لا أدري كيف خطرت ببالي عبارة النفري الشهيرة «كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة»، وأنا أكتب عن معاناة الكرد الفيليين، التي لا تزال مستمرّة منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى اليوم، فلعلّها الأكثر انطباقاً على وضعهم الذي شهد تعويماً لمواطنتهم، واستلاباً لحقّهم في الجنسية، فضلاً عما لاقوه من عسف في تهجيرهم ومصادرة ممتلكاتهم.
وقد أعاد مؤتمراً علمياً انعقد في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، مؤخراً، التذكير بشكل خاص بمأساة الكرد الفيليين، عشية الحرب العراقية – الإيرانية وخلالها، حيث تمّ تهجير عشرات الآلاف منهم من العراق، بحجّة التبعيّة الإيرانية، إضافة إلى معاناتهم في إيران أيضاً بعد تهجيرهم، وهكذا ظلوا معدومي الجنسية والهويّة والمواطنة، فضلاً عن مصادرة حقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولكي يطّلع القارئ العربي على حجم معاناة الكرد الفيليين، وحقيقة ما حصل لتلك الشريحة الاجتماعية، لا بدّ من الإشارة إلى أنهم جزء من مجموعة عرقية كردية، وهم في العراق فرع من «اللور»، ينتشرون على طرفَي الحدود بين إيران والعراق، فيسمّون في إيران (لور بوزورك)، أي (لور الكبرى)، وفي العراق (لور كوجك) أي (لور الصغرى)، حيث يتوزّعون على عدد من المدن في مناطق محافظة ميسان (العمارة)، ومناطق جلولاء وخانقين ومندلي (محافظة ديالى)، وزرباطية وبدرة وجصان (محافظة الكوت)، وغيرها، إضافة إلى بغداد العاصمة، حيث ينتشرون في العديد من مناطقها، ويشكلّون في بعضها أغلبية، ويعمل أغلبيتهم في التجارة والأعمال الحرّة، علماً بأن أغلبيتهم الساحقة حرموا من الحصول على شهادة الجنسية العراقية، حتى إن كان لديهم جنسية عراقية، وولدوا في العراق وعاشوا فيه، ولم يعرفوا وطناً سواه.
إن مشكلة الكرد الفيليين وإشكاليتهم تاريخية، تندرج في قضيّتين أساسيتين هما: الجنسية والمواطنة، وهما مترابطتان في الدولة العصرية، وتعتبران من صميم حقوق الإنسان.
وقد ارتبطت قضية الكرد الفيليين بقوانين الجنسية المتعاقبة منذ صدور أول قانون للجنسية في عام 1924، وقد سبق كتابة الدستور الأول (القانون الأساسي) الذي صدر في عام 1925. وقسّم القانون المذكور الجنسية إلى فئتين (أ) و (ب)، فمن كان من الفئة (أ)، اعتُبر عراقياً لأنه يحمل الجنسية العثمانية، حتى إن لم يكن عربياً أو كردياً، أما من الفئة (ب)، فاعتُبر من الدرجة الثانية، ويمكنه التجنّس، وهكذا حصل التمييز، فاعتُبر العديد من المواطنين العراقيين، بمن فيهم الكرد الفيليون، مواطنين أدنى شأناً. وكنت جئت على مشكلتهم في كتابي الموسوم «من هو العراقي؟» الصادر في عام 2002.
وقد ازدادت مشكلة الكرد الفيليين تعقيداً في العهد الجمهوري، ولاسيّما في ظلّ انقلاب عام 1963، وتشريع قانون جديد للجنسية أشدّ غلاظة مما سبقه، واشترط القانون موافقة وزير الداخلية على منح الجنسية للمولود في العراق، ولأب مولود في العراق ومقيم بصورة دائمة ومعتادة في العراق. واتّخذ الأمر طابعاً سياسياً، وليس قانونياً، بحكم انتماءات الكرد الفيليين للأحزاب الكردية، أو القوى اليسارية، فاتّبعت الحكومات المتعاقبة حملات تهجير ضدّهم في عام 1963 وعام 1965 – 1966، وبين أعوام 1969 و1972 تم تهجير نحو 70 ألف مواطن كردي معظمهم من الفيليين، على الرغم من اتفاق 11 مارس/ آذار 1970 بين قيادة الحركة الكردية والحكومة العراقية.
ولعلّ أقسى ما عاناه الكرد الفيليون، حين اعتبُروا «طابوراً خامساً» بصدور القرار 666 في 7 مايو/ أيار 1980، القاضي بإسقاط الجنسية عن العراقيين من أصل أجنبي لاعتبارات تتعلّق بالولاء للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة، كما ورد في القرار المذكور.
وعلى الرغم من تبدّل الأوضاع، وقيام نظام جديد في العراق على أعقاب النظام السابق، إلّا أن قضية الكرد الفيليين لا تزال يشوبها الكثير من الالتباس والغموض والإبهام، فضلاً عن عدم استعادتهم حقوقهم المستلبة، ولم يتم تعويضهم عمّا أصابهم من غُبن وإجحاف، فضلاً عن الأضرار المادية والمعنوية والنفسية التي أصابتهم.
وتقضي مبادئ العدالة الانتقالية كشف الحقيقة كاملة، ما الذي حصل؟ ولماذا حصل؟ ومن المسؤول؟ بهدف جبر الضرر، وليس المقصود من ذلك الانتقام، أو الثأر، أو الكيدية، فتلك لم، ولن تُعيد العدالة، كما يقتضي الأمر تعويض الضحايا أو عوائلهم، مادياً ومعنوياً، وذلك لإصلاح النظام القانوني والقضائي وأجهزة إنفاذ القانون وتحقيق المصالحة المجتمعية.