المتنبي وبشّار
د. عدنان الظاهر
نعم… المتنبي يتكلّم.
صباح الخير مولانا، كيف حالكم ؟ بخير، بخير والحمد لله. ألا تتفضل وتُشرِّفني على الغداء ؟ فكرة والله أراها جيدة ولكنْ، صاروخ هذا اليوم الكوني مصاب بعطب أو خلل فني. في خزانات غاز الهايدروجين الصُلب بعض الشقوق. ما رأيك في الغد ؟ لا بأس، لا بأس عليك، ستجدني معك غداً قبيل الغداء. بالمناسبة، ماذا ستقدم لضيفك من مأكولات ؟؟ ما لذَّ وطاب وكل ما تشتهي الأنفس الكريمة من ( مواجيل، مواجيل حُكّام هذا الزمان ). مُرْ ستجدْ أمامك ما قد إشتهيتَ، لكأنك في جنان الخُلد أو فيها بالفعل.
جاء الغد الموعود. دق ضيفي جرس باب شقتي فإستقبلته رادحاً راجزاً :
إذا الملكُ الجبّارُ صعّرَ خدَهُ
مشينا إليه بالقنادرِ نضرِبُهْ
ذُهِلَ صاحبي مما يرى فتساءل : خيراً، خيراً إنشاء الله ؟ ماذا جرى لك يا صاحي، من أغضبك ؟ قلْ، أسرعْ. ثم كيف سوّلت لك نفسك أن تستعير ثم تغيّر في بيت شعري مشهور قاله رجل جريء ضرير مهدداً جبّارَ عصرهِ خليفةَ المسلمين ( أبا جعفر المنصور )، كيف ؟؟ للضرورات حالات يا أبا الطيب. ثم إني لم أسرق البيت ولم أنسبه إلى نفسي بل كل ما في الأمر أجريت عليه تعديلاً أو قلْ ضمّنته كلمتين من بنات أفكاري وذلك أمر مشروع متعارف عليه في عالم الشعر والشعراء. الكثير من شعراء اليوم يضمِّنون أشعارهم بالكثير من أبياتك الشعرية دون أخذ موافقتك، أليس كذلك ؟؟ لم يجبْ صاحبي.
خلع ضيفي سترته الجديدة بفتحتين في الظهر واحدة إلى اليسار والأخرى على اليمين. طلب كأساً من الماء البارد وقال أين طعامك، هات فإني جائع. دبّرتُ أموري على عجل فلم أجدْ ما يكفي من وقت لتناول فطوري. كانت مائدة الطعام جاهزةً عامرة بما لذّ وطاب. مع أول لقمة طلب المتنبي مني أن أوضح القصد بما قلت وما حرّفتُ في بيت الشاعر الضرير ( بشار إبن بُرد ) الذي قتله الخليقة الهادي ( أو المهدي ) بتهمة الزندقة والإساءة إلى الدين الحنيف. قلتُ بل نؤجل الحديث إلى ما بعد الطعام، سيكون الحديث مع الشاي العراقي الثقيل شائقاً ممتعاً، وستروق الأنفس وتستريح الأجساد وتتفتح القرائح. قال موافق.
كنتُ أثناء الطعام غارقاً في تفكير عميق : كيف سأصوغ مشكلتي حتى يتقبلها ضيفي القادم إليَّ من كوكب المريخ الذي يحمل إسم إله الحرب مارس ؟؟ بقيتُ صامتاً، كذلك بقيَ صاحبي. كان جَوْعانَ فعلاّ. لم يتكلمْ لم يسألْ لم يلتفت يمنةً ويسرةً. تركته يستمتع بما أعدَّ له مُضيّفُه إبن تراب الكرة الأرضية. لم يكن صاحبي جائعاً حسبُ، إنما وكان شديد الظمأ. يتناول كأس الماء البارد بين كلِّ لقمة ولقمة. تركته على هواه يمارس تناول طعامه كما يشاء. توقف فجأة ورفع رأسه فوق مستوى المائدة ليريح ظهره على مسند كرسييه ثم قال : الآن الشاي أم مع الشعر على مائدة أخرى لا علاقة لها بالطعام ؟ فكرة جيدة يا أبا الطيّب. قم إغسلْ يديك وأسنانك ستجدني قبلك في غرفة الإستقبال مع أواني وأقداح ومتطلبات الشاي الأخرى. هل تريد شايك مع الحليب والسكّر أو مع العسل أو المربّى أوبعض الحلوى ( بقلاوة ) ؟؟ قال لا أفهم الشاي إلاّ ثقيلاً مع القليل من السكّر لا غير، مع شديد إحترامي لبقلاوة ( الحاج جواد الشكرجي ) في بداية شارع السعدون في بغدادَ أيام زمان، زمان الخير. مع أول رشفة طويلة قوية طلب المتنبي مني أن أستفيض في شرح ما ساءني من صروف الزمان الخؤون وما الذي دعاني إلى قول ما قلتُ من شعرٍ مُحرَّف غريب فيه إستفزاز للبعض من حكام هذا الزمان. أعدتُ قراءة البيت بتؤدة مع حركات تمثيلية ( درامية ) كيما أدخل مضمونه ومغزاه في أعصاب ضيفي وأضمن تعاطفه مع محنتي :
إذا الملكُ الجبّارُ صعّرَّ خدَّهُ
مشينا إليهِ بالقنادرِ نَضرِبُهْ
إبتسم صاحبي وكأس الشاي في يده اليمنى. كان مبسوطاً من سماع ما قرأت.
تطلّعَ فيَّ مليّاً ثم طلب مني إعادة قراءته ففعلت وكنت جِدَّ مسروراً أن أُعيد وأن أعيد وأن أُعيد دون ملل أو سأم. تناول رشفة شاي طويلة ثم قال : أظن أنَّ أصل البيت هو :
إذا الملكُ الجبّارُ صعّرَ خدَّهُ
مشينا إليهِ بالسيوفِ نُعاتِبُهْ
قلت أجل يا أبا الطيب، إنه لكذلك في الأصل. قال وما الذي دعاك إلى تحريفه ؟
قال إبن برد الأعمى هذا الشعر في جبّار عصرهِ الجعفري…أبي جعفر… ( أبي جعفر المنصور بالله ) صاحب مدينة السلام المُدوَّرة. مضى بعد هذا المنصور بالله غيرهُ وغيرُهُ من الجبابرة المنصورين بالله وغير الله حتى آخرهم الذي تعرف والذي إتخذ له بعد سقوط صنمه ، النمرود ، حفرةً تحت الأرض مُقاماً لا تصلح إلاّ للثعالب والعناكب والجرذان والمجذومين والمصابين بالجرب والأيدز. قال وما علاقة الجعفري … أبي جعفر… المنصور بالله بما قد حرّفتَ من شعر ؟؟ هل تريد شاياً آخر ؟ قال نعم، بل وأكثر من شاي، أريد ( سماور ) شاي تركي بإرتفاع تمثال النمرود الساقط في قلب بغداد مع الهيل والدارسين ( القرفة ). حاضر يا مولاي. جاء السماور النحاسي الضخم يحمل فوق رأسه ( قوري ) الشاي الُمزَعّفر والُمهيَّل والُمقَرفَل ( من القرنفل…). ما أنْ شمَّ ضيفي رائحة الشاي المُعطَّر حتى سحب نَفَساً عميقاً وأراح جسده كاملاً على مسند الأريكة الضخمة. صبَّ له كأساً جبّاراًـ لا يحلو له الشاي ولا يطيب إلاّ إذا صبّه لنفسه بيده ، ثم قال الآن سأصغي لشروحك. نعم سيدي وزعيم الهجّائين، سأشرح لك صدري وشعري الذي حرّفتُ : كتبتُ رسالةً للسيد رئيس الجمهورية ( حفظه الله ورعاه ) أطلب فيها منه إنصاف المظلومين من أمثالي وتعويضهم عما خسروا وأضاعوا من مال وعقار وحقوق وظيفية جرّاء صمودهم ومعارضتهم للطاغوتِ نمرودَ بابلَ وجنكيزخان بغداد الذي تعرف. لم يردْ، حفظه الله. كتبت رسالة مماثلة للسيد رئيس الوزراء ( حفظه الله ورعاه ) كذلك لم يردْ سيادته. قال ضيفي لعلهما مشغولين في أمور أكثر خطورة تتعلق بمصير العراق ومصائر العراقيين قاطبةً. قلت جائز، معك حق. لذلك حدثتني نفسي الأمّارةُ بالسوء أن أخاطب وزيراً كان في سالف الزمان صديقاً لي وزميلاً في التعليم الجامعي. تجاسرتُ فكتبتُ رسالةً مماثلة للسابقتين مع تهنئة بالمنصب الجديد، أرسلت الجميعَ له بالبريد الألكتروني. في الحقيقة كنتُ يائساً من أي رد يأتي أو ربما يأتيني من الصديق والزميل السابق السيد الوزير الحالي ( حفظه اللهُ ورعاه ). ما كنتُ مُنصِفاً مع نفسي في يأسي وما أنصفتُ الرجلَ والرجالُ معادن كما تعلم [ أخذَ صاحبي يهزُّ رأسه مُردِداً : ولكنْ مَعدِنَ الذهبِ الرَغامُ ]. ردَّ الوزير على رسالتي بكتاب مختصر إحتفظت به في سراديب أجهزتي المحكمة الأبواب الفولاذية لندرته وخشيتي من أنْ تفترسه فايروسات أعداء حرية الإنسان وجحافل ظلام هذه الأيام. قال صاحبي قد أنصفك الرجل ولم ينسَ عهود الصداقة وحقوق الزمالة فماذا تريد أكثر من ذلك ؟؟ عزيزي المتنبي لا تتسرعْ رجاءً. إنتظرْ ولا تقاطعني. صبَّ لنفسه كأساً عملاقاً آخرَ من الشاي الفوّاح قُرُنفلاً وهيلاً وزُعُفراناً ملأت جو الغرفة مع البخار المتصاعد. قال هيا، قلْ. يا سيدي وإبن أمّي، شكرني الرجل على مبادرتي بالكتابة له وتهنئته بمركزه الجديد ووعد بدراسة الموضوع بكل عناية ولكنْ، لعن الله هذه ( اللاكنْ ) !! وضع صاحبي كأسَ شايهِ على المنضدة بحذر شديد محسوب، كما تضع والدةٌ وليدها في مهد نومه. قال واصلْ، واصلْ حديثك وقل ما تريد أن تقول مباشرة دون لفٍّ ودوران وفذلكات زمانكم السوريالي الألكتروني الإنترنتي أحادي القطب و…إلخ. أجل، سأمتثل لتعليماتك. قال السيد الوزير (( سندرس طلبك بكل عناية ولكن حسب القوانين والأصول المرعية )). هُرِع صاحبي إلى القول : رائع، شيء جيد. جيد أن يُراعي الوزير الأصول والقوانين المرعية. هذه هي قواعد النزاهة المطلوبة من كل مسؤول في هذا اليوم. لا تتسرعْ يا أبا الطيبب تلكم قولة حق يُرادُ بها باطل. قال متعجلاً كيف ؟ أين الحق وأين الباطل ؟ إستفزني صاحبي وأحزنني فملأتُ كأساً كبيراً بالسائل الثقيل الأسود وجرعته مرّةً واحدةً دون سكّر. هل تريد درساً مختصراً في أصول وقواعد القوانين ؟ قال هيا ولكنْ تبسّطْ ولا تُعقِّد الأمور، فلقد كَبُرنا ووهن العظمُ منّا وإمتلأت الرؤوس تبنا. يا عزيزي وعزيز الجميع، يا أبا الطيب، وُضِعت القوانين لتعالج حالاتٍ وأموراً سلفت وجرى التعارف والتعاقد حولها في ظل ظروفها ومستلزماتها. قولبتها وقننتها هذه القوانين فأصبحت جامدة لا تختص إلاّ بها. أما ما عداها ولا سيّما الطارئة والمُستَجِدة منها فلا مكان لها في تلكم القوانين. القانون القديم الذي وضعه صدام حسين أو سواه في ماضي الزمن لا تجد فيه مادة تعالج مسألة شبيهة بمسألتي وكثيرين سوايَ من [ أولاد الخايبات ]. فقضيتي الجديدة لا تُحلُّ بقوانين قديمة وإنما يمكن حلها بواحدٍ من حلول يمكن إجمالها كما يلي :
- الصيرورة إلى سن قوانين جديدة لمعالجة الحالات الجديدة مثل حالتي.
- منح رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو الوزير المختص صلاحيات مرنة لمعالجة هذه الحالات.
- طرحها على المجلس الوطني لمناقشتها وإحالتها على الوزراء المختصين ومنحهم صلاحيات كاملة للبت في مثل هذه الأمور.
4 ـ أو إلحاق ما يٌسمّى ” بروتوكول ” بالقوانين القديمة لمعالجة الحالات الجديدة الطارئة التي لا مكانَ لها في قوانين الأمس.
ثم أود أنْ أُضيف ملاحظةً أخرى : هل جرى تعيين الوزراء ووكلائهم ومستشاريهم حسب القوانين التي يتمسكون بها فقط حين لا تمس مصالحهم ولا تتعارض مع ما يريدون ؟ أنا لا أريد ولا أطمح بأية وظيفة ولا أريد منافسة أحدٍ من المسؤولين. أريد تعويضاً عمّا أصابني من أضرار جرّاء وقوفي الصلب والشديد الوضوح في وجه جبروت وتعسف عُتاة بغداد وكبار مجرميهم. أريد تقاعداً مناسباً لا يتعارض مع القوانين التي يتكلمون عنها. لي خدمة جامعية وغير جامعية في العراق وخدمات أخرى في حقلي البحث والتدريس في جامعات خارج الوطن. لا توجد في قوانينهم مادة تعالج موضوعة التعويضات، نعم ولكن، إحتساب التقاعد لا يحتاج إلى قوانين جديدة. شقٌّ يتطلب إجراءً إستثنائياً وشق يتماشى مع القوانين المرعية. هل فهمتَ ؟ قال أجلْ ولكنْ، دعني أحتسي كأساً آخرَ من الشاي. لقد أصابني كلامُك بشيء من الدوار بل والصداع. هذه حلول ومقترحات معقّدة وتأخذ وقتاً طويلاً. وعليه أقترح بدل كل هذه الدوخة والعنقرة تبنّي قراراً ثورياً يحسم الموضوع بضربة واحدة وينهيه بالتي هي أحسنُ. وكيف يكون القرار الثوري هذا ومن الذي سيتخذه وما هي الجهة التي ستقوم بتنفيذه ؟ يأمر رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء وعلى الوزير المختص التنفيذ دون إبطاء. يا أبا الطيّب ، ذهب عصر الثورات والثوريين والثورجية. ثمَّ، أرجو أن تخفض صوتك حين تلفظ كلمة ثورة أو ثوري. قال متعجباً ومستنكراً لماذا ؟ لأنَّ ذلك يُغيض حكومات الولايات المتحدة الأمريكية. إنهم يكرهون هذه الكلمة لأنها تستفزهم كما يستفزُّ اللونُ الأحمر ثيرانَ المصارعة الإسبانية، هل فهمتَ ؟؟ نَفَقتْ أسواق الثورة وأفلست دكاكينها. دين الناس اليوم العولمة والسجود أمام دولار القطب الأوحد. هل فهمتَ عزيزي أبا الطيّب ؟؟ نعم، هزَّ صاحبي رأسه بأسىً وحزن بالغ غيَّر قًسَمات وجهه فتغضّن جبينه وإزدادت صلعة رأسه لمعاناً. مضت فترة صمت ثقيل خيّم علينا رغم سخونة الشاي وتصاعد المزيد من الأبخرة المشبّعة بالعطر الفاغم والنفح المركَّز. أغمض صاحبي عينيه المتعبتين فأوحى لي إنه بصدد أن ينام قليلاً. تركته على سجيته ملتزماً الصمت والحذر في حركاتي. جمّدتُ نفسي كي لا أُزعجَ ضيفي السماوي ساكن المُريّخ. كنتُ على خطأ. سرعان ما صحا صاحبي وعلامات الرضا تطفح على محياه. سألني لماذا لُذتُ بالصمت ؟ كنتُ إخالك قد إستسلمتَ لسلطان الكرى. قال كلاّ، لم أنمْ، ليست بي حاجة للنوم. كنتُ أفكِّر فيما قد حرّفتَ من بعض شعر إبن بُرد. هلاّ أعدتَ قراءة ذلك البيت ثم بيّنتَ لي السبب الذي ألجأك لهذا التغيير ؟
إذا المَلِكُ الجبّارُ صعّرَ خدّه
مَشينا إليهِ بالقنادرِ نَضرِبُهْ
سمعت ضيفي يقول : لا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله !! أين سيوف العرب يا أخي ؟؟
صدِئت سيوفكم يا أبا الطيّب. أكلها الجَرَبُ والصدأ. كانت سيوفكم تُطيح برؤوس تستحق الإطاحة. اليوم كما ترى لا نجد رأساً يستحق شرف هذه الإطاحة. أمامنا رؤوس مُخّدَّرة نريد إيقاظها من غفلتها وخَدَرها. إيقاظ مثل هذه الرؤوس لا يحتاج إلى سيوف يا أبا الطيّب، يمكن إيقاظها بالأحذية يا عزيزي. أجل، بأحذية جلود البقر الأسترالي المدبوغة جيداً والمعالَجة جيداً بالزرنيخ وماء العفص. لسنا بحاجة إلى أسيافك ورماحك التي كنتَ تهددُ بها خصومك أمام سيف الدولة الحمداني. حين أنشدتَ بيتك الشعري هذا (( الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني // والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ )) وضع سيف الدولة كفيه حول رقبته. خشيّ على نفسه لكأنما كان هو المقصود بهذا البيت لا خصومه من الشعراء والمتشاعرين وزعانف الشعر. كان صاحبي شديد الإصغاء لكأنما يسمع كلاماً جديداً عليه ومنطقاً لم يألفه من قبلُ. كان يواصل هزَّ رأسه هزاتٍ خفيفة ثم شرع يردد البيتَ الذي حرّفتُ لا النص الذي وضعه شاعره بشّار إبن برد، الضرير الذي تحدّى سلطان زمانه فجاهر بما في قلبه من أهواء وإجتهادات وخواطر. هل تريد المزيد من الشاي ؟ ما زال التيار الكهربائي متصلاً بالسماوَر. علّق صاحبي قائلاً : كيف تقولون إذن ليس في بغداد كهرباء !! يا عزيز روحي ويا تاج رأسي، لسنا في بغداد لسنا في بغداد. نحن الآن في ألمانيا، هل تفهم الفرق بين العراق والمانيا ؟؟ قال لا أجدُ فرقاً. العراق وألمانيا رقعتان صغيرتان على سطح الكرة الأرضية التي تدور ذليلةً تابِعةً كالثور ليلاً ونهاراً تحتنا. وجدتُ نفسي مُضطَرّاً أن أُذكِّره بأحد أبياته الشعرية فقمتُ أتقمّصُ دور ممثل مسرحي وأنشدتُ بصوتٍ عالٍ :
وما إنتفاعُ أخي الدنيا بناظرهِ
إذا استوتْ عندَهُ الأنوارُ والظُلَمُ
قال آن أوان رحيلي وأوبتي إلى وطني الذي لا ينقطع عنه النور أبداً، لا صيفاً ولا شتاءً. كوكبنا ( مارس ) يواجه أُمّه الشمس. لا نفهم ولا نعرف هناك ما معنى الليل. وعلى سطحه تتحول الطاقة الشمسية مباشرةً إلى تيار كهربائي لتشغيل أجهزة التلفزيون والطبخ والكومبيوترات لا أكثر. سياراتنا تتحرك بطاقة الخلايا الشمسية. لا تلوّث على سطح المريخ. ضحكتُ قبل أن يغيب عني قائلاً : صدِّروا إذن بعض طاقتكم الكهربائية وشيئاً من أنواركم إلى العراق.
غاب ضيفي كعادته دون كلمة وداع. هذه عادته. غدا شديد الحذر وقد سمع أخبار السيارات المفَخخة والأحزمة المتفجرة وعدد ما يتساقط من قتلى في مدن العراق ولاسيّما بغداد عاصمة الرشيد. غاب ضيفي لكنني أستطيع الإتصال به وقتما أشاء. لديَّ عنوانه وعنوان صفحته. ما زال الرجل يثق بي.