاة بالدم ـ
إفتعلَ الجِدَّ وهزَّ رأسهُ الضخم موافقاً.
خلالَ ساعةِ إستجوابي دخلت عصابةُ الحرس الأسود
وأمام حاكم التحقيق وضباط الشرطة بنجومهم اللامعة
وجّهوا لي إهانات كلامية سوقية. لم يعترض أحدٌ من المسؤولين
وكان علمُ الدولة ما زال يرفرفُ فوق السطوح.
في غرفة العمليات الكبرى في المستشفى الجمهوري
خدّرني الطبيب المُناوب وخاط جروح رأسي
ـ وكنتُ ما زلتُ أنزفُ بين يديه ـ
تناهى إليَّ فجأةً صوتُ شقيقتي باكيةً تصرخُ
أين أخي ؟؟ قتله الفاشيست ؟؟
رجوت طبيبي أنْ يفتحَ الباب كي تراني جريحاً
لا قتيلاً
دخلت فرأتني مُمَدداً غارقاً في بِركةٍ من دم
لطمتْ وجهها وناحت وبكتْ
طلبتُ منها الرجوع إلى البيت
قلتُ لها لم أُقتّل بعد ، لكنهم سيقتلونني فيما بعد !!
في منتصف الليل…
جاء حاكم التحقيق السيد ( فاروق محمد السامي )
زميل الدراسة الثانوية
أيقظني من نومي وكنتُ ما زلتُ تحت تأثير المُخدِّر
قرأ عليَّ أمراً لم أفهم فحواه ثم قال : إنكَ موقوف !!
أمر شرطياً جاء معه أنْ يضع القيود في معصمي
وأن يأخذني مقيّداً إلى حُجرة التوقيف !!
ـ حتى في المستشفيات حُجرٌ للموقوفين ـ
ربطوني بالسلاسل إلى قوائم سرير الحديد
أطفأوا النور ومضوا .
سمعتُ عند الفجر صوتَ المرحومة والدتي
تحاول إقناعَ الشُرَطي حارس الموقف بالدخول لرؤيتي
وبعد شِجارٍ عنيف
دخلتْ مع شقيقتي تحملان لي فطوراً وشاياً
أمسكت والدتي بالسلاسل ثم قالت :
(( أَمُصابٌ ويخشونك ؟؟ ))
(( مزنجليك يمّه بالحديد ))
فأنشدتها للجواهري :
سلامٌ على مٌثقَلٍ بالقيودِ
ويشمخُ كالقائدِ الظافرِ
كأنَّ القيودَ على معصميهِ
مفاتيحُ مستقبلٍ زاهرِ
شَفيتْ جروحُ الرأسِ والصدر
فإستأنفتُ التدريسَ في المدرسة المتوسطة
على ساحل نهر الفرات
أُدرِّسُ الكيمياء وعلم الأحياء وسحرَ بابلَ
وشرائعَ حمورابي والمسيح ومحمد وماركس
قام طالبٌ ضئيل الحجم وإقتربَ منّي ثم قال :
هذه ساعتكَ أُستاذ
ساعتي !! أين وجدتها يا صباح مهدي السعيد ؟؟
أجهشَ صباح مهدي السعيد بالبكاء
أعدتُ عليهِ سؤالي : أين وجدتها ؟؟
قال بين الدموع والنشيج :
كنتُ أُراقبُ ما دار بينك وبين عناصر العصابة السوداء
في المقهى ، قريباً من مكتبة أبي
رأيتكَ جريحاً تنزفُ بغزارةٍ
وكنتُ أبكي أراكَ وحيداً ولا مَن يُدافعُ عنك
{{ تذكّرتُ الحُسينَ في كربلاء }}
إلتقطتُ ما وقعَ منك
فإذا هي ساعتكَ التي تضبطُ بها حصصنا المدرسية .
شكرتهُ . واصلَ البكاءَ والنحيبَ حتى كدتُ أنْ أبكي معه
طلبتُ منه مغادرة حجرة الدرس ليغسلَ وجهه
رفضَ…
وضعَ رأسهُ على ذراعهِ وظلَّ ينتحب بصوتٍ عالٍ.
من خلال الدم الذي سال منّي غزيراً
وما تبعَ ذلك من محاكمات وتوقيفات ومحاكم
رأيتُ أنَّ الدولةَ وكلَّ البلاد آلتْ إلى أيدي
<< الجبهة القومية >> التي خططتْ لقتلي
رمزاً لحرية التنظيم النقابي في مسقط رأسي :
جبهة العهد الملكي والدين وحزب البعث والقوميين والوحدة
نوري السعيد + الحكيم + عفلق + ناصر
((( علامَ وكيف يجتمع هذا الخليط الغريب ))) ؟؟!!
……….. ؟!
أما الزعيمُ الأوحد ….
فكان وحيداً يحصِّنُ عرينه في وزارة الدفاع
[[ هل كان حقّاً فوق الميول والإتجاهات ؟؟ ]]
كان العراق… كل العراق في وادٍ
وكان الزعيم الأوحد
وحيداً …. في وادٍ آخر .
8 شباط 1963
وظلَّ العراقُ ينزف ….يتوقّع… لكأنما ينتظر
ينتظرُ حلولَ كارثة اليوم الثامن من شهر شباط 1963
ليرى حريته ومصيره يتوقفان على معركة واحدةٍ فقط
تدور حول وفي قلعة الأسد الحصينة
وليسمع أنَّ الزعيمَ الأوحدَ يستسلم للخصوم
ولا يموتُ كما أُستشهِدَ عبد الكريم الجدّة ووصفي طاهر
ولا ينتحر كما فعل قادةٌ قبله خسروا معاركهم
وإنه يُساوم من أجل إنقاذ رأسه
ثم يؤخذُ في مدرّعة عسكرية أسيراً حاسرَ الرأس
ليُعدَمَ في مبنى الإذاعة والتلفزيون في بغداد
ويراهُ العالمُ قتيلاً وسطَ بركةٍ من دم
محاطاً بأجسادِ ثلاثةِ ضبّاطٍ قتلى
كانوا آخرَ من تبقّى معه في معركة وزارة الدفاع
وظلّوا معه حتّى لَحَظات الحياة الأخيرة :
طه الشيخ أحمد وفاضل عبّاس المهداوي
والملازم الشاب كنعان خليل.
البيان العسكري رقم 13
حرسٌ قوميٌّ أسود
دم…دم… دم… دم … دم…. دم….
جسد الزعيم يطفو
على سطح نهر ديالى
ثم يغوصُ عميقاً في قاع النهر
ويغرقُ العراق بالدمِ والسواد
ويظلُّ غارقاً ….
حتى اليوم !!