مظفر النواب رحلة البنفسج
د. عبد الحسين شعبان
بيروت 2023
فهرست
- إهداء إلى أبو گاطع (شمران الياسري)
- مقاربة استهلالية – مظفر النواب: صورة عن قرب
- البروموثيوسية تمردًا وشعرًا
- سيرة لم تُكتب
- الشعرية والشاعرية
- المبدع والمكان
- الأصول والذاكرة
- المحكي والفصيح والاغتراب
- الفنان
- الفرادة
- صداقة مديدة
القسم الأول: مظفر النواب – من وحي الأمسية البرلينيّة
- على سبيل الاستذكار
- ابن رشد وفن الشعر
- شعراء مظفر النواب
- الحداثة والقدامة
- الغرب غربان
- العقل والزمن
- الحوار والاستبطان الداخلي
- هادي العلوي وروزا لوكسمبورغ
- منتدى بغداد وأنطولوجيا الثقافة
- الصباح والقدّاح
- التقاليد الجدانوفية
- سارتر والحق في التعبير
- المنافي
القسم الثاني – مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا
- مظفر النواب في السليمانية
- النواب والمصالحة مع النفس
- الصوت المتميّز
- الريل وحمد
- رمزية المفردة الشعبية
- الغربة والحزن
- اللقاء الأول
- اللقاء الثاني
- مشروع صداقة
- تواصل مستمر
- الجواهري والنواب في مقهى سلوفانسكي دوم
- حكاية خالد القشطيني
- إلى الأهوار
- عشق اللّهجة
- استعارات مجازية
- كاظم غيلان ومجلة الثقافة
- سالوفة أبو سرهيد
- الأعمال الكاملة
- الطفل المشاكس
- التردّد في النشر
- العبقرية والجنون
- الياس خضر وسعدون جابر
القسم الثالث – مظفّر النوّاب وجدار بريخت
- على سبيل التمهيد
- شاعر التجديد والحواس المتأهبة
- تقاسَمَ الجمهور مع أبو گاطع وقباني ودرويش
- مظفّر النّواب وفيورباخ
- مسرحة الشعر وملحمية القصيدة
- الجدار الرابع
- نؤاسياً ودعبلياً في الآن
القسم الرابع – إضمامة بقلم جاسم المطير: “الدكتور حسين شعبان: كاتب خطاف..
زفزفات الفانتازيا و ألوان زخارفها في أشعار مظفر النواب..”
- على سبيل المقدمة
- التجديد والصوت
- إشارات وسؤالات
- إضاءات
- قلم حق وعدل
- أسلوب إخراجي.. أسلوب كتابي
- الأبحاث الشعبانية
- النواب وشعبان
- خريطة العدالة
- شجرة الشعر الشعبي
القسم الخامس – مختارات من شعر مظفر النواب (الذائقة الشعرية)
بعض خصائص القصيدة النوابية
- تمهيد
- الأسلوب والصورة
أولًا – القصائد باللهجة الشعبية (اللغة المحكية)
- للريل وحمد
- يا ريحان
- ليل البنفسج
- روحي
- مو حزن لاﭽن حزين
- فوك التبرزل طعم
- حرز
- حجّام البريس
- حسن الشموس
- زفة شناشيل
ثانيًا – القصائد باللغة الفصحى
- المساورة أمام الباب الثاني
- قراءة في دفتر المطر
- رباعيات
- المنفى كالحب
- وتريات ليلية
- ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة
- أيّها القبطان
- عروس السفائن
- مظفر النواب في سطور
- الكاتب في سطور
- صور
- فهرست الأعلام
لوحة الغلاف: من أعمال الفنان الطبيب علاء بشير، وهي بعنوان “مظفر النواب – البصر والبصيرة”
إهداء
إلى أبو گاطع (شمران الياسري)[1]
مقاربة استهلالية
مظفر النواب – صورة عن قرب
البروموثيوسية” تمردًا وشعرًا
تقترب صورة مظفر النواب في الذاكرة الجمعيّة العراقية والعربية من صورة برومثيوس في الميثولوجيا الإغريقية، الذي انحاز إلى البشر حاملًا شعلة النار الإلهية من جبل الأوليمب لتكون قبسًا لهم، وهو ما أغضب منه زيوس، آلهة السماء والصاعقة الذي يمثّل قوّة الطبيعة غضبًا شديدًا.
طيلة سبعة عقود من الزمن، حمل مظفر أحلامه الطريدة وطاف بها شرقًا وغربًا بأشواقه الغامضة وحنينه المعطّر. تشارك مع المنفيين والحالمين في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر وإريتريا وظفار وطرابلس وغيرها، بل أنه كان الشريك في أي قضية عادلة. ربما وجد في تلك الشراكات تعويضًا عن حلمه العراقي المهدور بأحلام جديدة مضافة، حتى وإن كانت الأحلام مجزوءة.
لم يكن التمرّد بالنسبة لمظفر ضربًا من العبث أو اللّاجدوى، بل إن العبث ألّا يتمرّد الإنسان، فما بالك بالمبدع. وبقدر ما تشبّث بروموثيوس بالحياة، تشبّث النواب بها أيضًا متحدّيًا القدر الغاشم رافضًا المساومة والخنوع، فصنع بتمرّده وإصراره لحن حياته البروموثيوسية.
وحسب ألبير كامو يصبح الإنسان بتمرّده أقوى من المصير. والمقاومة هي لحظة وعي وفقًا لمظفر، وهذه هي التي تقود الإنسان إلى التمرّد، وهكذا فشرارة واحدة تكفي بالنسبة لمظفر أن تلهب روحه المتمرّدة فتتحوّل الرغبة إلى فعل والحلم إلى إرادة نشدانًا للكمال والاكتمال ورفضًا للهوان والامتهان.
المتمرّد هو من يقول “لا” وفقًا ﻟ طه حسين، والتمرّد مسار فيه قوّة “الأنا” المحرّكة لتحقيق الذات، حتى وإن كان الخروج من الجماعة والانشقاق عنها ورفض الشائع والمستقر والمعروف، وهو ما عمله مظفر النواب، فلم يكن متمرّدًا فحسب، بل كان مثل شهاب انفكّ من السديم، ليكون القدوة والمرجع في قوّة انطلاقته ونصاعة بياضه، متجاوزًا الحاضنات الرسمية السياسية والحزبية فنيًا وثقافيًا وإنسانيًا.
هكذا أصبح مظفر بوصلةً وشراعًا باختيار طريقه الخاص في الإبداع بدلًا من الاتباع، والحداثة بدلًا من القدامة، والأشكال الجديدة بدلًا من القوالب الجامدة، وانتقل من الشكّ إلى اليقين في إطار شكوك فرعية صغيرة في اليقينيات الكبيرة السائدة، فقد تمرّد على المسلّمات بمختلف مسمّياتها وأشكالها، وهو تمرّد معرفي عقلي لأجل إنسان لم يولد بعد وحلم لم يتحقّق وأمل قد يبدو الوصول إليه مستحيلا.
إنه تمرّد للخروج من شرنقة الخنوع إلى فضاء الحريّة ومن قيد الاستتباع إلى رحاب الاستقلالية ومن عبء التقليد إلى شاطئ التجديد. ويمكن القول “أنا أتمرّد فأنا موجود” وهو لسان حال مظفر النواب، باقتفاء أثر ديكارت “أنا أفكّر فأنا موجود”.
سيرة لم تُكتب
على الرغم من أن مظفّر النواب لم يكتب سيرته الذاتية، لكن سيرته اختلطت بسيرة آخرين وهذه موزّعة على مدن وشعوب وبلدان. صار مظفر فلسطينيًا وسوريًا ولبنانيًا ومصريًا وخليجيًا ومغاربيًا . سكنت الأممية روحه وهو المثقّف الكوني والإنسان الحر المفطور قلبه على الحريّة، حتى لكأن سيرته صارت تؤرخ للشغف والأمل والحنين والعوالم الحالمة.
كانت حياة مظفر مثل أجوبته معلّقة على الاحتمال، تتداخل فيها الاتّجاهات. تصطرع في أحيان عديدة لتلتقي وتتعانق عند فضاء الحريّة وفلسطين والانتصار للفقراء. إن سيرة مظفر مركّبة وعميقة وإن لم تفلت من سطوة الزمن، لكنها ظلّت تحفر فيه لتترك أثرًا وبصمةً ورؤيةً وفلسفةً وتاريخًا. اختلفت سيرته عن سير الكثير من السياسيين والإعلاميين التي كانت سريعة العطب والذبول والتلاشي. إن سيرته مثّلت الفن والإبداع والمعاناة والجمال. وقد كتب قصائده بلغة المؤرخ العارف بأسرار التاريخ وخفاياه وخباياه، لدرجة خاض في طرقه ومنعرجاته قديمًا وحديثًا، وفي بعض الأحيان حاول أيضًا استنطاقه كمن يكتب شهادته. لم تكن تهمّه الوثائق لأن الوقائع مكتوبة في قلبه وكان يقرأها من عقله.
هكذا جمع بين القلب والعقل برهافة حسّه ورقّته، يتّكئ حينًا على هذا وحينًا أخرى على تلك. يغوص في التاريخ ليتجاوزه وإن استلهم أبطاله فيعيد ترتيب وتكوين أولوياته، ويتوّقف شاهدًا أخلاقيًا على ما لم يعره التاريخ اهتمامًا. وهكذا بحث عن المجهول والمهمل والمنسي والمسكوت عنه، واستولد منه موضوعات خارج نطاق المألوف والسائد والمكرّر والتقليدي.
الشعرية والشاعرية
في هذه الأجواء الإبداعية – التمرديّة نشأت شاعرية مظفر، حيث تلاقحت موهبته مع رسالته الشعرية باستخدام تكنيك شعري ولغوي ومصطلحي خاص به، حتى ليمكن القول أن ثمة قاموسًا مظفّريًا بدأ يتكوّن، لاسيّما في اللغة المحكية (القصيدة الشعبية).
وإذا كانت الشعرية تتعلّق ببحور الشعر وأغراضه والشواهد الشعرية والانفتاح على اللغة ودلالاتها، فإن الشاعرية كمصطلح استُخدم في أواسط القرن العشرين كتعبير عن الإحساس الرفيع بتمثيله الروح التي تلامس الشعر وتعبّر عن جوهره، وهو ما جاء عليه غوستاف باشلار في كتابه “شاعرية أحلام اليقظة” (1991)، فكيف يمكن التوقّف عند شاعريّة المبدعين ومنهم مظفر النواب؟
الشاعرية تتميّز بالحساسية والجمال والإلهام، ومثلما ترتبط بفن الشعر فهي ترتبط بعموم الإبداع. وقد توقّف باختين عند شاعرية الروائي ديستوفسكي. وسبق للمعلّم الأول أرسطو أن تناول في كتابه “فن الشعر” التكوين الفني ومحاكاة الطبيعة بصفتها جوهر الشعر بما فيه الملهاة والملحمة والحوار والموسيقى والرقص، فثمة فارق بين ما يسمّى شعرًا وبين ما يسبغ عليه حيّزًا جماليًا بحيث تشعر أنه “شعر”، وهو ما نشعر به ونتحسسه حين نقرأ شعر مظفر النواب، ناهيك حين نسمعه بصوته المؤثر ونبرته المتميزة مموسقًا وممسرحًا تتراقص صوره الفنية برشاقة فائقة، وهارموني عالي الانسجام.
وتختلف الشاعرية من شاعر إلى آخر باختلاف إبداعه، وهذا هو الفرق بين شاعرية تنطلق من الروح وأخرى شكلية. وبالطبع هناك معمار لكلّ قصيدة يتم هندستها وفقًا لمعجم الشاعر اللغوي واستعاراته وتركيباته، والأمر ينسحب على مكنونات الإبداع الأدبي والفني، وبقدر ما يكون المبدع متقنًا لصنعته تكون اللغة مطواعة بين يديه؛ والرسالة الابداعية بقدر جماليتها فإنها تعبّر عن مدى إنسانيتها.
وبالنسبة لمظفر النواب فكتابة الشعر وإن كانت خلاصًا فرديًا وتعبيرًا عن روحه التوّاقة إلى الحريّة، إلّا أنها بدأت تأخذ بعدًا أكثر جماليةً ورمزيةً في الخلاص الجماعي، لاسيّما الانحياز إلى المظلومين والمهمّشين.
المبدع والمكان
صوته الخفيض وأدبه الجم ورقتّه ووداعته أضافت جزءًا مكمّلًا لشخصيته بما فيها من جمال وكارزمية ووقار، حتى لتحسبه شخصًا آخر غير مظفر النواب الذي يعتلي المنصّة ليُعبّر عن غضبه وسخطه وازدرائه لكلّ ما حوله، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بمن تغطرس أو تجبّر أو ظلم الفقراء وتنكّر لفلسطين.
في رحلته الأولى إلى الأهوار بدأ مظفر النواب يكتشف نفسه وعلاقته بالطبيعة التي تعلّق بها، فقد أدهشته تلك الصور المتدفّقة فاختزنها في مخيّلته، حيث الأفق الشاسع الممتد والهادئ، الشمس في بهائها والقمر في صفائه، وانسيابية مياه الأهوار، والسماء المرصّعة بالنجوم والمشاحيف (الزوارق) الرشيقة وكأنها رماح، والأشجار والأسماك والطيور ووجوه النسوة الحالمات والمسحوقات. كان ذلك بمثابة اللقاء مع الحياة الجديدة التي أخذ يكتشفها، تلك التي ظلّت تسحره وتلهمه، وهو ما زاد من إحساسه بالجمال على كلّ ما حوله، مثلما عاظم من شعوره بالمحيط الذي يعيش فيه بكلّ عنفوانه، بشرًا وشجرًا وحجرًا وأرضًا وفضاءً وسماءً، وهكذا تكون الطبيعة إضافة إلى الموهبة ساهمت في نسج إبداعه الشعري وشاعريته وهي ما أعطته الشمول، أي لقائه بالحياة وعلاقته المتميّزة بالكون والإبداع.
أصبح المكان مسرحًا جماليًا للتاريخ والدين والصورة الشعرية التي احتلّت قصيدة النواب بما فيها من رمزيّة متعدّدة ومتنوّعة، وبُعد سيكولوجي وسيسيولوجي تعبيرًا عما تمثّله الهويّة والانتماء، وما يستحضرْ التاريخ ويستدعيه الريف بكلّ تنوّعه والمدنية بكلّ تعقيداتها.
وإذا كان المكان عنصرًا مهمًا في الشعر ويحتلّ مقامًا متميّزًا لدى النواب بحضوره الكثيف، وذلك لأنه عاش ما يزيد عن نصف عمره البيولوجي في المنفى وأكثر من ثلثي عمره الإبداعي فيه. مثلما عاش الجواهري ما يزيد عن نصف عمره الإبداعي في المنفى وأكثر من ثلث عمره البيولوجي، وكذلك عاش بلند الحيدري نحو ثلث عمره البيولوجي وما يزيد عن نصف عمره الإبداعي في المنفى.
وكذلك كانت تجربتَيْ عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف، فإن أهم أعمالهما الإبداعية كانت في المنفى، حيث عاشا فيه أكثر مما عاشا في الوطن. وهي تجربة العديد من المبدعين مثل محمود صبري وضياء العزاوي وفاضل العزاوي وهادي العلوي وجبر علوان وكوكب حمزة ومكي حسين وعبد الكريم كاصد ومصطفى جمال الدين وعلي الشوك وغائب طعمة فرمان وصلاح نيازي ومحمود البياتي وحسن العلوي وفيصل لعيبي وفائز الزبيدي وزينب وناهدة الرمّاح وقاسم حول وكاتب السطور ومئات غيرهم.
ويبدو أن المكان له خصوصية شديدة لدى مظفر، لاسيّما بعض المدن مثل القدس وبغداد وبيروت ودمشق وأثينا وباريس، وكان قد تنقّل في العديد من المدن، مثل طرابلس والقاهرة والخرطوم وظفار وإريتريا، إضافة إلى الفاعليات التي أقامها في لندن وبرلين وأمستردام والولايات المتحدة وغيرها من البلدان والمدن، فقد ولد في الكاظمية في العام 1931 كما سيأتي ذكره.
الأصول والذاكرة
وفي حوارات عديدة مع مظفر النواب، أولها في بغداد (أواخر العام 1968) وبراغ (أواخر العام 1970) وآخرها في بيروت في العامين 2005 و2006، وما بينهما في الثمانينيات والتسعينيات في دمشق ولندن: قال إن أصوله تعود إلى الجزيرة العربية، ومنها جاءت العائلة إلى العراق، وهي تنتسب إلى الإمام موسى الكاظم، واضطّرت بعد عسف العباسيين للهجرة إلى الهند وأقامت في مقاطعة كشمير وحكمت جزءًا منها، وكان لأجداده نفوذ كبير وذلك بسبب ثرائهم أيضًا. وبعد احتلال الهند حاول البريطانيون استمالتهم، لكنهم رفضوا ذلك، بل انحازوا لصالح مقاومة الاحتلال ولتلك الأسباب تمّ نفيهم، فاختاروا العراق بلد الأجداد الأول، ولوجود العتبات المقدّسة.
اختزن مظفر النواب في ذاكرته كلّ هذا الترحال الذي كان يتردّد على لسان أفراد العائلة والقصص التي كان يرويها الكبار، خصوصًا حين اختار المنفى بعد رحلة سجن قاسية وطويلة في سجن نقرة السلمان الصحراوي (نحو أربع سنوات) وسجن الحلّة الذي هرب منه بعد أن خطّط مع رفاقه لعملية الهروب الشهيرة تلك.
وكان حسين سلطان، القيادي الشيوعي، قد روى أجزاء مهمة من عملية حفر نفق تحت الأرض طوله نحو 22 مترًا والتي دامت بضعة أشهر يُفضي إلى كراج خارج السجن، وذلك في خريف العام 1967، فتسلل منه مع 42 محكومًا سياسيًا بعضهم بأحكام ثقيلة، وقد أُلقيَ القبض على بعضهم، وقد رويت في أكثر من مناسبة إلى أننا نظّمنا سفرة طلابية كغطاء مقبول لنقل 2 من السجناء الهاربين إلى بغداد، وقد أصبح أحدهم من أصدقائي القريبين وهو سعدون الهاشمي شقيق سامي مهدي الهاشمي الذي استشهد في صراع داخلي محموم في 28 أيلول / سبتمبر 1968. وقد جئت على ذلك في مقالة بعنوان “الشبيبي والبنك المركزي – قضية رأي عام” والتي نشرتها جريدة الخليج (الإماراتية) في 31 أكتوبر / تشرين الأول 2012، كما توقّفت عندها أكثر من مرّة.
أما مظفر فقد اختفى في المزارع القريبة من الحلّة وسدّة الهندية وخرج إلى العلن بعد انقلاب 17 تموز/ يوليو 1968 بعد أن صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بالعفو العام عن السجناء وإطلاق سراحهم وإعادة المفصولين إلى وظائفهم. وكان قد قضى بضعة أسابيع في الأهوار ساكن فيها الفلاحين. وحسبما يقول كان ذلك استعدادًا لإعلان الكفاح المسلّح، كما كان يجري الحديث عن ذلك في حينها، خصوصًا في ظلّ الصراع داخل الحركة الشيوعية.
الحدث والمكان والحبكة الدرامية كلّها ظلّت تمدّه بصور متنوّعة، وإن كان فقدان المكان الأول “الوطن” ومنهل الإبداع “الأهوار” قسريًا أو اختياريًا، سبّب نوعًا من الألم لشاعر حسّاس ابتعد عن بيئته ومناخها الطقوسي، خصوصًا بعد تجربة مريرة وخذلان سياسي عانى منه، مع ذلك عمل على تحويله إلى شيء إيجابي، ولكن ليس دون معاناة وتحدّ وإصرار على استعادة صورة الحياة البغدادية والأهوارية في ذاكرته، وتجسّدت لديه الخصوصية بكلّ مستلزمات قوّتها بما فيها من ذكريات طفلية ظلّت عالقة في ذهنه، بل إنه كان يُجري عليها تظهيرًا بانوراميًا، تعويضًا عن الواقع.
وتلاقحت خصوصيته مع شمولية كونية في إطار تزاوج بين الأصالة والحداثة وفقًا لباشلار، فثمة علاقة عضوية بين الخصوصية والكونية وبين المحلي والعالمي. وظلّ مظفر يشق طريقه عبر المكانية مكتسبًا أفقًا جديدًا وحساسية جديدة عمّقت من شاعريته، خصوصًا في قصائد الفصحى في المنفى وهي تمثّل ثلثي عمله الإبداعي.
المحكي والفصيح والاغتراب
وبقدر ما كان مظفر صاحب مدرسة الحداثة في القصيدة الشعرية الشعبية (المحكيّة)، فإنه كان بالقدر نفسه شاعر الحداثة في قصيدة الفصحى، حتى وإن كتب بعض القصائد العمودية، وقد سار في ذلك على خطى نازك الملائكة وبلند الحيدري وبدر شاكر السيّاب وعبد الوهاب البياتي ومجايليه سعدي يوسف ورشدي العامل ويوسف الصائغ وألفريد سمعان وآخرين.
وبين الفصيح والمحكي كانت تتراوح أغراضه بين الغزل والثورة، ولا ثورة حقيقية وكاملة دون حب حقيقي، ومثلما ليس هناك نصف حب، فليس هناك نصف ثورة، فقد أعطى مظفر روحه للثورة والحب وتسامت صوره الشعرية في ذلك، مع وطنية وجدانية باهرة، وبقدر ما كان مغتربًا وحزينًا فإن ذلك ينعكس على المكان مدحًا أو قدحًا، سواء في هجائه أو في حنينه وأساه لفراقه.
عاش مظفر النواب مغتربًا ليس مكانيًا حسب، بل كان اغترابه عضويًا أبعد من ذلك في وطنه وبين رفاقه وفي حزبه، و كان في الكثير من الأحيان يشعر بالانفصال والغربة عمّن حوله بقدر ما كان يشعر بالألفة والانسجام مع الناس البسطاء، فما بالك حين يكون مظفر مغتربًا جسديًا وروحيًا، سواء في الوطن أو في المنفى، في السجن أو في خارجه. وحين يكون في ذلك المحيط الاغترابي يستدعي خصوصيته وفردانيته، وحتى في سجنه كان يدفع حائط السجن ليُطلق العنان لخياله ليرى قلبه حرًا طليقًا في عالم الغربة، فالسجن كمكان مغلق لم يتمكن من حبس مخيلته.
وبقدر ما عاش مظفر زمانه فقد عاش المكان أيضًا، وكما يقول محي الدين بن عربي “الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمِّد” ، وأحيانًا كانت صوره زمكانية، فاستلهم الكثير من الشخصيات من تاريخنا العربي – الإسلامي وما قبله وفي تاريخنا المعاصر كذلك، بل أن التاريخ والفلسفة كانتا مادتين أساسيتين في خلفيته الفكرية والأدبية، وهما يتعانقان مع القيم الكونية. لقد استحضر مظفر “عشتار” زوجة تموز الأسطورية وآلهة الحب والخصب والجمال في بابل القديمة، مثلما جاء على “داعس والغبراء” مرورًا بالسيد المسيح والحسين بن علي شهيد معركة الطف في كربلاء وكافور وسليمان بن خاطر وحسين الأهوازي وحمدان القرمطي وعبد الناصر، وبالطبع فلبعض الشخصيات رمزيتها الإيجابية وللآخر وجهها السلبي.
الفنان
مظفر النواب ليس شاعرًا فحسب، بل رسام أيضًا، إضافة إلى صوته الجميل، مثلما له أذن موسيقية، ومن المؤثرات الأولى، كما قال في حديث مطوّل حين استضفته مع نخبة من المثقفين العرب في لندن (1999). المواكب الحسينية والمشاعل والخيل والأعلام الملوّنة والصناجات، وهذه ظلّت عالقة في ذاكرته، بل لصيقة في مخيلته أيضًا، حيث كانت تلك المشاهد والحشود تتجمع في عاشوراء، رجالًا ونساءً يدخلون ويخرجون في حركية طقوسية عاشورائية في (منزل جدّه وشقيقه المفتوحان على بعضهما)، وكان هناك من يحمل ابريقًا لرش الذاهبين والآيبين بماء الزهر والعطور.
ومعروف ما كان يقدّم في تلك المناسبات من استعادة تمثيلية تسمّى “الشبيه” لتمثيل مشهد اغتيال الحسين في كربلاء، وقد “نذرته” عائلته في طفولته ليمثل دور عبد الله الرضيع الطفل الذي قُتل في معركة الطف. والواقع فبالصوت والصورة كانت تلك أقرب إلى مسرحيات حقيقية حاول المخرج المسرحي المبدع جواد الأسدي استلهامها في أعماله المسرحية.
الشعر والإيقاع المنغّم وموسَقته تركت تأثيراتها الأولى عليه، يضاف إلى ذلك جدّه الذي كان يشبه الشاعر الهندي طاغور بلحيته البيضاء وهيبة شخصه ومكانته الاجتماعية، فهو يعزف على القانون والبيانو، إضافة إلى كونه شاعرًا باللغتين العربية والفارسية. أما والدته فكانت تعزف على البيانو ووالده يعزف على العود وخاله يعرف العزف على الكمان. وكان خلال تكوينه الأول على تواصل مع عدد من الفنانين، حيث تتلمذ على يد حافظ الدروبي، إضافة إلى تعاونه مع سلمان شكر عازف العود وخالد الرحال الرسام المعروف والشاعر بلند الحيدري.
كانت الأجواء التي عاش مظفر في كنفها مشحونة بالعاطفة المتدّفقة ابتداءً من المنزل ومرورًا بالأصدقاء ونهايةً بالمدينة التي كانت المناسبات الدينية أحد عناصر مائدتها الثقافية، وذلك على مرّ أيام السنة، حيث المناسبات العديدة، في الأفراح والأتراح كما يُقال.
الفرادة
يوم طوى الموت مظفر النواب ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بالخبر، وخلال ساعات قليلة كانت هناك المئات من المقالات والتعليقات ورسائل التعزية التي عبّرت عن محبّة خاصة وخالصة لم يبلغها أي شاعر أو مثقف عراقي أو عربي على ما أعتقد. والأمر شمل عدد من العواصم العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وكانت العديد من الإشاعات التي انتشرت خلال السنوات الأخيرة التي نعت الشاعر وهو ما يزال حيًّا، وقد يكون لغيابه عن الظهور لإصابته بمرض الباركنسون الذي ابتلى به في السنوات الأخيرة بشكل خاص، سببًا في ذلك أيضًا، إضافة إلى عدم الشعور بالمسؤولية والخفّة في التعاطي مع منصات التواصل الاجتماعي، ولعلّ ذلك أحد سلبياتها، لاسيّما بنقل الإشاعات أو إلقاء الكلام على عواهنه دون أي حرج أو حياء، خصوصًا حين تفتقر المدونات القانونية إلى أحكام ضرورية خاصة بالمساءلات، حيث تتداخل “حريّة التعبير” التي هي حق مقدّس و”حرية التشهير” التي يستخدمها البعض دون تمييز أو تفريق بينهما.
وبقدر ما كان مظفر متوازنًا بوحدة القول والفعل والرأي والسلوك والمبادئ والأخلاق والشعر والحياة، إلّا أن مرحلة الانحطاط السياسي لم تترك شخصًا حتى وإن كان “قدسيًا” إلّا وحاولت تجريحه والغمز من قناته، وهو ما حصل لمظفر النواب، فوجد هناك من تنطّح بأصوله الهندية، وهو كما ذكرت من أصل عربي يعود إلى الأمام موسى الكاظم.
صداقة مديدة
ارتبطت مع مظفّر النواب بصداقة أعتزّ بها زادت عن خمسة عقود من الزمان، رويت جزءًا منها في سردياتي عنه، ولعلّ ذلك يعود إلى أحد أهداف إصداري هذا الكتاب، إجلاءً للحقيقة، وإلقاء ضوء كاشف على شعره وشاعريته، فضلًا عن تعريف القارئ العراقي والعربي به وبشعره الذي ظلّ بعيدًا عنه أو يسمع بعض أخباره ليس من مصادر وثيقة الصلة به، بسبب انغلاق الوضع السياسي وهيمنة الواحدية والإطلاقية الشمولية، طيلة ثلاث عقود من الزمن تقريبًا. يُضاف إلى ذلك صدور طبعات عديدة من مجموعاته الشعرية غالبيتها الساحقة لم يكن على علم بها، وقد بيع منها عشرات الآلاف دون أي علاقة له بها، ناهيك عن أن العديد منها احتوى الكثير من الأخطاء، سواء قصائد العامية العراقية (اللغة المحكية) أو قصائد العربية الفصحى.
قسّمت الكتاب إلى خمسة أقسام. ثلاثة منها بعد المقاربة الاستهلالية تتعلّق بدراسات وأبحاث رئيسية كتبتها في فترة متقاربة وضممتها إلى بعضها مع بعض كتاباتي ومقالاتي وإشاراتي إلى مظفر النواب في وقت سابق.
وكان البحث الأول – هو الذي ألقيته في برلين بدعوة من “منتدى بغداد للثقافة والفنون” الذي يديره السينمائي والإعلامي عصام الياسري رئيس تحرير “جريدة الصعاليك”، وذلك بتاريخ 13 آب / أغسطس 2022 وحمل اسم “مظفر النواب: من وحي الأمسية البرلينية”؛
والبحث الثاني – كان محاضرة قدّمتها في احتفالية “مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا”، في مدينة السليمانية ( فندق الميلينيوم) في 22 شباط / فبراير2020. وقد نشرت في جريدة الزمان (العراقية- بغداد/ لندن) على حلقتين الأولى يوم الخميس 23 نيسان/ إبريل 2020 والثانية يوم الأحد 26 نيسان / أبريل 2020.
أما البحث الثالث فهو دراسة قدّمتها في “صالون 15” الثقافي الذي تديره الشاعرة والإعلامية السورية نوال الحوار وحمل عنوان “مظفر النواب وجدار بريخت” تكريماً واحتفاءً ووداعاً للشاعر مظفّر النواب بتاريخ 7 حزيران / يونيو 2022 ، وعدت وطوّرتها لأنشرها كبحث في جريدة القدس العربي بتاريخ 16 حزيران / يونيو، وجريدة الحقيقة في 19 حزيران / يونيو 2022.
وكنت قد جئت على علاقة خاصة جمعت الجواهري بمظفر النواب، وهو ما حاولت الإضاءة عليه في كتابي الموسوم “الجواهري جدل الشعر والحياة”، دار الكنوز الأدبية، ط1، بيروت، 1997، وط2، دار الآداب، بيروت، 2008، وط3، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2010.
أما القسم الرابع فقد ألحقته كإضمامة بالكتاب وهو دراسة كتبها جاسم المطير نقدًا وتقييمًا على نص محاضرتي عن “مظفر النواب – يتلألأ في ضمائرنا”، ووضع لها عنوانًا: “عبد الحسين شعبان – كاتب خطّاف” مع عنوان فرعي “زفزفات الفانتازيا وألوان زخارفها في أشعار مظفر النواب”.
وخصصت القسم الخامس لمختارات من شعر النواب وفقًا لذائقتي الشعرية قدمتها بتمهيد وبفقرة خاصة لأسلوب وصور النواب، وهو يتكون من أولًا – القصائد باللهجة الشعبية العراقية، وعددها 10؛ وثانيًا – القصائد باللغة الفصحى وعددها 8.
وبتقديري أن المختارات احتوت على أجمل وأهم قصائد مظفر النواب. وبذلك أكون قد وفيت جزءًا من حقوق الصداقة وزمالة الثقافة ورفقة الفكر. وبودّي الإشادة بدور صديقه المخلص حازم الشيخ الذي لازمه نحو عقدين من الزمن، بل كرّس نفسه لمساعدته في العقد الأخير حتى رحيله، وكان بحق مثالًا للإخلاص والمحبة والوفاء.
وأود أن أشكر من حاول معي اختيار وتوثيق بعض نصوص القصائد وأذكر منهم الصديق الشاعر كاظم غيلان الذي ظلّ على وفائه للشاعر مظفر النواب، على الرغم من الغيوم السوداء الكثيفة التي أرادت أن تحجب اسمه، بل وتشجع على ذلك. وكان اسم مظفر قد اختفى من الأدبيات والصحف والمجلات العراقية الرسمية وغير الرسمية منذ سبعينيات القرن الماضي حتى مطلع التسعينيات باستثناء النذر اليسير. وأشير هنا إلى مقالة تكاد تكون يتيمة نشرها بجرأته المعهودة الشاعر كاظم غيلان ورحب بها حينها الأديب صلاح خالص التي خصّص لها حيّزًا مهمًا في المجلة التي كان يصدرها بعنوان “مجلة الثقافة” وذلك في آب / أغسطس 1975، كما يمكنني الإشارة إلى مقالة أخرى نشرها صلاح خالص في العام 1973 بعنوان “الريل وحمد ومستلزمات القصيدة العامية الحديثة” للكاتب داوود سلمان الشويلي، وهو ما اطّلعت عليه مؤخرًا. وقد يكون ثمة مقالات أخرى لكنها ظلّت محدودة وغير منتشرة.
كما أود أن أشكر كذلك الصديق إياد الجواهري الذي أعاد قراءة نصوص بعض القصائد مشكورًا لتدقيقها. وأتوقّف هنا كذلك للإشادة بالكاتب والباحث التراثي خير الله سعيد على قراءة نصوص القصائد الشعبية لتدقيقها كذلك، وقام مشكورًا بإرسال كتابه الموسوم “مظفر النواب – ذروة الإبداع في الشعر الشعبي العراقي”، دار كنعان ، دمشق، 2019، وكان هذا الكتاب ماثلًا للطبع فاستعنت بقراءته في تدقيق أحد مقاطع الكتاب.
أملي أن تساهم هذه المبادرة في قراءة مظفر النواب بعقل مفتوح ورؤية راهنة واستشرافية.
[1] حين صدر كتابي الموسوم “أبو گاطع- على ضفاف السخرية الحزينة” في طبعته الأولى عن نادي الكتاب العربي في لندن في العام 1998 أهديته إلى مظفّر النواب مع مقطع من قصيدته “المساورة أمام الباب الثاني”، واليوم بعد ربع قرن أهدي هذا الكتاب “مظفر النواب – رحلة البنفسج” إلى الروائي والصحافي أبو گاطع. ولعلّ ما يجمع بينهما الابداع والقرب من الناس وصدقية التوجهات.