إبن رائق الموصلي
د. عدنان الظاهر
مُقدِمة /
ليس في ما بين أيدينا من مصادر ذكرٌ لتأريخ ولادة أبي بكرٍ محمد بن رائق الموصلي. أما مكان ولادته فواضح يدل عليه لقبه ( المَوْصِلي ). فالرجلُ إذن من مدينة الموصل العراقية ربما ولادةً أو إنتماءً.
إذا كان زمنُ ولادة الرجل مجهولا فإنَّ زمن وفاته معروف. قُتِلَ إبن رائق عام 330 الهجري غيلةً فقد إغتاله أميرُ ولاية الموصل ناصر الدولة الحسن بن عبد الله الحمداني شقيق سيف الدولة علي بن عبد الله الحمداني أمير حلب. لقد تخلّصَ ناصر الدولة منه لأنه كان منافسه الوحيد على لقب ( أمير العراق ).
كان إبن رائق قبل مقتله يحمل لقب ( أمير الأُمراء ) الذي يوازي لقبَ
( رئيس أركان الجيش ) في وقتنا الحاضر.
لم يذكرْ التأريخ إبن رائق إلاّ زمن الخليفة العباسي الراضي ( 322 – 329 هجرية ) ثم الخليفة المُتقي لله ( 329 – 333 هجرية ) الذي بويع بعد الراضي مباشرةً.
بالحساب البسيط نعرف أنَّ الأدوار الحاسمة التي لعبها هذا القائد العسكري إمتدتْ فترة ثماني سنوات لا أكثر ( 322 – 330 )، وربما أقل من ذلك بقليل.
ولكي نعرف صعوبة الفترة الزمنية التي عاصرها وصعوبة الأدوار التي قام بها هذا الرجل يكفي أن نعرفَ أنَّ الدولة العباسية كانت تعصف بها الفتن والإضطرابات وتمزقها الحروب الداخلية والخارجية.
كانت الحروب التي واجهها الخلفاء العباسيون ومركز الخلافة الضعيف أصلا في بغداد عجيبة غريبة ولو أن التأريخ لا يعرف العجائب والغرائب.
أولا – يقودُ مرداويج جيوشه إلى الرقة لمحاربة إبن رائق قائد جيوش الخلافة.
ثانياً – ويزحفُ بجكم التركي إلى محمد بن رائق في واسط ويغلبُ عليه فيضطر هذا إلى الإختفاء.
ثالثاً – وتقوم حروب في بعض مناطق ومدن بلاد الشام بين بغداد وإخشيد مصر.
رابعاً – وتشتعلُ حروب أخرى بين بغداد وآل حمدان أُمراء الموصل وحلب.
خامساً – وحروب متواصلة طاحنة بين بغداد والبريديين في واسط والبصرة ( سأعودُ لاحقا للتعريف بهؤلاء البريديين ).
سادساً – وماذا عن خلفاء بغداد خلال الفترة موضوعة البحث، الراضي / المُتقي ؟؟
كان بجكم التركي هو سيدُ بغداد والماسك بزمام الخليفة الراضي بالله.
وبعد مقتل بجكم هذا أصبح توزون التركي حاكمَ بغداد الفعلي ومُسيّر أمور الخليفة المُتقي لله.
وتوزون التركي هذا خلع خليفته المتقي وسمل عينيه ( كُحِلَ بقضيب محميٍّ بالنار ) ثم نصّبَ بدله المستكفي خليفةً على المسلمين في شهر صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة هجرية ( 333 ).
نهاية المستكفي دشّنَت حقبة تأريخية جديدة في بغداد. فلقد سملَ عينيه وخلعه مُعزّ الدولة البويهي ونصّبَ المطيع لله خليفةً.
سلطان الديلم من آل بويه في بغداد حلَّ محل سلطان الترك. لعبة تصنع التأريخ، بل وتسخّره وتسخرُ منه : ديلم / تُرك – تُرك / ديلم.
صورة جدَّ قاتمة وقد لا يصدقها العقل البشري. لكأنما كانت الخلفية والأرضية التي مَهَدتْ لوقوع الكارثة التي حلّت ببغداد على يد هولاكو المغولي عام 656 الهجري.
1 – الشاعر المتنبي وإبن رائق
هل مدح الشعراءُ القائد العسكري إبن رائق ؟
ليس لديّ جواب عن هذا السؤال سوى أن الشاعر أبا الطيّب المتنبي قد ذكر إسمَ هذا الرجل عَرَضاً في واحدةٍ من قصائده الثماني والعشرين ( طويلة وقصيرة ) التي نظمها لأمير طَبَرية أبي الحُسين بَدْر بن عمّار بن إسماعيل الأَسَدي الطبرستاني.
قال المتنبي (1) قصيدة (( ومنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ )) التي مدح فيها بدراً بن عمّار على الأرجح في آواخر عام 329 أو قُبيل مقتل إبن رائق عام 330 الهجري.
في ربيع الأول عام 329 بويع المتقي لله خليفةً على المسلمين و (( غلبَ على أمره أبو الوفاء توزون التركي )) (2). لذا فقد ذكر الشاعر أبو الطيّب المتنبي في هذه القصيدة إسم الخليفة الجديد المتقي لله ولكن بعد ذكره لأمير قادته إبن رائق.
غير المتقي لم يذكرْ المتنبي في شعره أيا من خلفاء بني العباس الستة الذين عاصرهم وهم حسب سياق تسلسل خلافتهم الزمني / المقتدر والقاهر والراضي والمتقي والمستكفي والمُطيع.
قال المتنبي في القصيدة موضوعة البحث وفي معرض مديحه لبدر بن عمّار الأسدي :
حسامٌ لابنِ رائقٍ المُرجّى
حسامُ المُتقّي أيامَ صالا
وكما يشير هذا البيت، وضع الشاعرُ إبن رائق فوق إبن عمّار، فهذا حسامٌ لذاك. لكنه وكما هو متوقع وضع إبن رائق في منزلة أدنى من منزلة الخليفة المتقي لله : إنه حسام المتقي.
مطلع هذه القصيدة أجمل ما فيها :
بقائي شاءَ ليس همُ إرتحالا
وحُسنَ الصبرِ زمّوا لا الجِمالا
لعل من المناسب أن أذكرَ أنَّ المتنبي قد تطرق إلى ذكر إبن رائق في قصيدتين أُخريين ليس شعرا ولكن ذكرا عابرا في مقدمة هاتين القصيدتين. ففي مقدمة قصيدة (( وحيدُ بني آدم )) قال المتنبي : (( يمدح أبا الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني وهو يومئذٍ يتولى حرب طبرية من قبل أبي بكرٍ محمد بن رائق سنة 328 هجرية 939 ميلادية )).
يحسن بي أن ألفت النظر أنه في عام 328 كان ما زال الراضي خليفةً في بغداد وليس المتقي الذي بويع (( لعشرٍ خلون من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة )). أردتُ أن أقولَ أن إبن رائق قد خدم كلاّ من الراضي والمتقي قائدا أعلى لجيوش بغداد. وكان بدر بن عمّار تحت إمرته.
وفي مقدمة قصيدة قصيرة من أربعة أبيات كتب المتنبي : (( وردَ كتاب من إبن رائق على بدر بإضافة الساحل إلى عمله فقال أبو الطّيب )) :
تُهنّا بصُورٍ أمْ نُهنَئها بكا
وقلَّ الذي صُورٌ وأنتَ له لكا
كان إبن عمار أميرا على طبرية فأضاف إبنُ رائقٍ إليه إمرة الساحل. وهنا ذكر المتنبي إسم مدينة صُور الساحلية التي تقع اليوم جنوب لبنان.
يتبادر إلى الذهن سؤال وجيه : لِمّ لمْ يمدح المتنبي قائدا عسكريا معروفا وكان فوق رجال حرب زمانه سلطانا وقدرةً ؟ ألأنَّ المتنبي ما كان يومها ميّالاً للحروب وما كان أصلا يود التقرب من قادة الحرب ؟ أم لأن إبن رائق الموصلي ما كان ذا مالٍ جمٍّ وسعة يدٍ وكَرَم ؟ أم لأن إبن رائق هذا ما كان يعرف المتنبي ولم تنعقد بينهما أيةُ آواصر للمودّة والصداقة ؟
من غير الود والصداقة الحميمة والعطاء السخي أو المناسب، فضلا عن شهامة وشجاعة الممدوح، ما كان الشاعر ليمدح أحداً.
2 – المسعودي وإبن رائق
لم يذكر المسعودي في كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر إبن رائق إلاّ في زمن الخليفة الراضي ( 322 – 329 هجرية ) والخليفة المتقي لله ( 329 – 333 هجرية ). كما أنه لم يتوسع في تفصيل ذكر أخبار هذا الرجل مكتفيا بالقول إنَّ تفصيلات كثيرة حوله قد وردتْ في كتابيه ( الكتاب الأوسط ) وكتاب ( أخبار الزمان ) اللذين لم يصلا إلينا مع شديد الأسف.
بالحساب البسيط يتضحُ لنا أنَّ إبنَ رائق ظهر على مسرح السياسة والحروب شخصيةً مؤثّرة وقائداً معروفاً في فترة لا تتجاوز الثمانية أعوام. أي الفترة الواقعة ما بين عام 322 الهجري حتى مقتله ( إبن رائق ) في زمن الخليفة المتقي عام 330 الهجري.
لم يستطعْ بجكم وتوزون التُركيان ولا كورتَكين الديلمي من القضاء على هذا القائد العسكري العراقي لكن، للأسف الشديد، قتله غِيلةً أميرُ الموصل ناصر الدولة الحسن بن عبد الله الحمداني، شقيق علي بن عبد الله سيف الدولة الحمداني.
3 – حروب إبن رائق
3 – 1 // في زمن الخليفة الراضي بالله العباسي ( 322 – 329 للهجرة )
( مرداويج، أي مُعلِّق الرجال )
يُسهب المسعودي (3) في سرد وقائع الحروب والفتن التي وقعت في زمن خلافة الخليفة المقتدر العباسي ( 295 – 320 ) حتى صعود نجم رجل يقال له مرداويج.
كان مرداويج هذا صاحب جيش ومن أصحاب رجل من الجبل يدعى أسفار إبن شيرويه. وقصة أسفار إبن شيرويه هذا تستحق الذكر. فلقد إختاره عام 317 الهجري صاحب خراسان للخليفة المقتدر المدعو نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد قائداً لقتال جيوش الحسن بن القاسم الحسني الملقب بالداعي الحسني. كان هذا الداعي الحسني على رأس جيش من الجبل والديلم مُنشقاً على المقتدر خليفة بغداد. كانت الحرب أولا على بلاد طبرستان ثم إنتقلت إلى الري. لقد إنتصر أسفار إبن شيرويه في نهاية الأمر وإنهزم الداعي الحسني بين يديه. وإستولى أسفار على بلاد طبرستان والري وجرجان وقزوين وزنجان وأبهر وقُم وهمذان والكرخ ( هكذا وردت ) ودعا لصاحب خراسان نصر بن أحمد بن إسماعيل وهو أميرها للخليفة المقتدر.
ما الذي حدث بعد ذلك ؟ يقول المسعودي (3) :
(( … وعَظُمت جيوشهُ وكَثُرت عدّته فتجبر وطغى وكان لا يدين بملّة الإسلام وعصى صاحب خراسان وخالف عليه وأراد أن يعقدَ التاجَ على رأسه وينصب بالري سريراً من ذهب للمُلْك… فسيّرَ المقتدرُ هارون بن غريب في الحال إلى قزوين فكانت له معه حروب فإنكشف هارون وقُتِل من أصحابه خلقٌ كثير … )).
وتدور الدوائر على أسفار إبن شيرويه فيقتله صاحبه السابق مرداويج.
ثم تدور عجلة التأريخ فيعلو شأن مرداويج (( وتكثر جيوشه ويشتد أمره ويُفرّقُ قواده في بلاد قم وكرخ إبن أبي دُلَف والبرج وهمذان وأبهر وزنجان )) ويشق بدوره عصا الطاعة على خليفة بغداد ( السلطان ). وكان في همذان جيش للسلطان ( الخليفة ) يقوده أبو عبد الله محمد بن خَلَف الدينوري. وعاون أهلُ همذان أصحاب السلطان فقُتِل من رجال مرداويج خلق كثير من الديلم والجبل. ثم ينتقم من أهل همذان شر إنتقام جرّاء قتلهم لإبن أخته الذي كان بدوره يقود جيشاً. وينتقل إلى مدينة الدينور فيستبيحها ويقتل حتى المستورين والصوفية والزهّاد ويبيح الأموال والدماء والفروج.
مرداويج وإبن رائق
ومن أصبهان يتجه مرداويج إلى محمد بن رائق وهو بالرقة من بلاد ديار مُضر.
حين قصده مرداويج، كان إبن رائق على ما يبدو متأهبا لمحاربة الإخشيد محمد إبن طَغَج تنفيذا لآوامر خليفة بغداد. فلقد كانت الحرب لا تكاد تضع أوزارها حتى تستعر ثانيةً بين بغداد وإخشيد مصر. وكانت ساحاتها بعض مدن ومناطق بلاد الشام.
يقول المسعودي (4) إن أحد قادة إبن رائق المدعو رافع القرمطي إحتال على مرداويج وتمكن من الإستفراد به وعزله عن عسكره ثم ألقاهُ في ماء نهر الفرات مُقيَّداً (كيف لم يمت ؟ ).
ويعيد مرداويج سيرةَ سيده الذي ذبحه أسفار إبن شيرويه (( فطغى وتكبّرَ وعَظُمت جيوشه وأمواله وعساكره وضرب سريراً من الذهب رُصِّع بالجواهر وعُمِلت له بدلة وتاج من الذهب وجمع في ذلك أنواع الجواهر)). ثم يلقى ذات مصير سيده الذي خان، فيقتله سنة ثلاث وعشرين وثلثمائة هجرية ( 323 ) في زمن الراضي رجلٌ تركيُّ الأصل من خاصة رجاله يُسمى بجكم يساعده تركيٌّ آخر يُسمّى توزون. وسيلعبُ هذان الرجلان فيما بعد أدواراً خطيرة في تأريخ دولة بني العباس في بغداد من تنصيب وخلع وقتل بعض الخلفاء.
بجكم وإبن رائق الموصلي
يقول المسعودي (5) :
(( … وسار بجكم التركي فيمن معه من الأتراك وقد جمعوا أنفسهم إلى أنْ يخلصوا من الديلم. وسار إلى بلاد الدينور فجبى منها الخراج وأخذ كثيراً من الأموال. وسارَ إلى النهروان على أقل من يومين من مدينة السلام فراسل الراضي وكان الغالب على أمره الساجية وعدّةٌ من الغلمان الحجرية فأبوا أنْ يتركوه يصل الحضرة خوفاً أنْ يغلبَ على الدولة. فمضى بجكم لما مُنِعَ من الحضرة إلى واسط إلى محمد بن رائق وكان مُقيما بها فأدناه وحيّاهُ …، وقويَ أمرُ بجكم وإصطنع الرجال وضعف أمرُ إبن رائق … )).
يظهرُ أن العام 323 الهجري كان عاماً حاسماً بالنسبة لمحمد بن رائق. ففيه يصمد أمام رجلين قويين خطرين هما مرداويج الديلمي وبجكم التركي.
يذكر المسعودي (5) أنَّ إبن رائق إختفى بعد أن ضَعُفَ أمرهُ أمام بجكم التركي. وإذ قد خلا الجو لهذا ينجح في الوصول إلى حضرة الخليفة الراضي بالله ثم يرافقه في خروجه إلى ديار بني حمدان وديار ربيعة من بلاد الموصل لقتال الحسن بن عبد الله ناصر الدولة الحمداني أمير الموصل.
ما سبب وجود محمد بن رائق في واسط ؟؟ ألقتال البريديين الذين ثاروا في البصرة وإمتدتْ ثورتهم حتى واسط ومن ثم إشتدَّ أمرهم مع بداية خلافة المتقي ؟؟؟
يبدو أن إختفاء إبن رائق من أمام بجكم التركي كان أمرَ خطةٍ مدروسة جيداً، وهو الذي يُجيد وضع خطط الحرب كرّاً وفرّاً، وهو القائد الشجاع والمتمرس وذو العقلية العسكرية ( الستراتيجية ) بلغة زماننا. فما أن عرف بخروج الخليفة وبجكم من بغداد متجهين صوب الموصل حتى باغتَ أهلها بدخوله دخول القائد المُظّفر (( ومعاونة الغوغاء له )) فيسير إلى دار السلطان ( الخليفة الراضي ) ويقتلُ شخصا إسمه إبن بدر السيرافي. ثم يخرج من الحضرة ويتجه إلى ديار مضر يقود جيشاً من الجبل ومن أنصاره القرامطة تحت قيادة عُمارة القرمطي ورافع القرمطي الذي سبق له وأن إستدرج في فخ محكم الديلمي مرداويج ثم ألقاه مُقيّداً في نهر الفرات حين قصد هذا الرِقّة لقتال إبن رائق كما رأينا سابقاً.
لماذا يٌسيّرُ إبن رائق مثل هذا الجيش إلى ديار مُضر وينزل الرقة ثم يتجه نحو جند قنسرين والعواصم في حين كان الخليفة الراضي وبجكم التركي في بلاد الموصل القريبة منها ؟ وقائع التأريخ تقول إنَّ إبن رائق قد سعى إلى إخراج طريفاً السُكّري من جند قنسرين والعواصم ليتولى هو أمرالثغر الشامي. ليس واضحاً من الذي قام بقتل طريف السُكّري سنة 328 هجرية. هل قتله إبن رائق في حملته هذه ، أم قتله غيره في مناسبة أخرى؟ هل كان طريفٌ هذا والياً للإخشيديين على بلاد الشام ؟
معارك إبن رائق كما يُثبّتها المسعودي مع الإخشيديين تُرجّح هذا الإحتمال. يقول المسعودي عن إبن رائق (5) :
((… ومحاربته الإخشيد محمد إبن طَغَج بالعريش من بلاد مصر وإنكشافه ورجوعه إلى دمشق وما كان من قتله لأخي الإخشيد محمد إبن طغج باللجون من بلاد الأُردّن, ما كان قبل وقعة العريش بينه وبين عبد الله إبن طغج وما كان معه من القوّاد … )).
3 – 2 // في زمن الخليفة العباسي المتقي لله ( 329 – 333 للهجرة )
قُتِلَ بجكم التركي في رجب من عام 329 …ربّما خلال إضطرابات الأكراد في واسط أو من قِبَل كورتكين الديلمي الذي إستولى على جيشه.
وعلى أثر مقتل بجكم التركي ينحدر إبن رائق من بلاد الشام ويحاربُ كورتكين في عكبرا، ثم يُخاتله ويدخل الحضرة وتقع بينهما معركة بالحضرة ينهزم كورتكين فيها فيستولي إبن رائق على الأمر. ثم إنَّ البريديين يدخلون الحضرة فيُضطَرُ الخليفةُ المتقي إلى الخروج مع إبن رائق منها.
البريديون
من هم البريديون وما أصل تسميتهم بالبريديين ؟؟
يقول ” المُنجِد في الأعلام واللغة ” (6) :
(( البريدي : إسم لثلاثة إخوة كان أبوهم صاحب البريد في البصرة. لعبوا دورا خطيراً على أيام المُقتَدِر وخُلفائه ( أي الخلفاء الذين جاءوا
بعده ). حاربهم إبن رائق ” أمير الأمراء ” دون جدوى. حاربوا مُعِزّ الدولة البويهي فطردهم من البصرة. أكبرهم أبو عبد الله أحمد ( توفي في 333 هجرية – 945 م ) وكان عاملا على الأهواز فجمع ثروةً طائلة في وزارة إبن مُقلة. إغتالَ أخاه أبا يوسف يعقوب سنة 943 م. أما الأخ الثالث أبو الحسين فقد أُعدِمَ في بغداد سنة 945 م )).
فهل هناك من صلة بين هؤلاء البريديين الثلاثة وأحد وزراء الخليفة الراضي بالله المُسمّى ” أبو عبد الرحمن بن محمد البريدي ” (7) ؟؟
ثم يذكر المسعودي (8) في معرض من قال في شعر القصائد المقصورة : ((… منهم أبو القاسم علي بن محمد بن داود بن فهم التنوخي الإنطاكي، وهو في وقتنا هذا – وهو سنة 332 هجرية – بالبصرة في جملة البريديين …)).
لقد إستمرت ثورات وعصيانات البريديين قرابة الأربعين عاماً وتمردوا وشقَّوا عصا الطاعة على ستة من خلفاء بني العباس وهم المقتدر والقاهر والراضي والمتقي والمستكفي ثم المطيع لله. بدأوا أول عصيانهم في زمن الخليفة المُقتدر ( 295 – 320 هجرية ) وإستمرت حروبهم مع جيوش الخلافة حتى أيام الخليفة المُطيع لله ( 334 – 363 هجرية ) تشبُّ حيناً وتخفتُ أحيانا.
فما سبب هذه الثورات وإلى أي أمر كانوا يطمحون وهل كان لديهم مشروع واضح وبرنامج يتحركون في ضوئه ؟؟ وكيف إستطاعوا أن يجمعوا حولهم جموعا غفيرةً من الناس مكّنـتهم من السيطرة على البصرة ومن بسط نفوذهم حتى واسط بل ودخولهم الحضرة في بغداد نفسها، الأمر الذي أدى إلى خروج الخليفة المتقي عنها ومعه قائده إبن رائق ؟؟ لم أجدْ أجوبةً على هذه الأسئلة فيما لديَّ من مصادر محدودة.
فهل كانوا قرامطة أو كانوا مع القرامطة ؟؟.
لقد ذكر المسعودي (9) خبر دخول (صاحب البحرين ) البصرة في أول يوم من المحرّم سنة 301 هجرية في خلافة المقتدر. فهل كانوا يُنسِّقون مع صاحب البحرين القرمطي أو لا علاقة لهم به ؟؟ غير أنَّ صاحب مروج الذهب (2) يقول إنَّ جيش السلطان ( الخليفة المتقي ) الذي زحف لقتال البريديين في البصرة كان يضمُّ نفراً من القرامطة. القرامطة، أو نفرٌ منهم، إذن كانوا يقاتلون البريديين.
هل كانوا من أصحاب الداعي الحسني الذي إنشق على مركز الخلافة وإستولى على طبرستان ردحاً من الزمن قبل مصرعه هناك ؟؟
سأنقلُ حرفياً ما قال المسعودي (2) حول أمر البريديين زمن الخليفة المتقي لله :
(( وإشتدَّ أمرُ البريديين بالبصرة ومنعوا السفن أنْ تصعد وعظُمَ جيشهم وكثُرَتْ رجالهم وصار لهم جيشان : جيش في الماء … وجيش في البر عظيم. وإصطنعوا الرجال وبذلوا الرغائب فإنضاف إليهم حجرية السلطان وغلمانه. وسار جيشُ السلطان الأتراك والديلم والجبل ونفرٌ من القرامطة وكلُ ذلك مع توزون… فإنحدرَ توزون إلى واسط لحرب البريديين وكانوا ملكوا واسط وتغلبوا عليها، فكانت بينهم سجالا والمتقي لله لا أمرٌ له ولا نهي )).
توزون التركي يقاتل البريديين في واسط والمتقي خليفة بغداد لا حول له ولا قوة فيطلب النجدة من آل حمدان ناصر الدولة وأخيه سيف الدولة اللذين دخلا بغداد بعد مقتل إبن رائق ( سنة 330 هجرية ) وإستوليا على المُلك ثم قاتلا البريديين.
يخرج المتقي إلى الموصل ( لبني حمدان ) فيترك توزون أمر محاربة البريديين في واسط ويعود إلى بغداد ومنها إلى بني حمدان في الموصل. ثم تقع الواقعة بين توزون وبين جيش بني حمدان في عكبرا وتكون الحرب عليهم. (( فرجع – توزون – إلى بغداد ثم أجمعوا – بنو حمدان – له ورجعوا إليه فتركهم حتى قربوا إلى بغداد فخرج عليهم فلقيهم فهزمهم بعد مواقعات كانت بينهم. وسار وراءهم حتى دخل الموصل وخرج منها إلى مدينة بَلَد فصالحوه على مال حملوه إليه فرجع إلى بغداد وهو مستظهرٌ بمن معه من الأتراك والجبل والديلم وكمال العُدّة والكراع )).
واضح من هذا الكلام أن توزون التركي كان هو الآمر الناهي في بغداد وما كان الخليفة المتقي إلاّ دُمية صغيرة بين يديه. وبعد أن أزاح بالموت بنو حمدان إبن رائق أصبح توزون التركي منافسهم الأكبر في السيطرة على كلٍ من بغداد وخليفتها الضعيف المغلوب على أمره فكانت الحروب سجالا بينهم.
لم ينسَ توزونُ التركيُّ طلبَ الخليفةِ حمايةَ بني حمدان له ومكوثه بين ظهرانيهم، فدبر له مكيدة لا أخلاقية كبيرة وكال له الوعود والعهود وشهادة الشهود أن لا يمسه بسوء إنْ هو فارق بني حمدان وقفل إلى بغداد راجعاً.
حذّره بنو حمدان ونصحوه أن لا يصدق وعود وعهود توزون وأنه سيفتك به لكن الخليفة أبى أن يأخذ بنصيحتهم وصدّق كلام توزون (( فإنحدر المتقي في الفرات فتلقاه أبو جعفر بن شيرزاد كاتب توزون بأحسن لقاء وأقام الأتراك له، ومضى في إنحداره حتى دخل النهر المعروف بنهر عيسى، وسار إلى الضيعة المعروفة بالسندية على شاطيء هذا النهر فتلقاه توزون هنالك وترجّلَ له ومشى بين يديه… حتى وافى إلى المضرب الذي كان ضربه له على الشط من نهر عيسى وذلك على شوط من مدينة السلام فأقام هناك. وأنفذ – توزون – رُسُلاً إلى دار طاهر ليُحضِرَ المستكفي، فلما حصل المستكفي في المضرب قبض على المتقي ونهب جميع ما كان معه… وأُحضِر المستكفي فويع له وكُحِّلَ المتقي فصاح وصاح النساء والخدمُ لصياحه…)).
يتركُ توزون الحرب مع البريديين في واسط وينصرفُ للحرب مع بني حمدان في الموصل، مسقط رأس إبن رائق الموصلي.
إذا كان بنو حمدان خصوماً لإبن رائق ومنافسيه على لقب ( أمير العراق ) فتخلصوا منه إغتيالا، فكيف تُرى كانت علاقة إبن رائق الموصلي العراقي بتوزون التركي ؟؟
سجلُّ إبن رائق السياسي والعسكري لم يعرف إلا الولاء المطلق لخلفاء بغداد الذين خدمهم قائداً عسكريا مقداماً : الراضي والمتقي. ثمان سنوات من التفاني في خدمة بغداد ولا سيما في حروبه مع جيوش الإخشيديين سواء على أرض الشام أو في عريش مصر.
4 – طه حسين وإبن رائق
ذكر طه حسين إبنَ رائق الموصلي في كتابه (( من تأريخ الأدب العربي / مع المتنبي / العصر العباسي الثاني / الجزء الثالث )) (10) سبع مراتٍ إذا لم يَخُني الحساب. ذَكرهُ ذِكرا عابراً في سياق بحثه وتقصيه لحياة وأسفار وأشعار أبي الطيّب المتنبي في فترة تقلّبه ما بين مدن بلاد الشام المختلفة مادحاً هذا أو ذاك من الرجال.
لم يتعرضْ طه حسين لأية تفصيلات تخص حياة أبي بَكْرٍ محمد بن رائق المَوْصِلي. لذلك تبقى أمورٌ كثيرة غامضة أحاطت بسيرة حياة هذا الرجل الذي ظلمه فقتله بنو حمدان وأهمله التأريخ فلم يفسح له المؤرخون المكان والذِكرالذي يستحق.
جاء ذكرُ محمدٍ بن رائق في كتاب طه حسين على الصفحات 65، 111، 115، 130، 138، 141، وأخيراً على الصفحة 173.
فعلى سبيل المثال قال طه حسين على الصفحة 111 وقد بلغ المتنبي الخامسةَ والعشرين من العمر، أي في عام 328 الهجري ما يلي :
(( … في هذا الوقت إضطرب الأمرُ بين العباسيين والإخشيديين. وأقبل إبنُ رائق على قسمٍ عظيمٍ من سوريا الجنوبية. وجعل إبنُ رائق على حربه في طَبَريّة بدر بن عمّار الأسدي )).
وعلى الصفحة 115 جاء ذِكْرُ إبن رائق على الصورة التالية :
((… فقد يُخيّلُ إليَّ، بل أكادُ أُرجّحُ أنَّ المتنبي إتخذ هذا الرجل – يقصد هارون بن عبد العزيز الأَوراجي الكاتب الذي كان يذهب مذهب التصوّف – وسيلةً إلى بدر بن عمّار. من يدري ! لعله كان يريدُ أنْ يتخذَ بدر بن عمّار وسيلةً إلى مولاه إبن رائق )).
على الصفحة 141 قال طه حسين :
((… فهذا إبن رائق في أواسط سنة تسع وعشرين وثلاثمائة قد تركَ الشام وعاد إلى بغداد، تركها ومعه بدر بن عمّار. … على أنَّ سنة ثلاثين وثلاثمائة لا تكاد تتقدم حتى يُقتل إبن رائق، يقتله ناصر الدولة أخو سيف الدولة الحمداني. هناك ينهض الإخشيد لإسترجاع الشام…)).
هذه هي أهم المواضع التي ذكر فيها طه حسين القائدَ العسكري إبن رائق. وهي في أحسن أحوالها معلومات شحيحة متواضعة لا تُغني ولا تكفي مؤونة الباحث. والرجل معذور، لإنه كان معنياً بالدرجة الأولى بالأدب وخاصة بالمتنبي رجلا وشاعراً، أو شاعراً ثم رجلا. فإلى أين يتجه الباحث في محاولاته لتقصّي تأريخ حياة القائد العسكري العراقي إبن رائق ؟
أجل، إلى أين ؟؟ ومن الذي تخصص من الباحثين والمؤرخين في تأريخ الحقبة الزمنية القصيرة الممتدة ما بين عام 322 وعام 330 الهجريين ( زمن خلافة الراضي وأوائل سنيِّ المُتّقي ) ؟
هوامش
1- ديوان المتنبي ( الصفحات 139 – 142 ) . دار بيروت للطباعة والنشر. 1980
2- المسعودي “معادن الذهب والجوهر ” الجزء الرابع ( الصفحة 247 ). دار الأندلس. بيروت. الطبعة الرابعة 1981.
3- المصدر الثاني / الصفحة 280.
4- المصدر الثاني / الصفحة 287.
5- المصدر الثاني / الصفحات 288 – 289.
6- المُنجِد في الأعلام واللغة / الطبعة الثانية والعشرون. دار المشرق، بيروت 1975.
7- المصدر الثاني / الصفحة 231.
8- المصدر الثاني / الصفحة 229.
9- المصدر الثاني / الصفحة 217.
10- طه حسين ( تأريخ الأدب العربي ) / العصر العباسي الثاني. الجزء الثالث. دار العلم للملايين. بيروت، الطبعة الثالثة 1980.