السيّد بحر العلوم
ومشروعه الدستوري
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عراقي
ونائب رئيس جامعة اللّاعنف – بيروت
نشرت في مجلّة المعهد (مجلة فصلية علمية محكّمة تصدر عن معهد العلمين للدراسات العليا)، العدد 9، (نيسان / أبريل، أيار/ مايو، وحزيران / يونيو) 2022.
توطئة
في مشروعه الفكري الباذخ “أزمة العراق سيادياً” فتح “معهد العلمين” و“منتدى بحر العلوم” الحوار على مصراعيه بشأن أزمة السيادة وإشكالياتها داخلياً وخارجياً، وذلك كجزء من أزمة الدولة العراقية المعاصرة، وخصوصاً ما له علاقة بالدستور النافذ وإشكالياته وألغامه وتفسيراته وتأويلاته وزوايا النظر المختلفة إليه والقوى المتصارعة تحت لوائه وباسمه أحياناً، وعلاقة ذلك بمستقبل العملية السياسية التي تأسّست بعد الإحتلال الأمريكي للعراق العام 2003.
وتبقى المشكلة الدستورية أس المشاكل، إذ أن عدم معالجة الأوضاع الحالية والمنذرة بالمزيد من الإخفاق والتعقيد والتشتّت، قد يقود إلى تهديد الوحدة الوطنية دون التوصّل إلى حلولٍ وتوافقاتٍ أساسها فضّ الإشتباكات الدستورية والألغام التي احتواها الدستور والتي أصبحت مثل القنابل الموقوتة وغير الموقوتة والتي قد تنفجر في أية لحظة، وهو أمر يحتاج إلى إرادةٍ سياسيةٍ شاملة، فعلى الدستور تركّبت العملية السياسية ووفقاً له أئتلف وافترق الفرقاء واقترب وتباعد “الحلفاء” وتصارع “الأخوة الأعداء”، حسب الفيلسوف والشاعر والروائي اليوناني “نيكوس كازنتزاكي”.
الحاضر الغائب
لعلّ من وحي مشروع معهد العلمين ومنتدى بحر العلوم أن يحضر السيّد محمد بحر العلوم (ولد في العام 1927) ورحل عن دنيانا في (7نيسان/ابريل 2015)، وهو حضور لا غنى عنه في مثل هذين المحفلين. وهو ما أشرت إليه في محاضرتي التي ضيّفني فيها المعهد والمنتدى في بغداد (حزيران/يونيو 2021).
لقد حاول السيد بحر العلوم بلورة رؤية دستورية قبل طرح مسوّدة الدستور الدائم النافذ لعام 2005 الذي استند إلى “قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية” والذي صاغ نصوصه الأساسية نوح فيلدمان بتكليف من السفير بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق خلفاً للجنرال جي غارنر للفترة من 13 أيار/ مايو 2003 ولغاية 28 حزيران/ يونيو 2004، وبمداخلات من بيتر غالبرايت الذي عمل مستشاراً لدى حكومة إقليم كردستان.
وكانت ثمّة مسوّدات قد جرى تداولها قُبيل احتلال العراق تحت عنوان “مشروع مستقبل العراق” الذي عمل فيه مجموعة من العراقيين باتفاقات خاصة مع الجهات الأمريكية “الداعمة” وبعقود شخصية، وكان الدستور من جملة القضايا التي انشغلت بها هذه المجموعة في إطار صياغات عمومية كانت خلفية لمشروع نوح فيلدمان، حيث قُدِّم يومها بصفته خبيراً، في حين كان شاباً لم يكمل الـ 33 من عمره، وبخبرة محدودة، لكنها “خبرة” مقصودة أو حتى ملغومة. وهو ما أشرت إليه فيما كتبته أكثر من مرّة في نقدي لمشروع قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية وللدستور الدائم.
وجرّب السيد محمد بحر العلوم، وهو أحد أقطاب المعارضة العراقية سابقاً، أن يستبق الأمور ليقدّم مشروعه[1] منطلقاً من تجربةٍ لم تكن مشجّعة عاشها خلال السنتين ونيّف من ما بعد الإحتلال. وهي تجربة كانت ملامحها واضحةً، بل منذرة بالتفتّت والتباعد والمنافسة غير المشروعة، وخصوصاً التمترّس وراء كيانات طائفية أو إثنية أو حزبية أو جهوية أو شخصية أساسها زبائنية ومغانمٍ وامتيازاتٍ إلى درجةٍ أنّ الفرقاء المتّحدين والمختلفين يكادوا يجمعون على أنها كانت كذلك، لكن كل فريق يحاول أن يلقي اللوّم على الطرف الآخر أو عددٍ من الأطراف، خارجيةٍ أو إقليميةٍ وبالطبع أطرافٍ داخلية، إذْ ليس بإمكان تحقيق مشاريع القوى الأجنبية دون جهات محليّة.
لجنة السيّد
بادر بحر العلوم إلى تشكيل لجنة لصياغة مشروع دستور جديد دائم للعراق. وكان هو على رأسها. وسبق لي أن اطلعت على حثيثيات رؤيته الأوليّة منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وهو وإن كان يتحدّث عن عسفٍ لا قانوني يقع بحقِّ الشيعة لاعتبارات سياسية، لكنّ مشروعه كان عراقياً أبعد من حدود الطائفة والطائفية لإعادة بناء دولةٍ خارج دوائرالمصالح الإقليمية، وقد اتخذ موقفاً متميّزاً خلال الحرب العراقية الإيرانية، خصوصاً في مراحلها الأخيرة فلم يكن من مروجي المشروع الحربي والسياسي الإيراني، وحاول أن يتمايز عنه باستقلالية وهو ما عرّضه إلى نقد من جانب المجموعات الشيعية الإسلامية، كما أنه كان يضع مسافة بينه وبين المشاريع الدولية فيما بعد، وإن كان يعتقد لا بدّ من مراعاتها، ولكن توازن القوى والرهان على العامل الخارجي “الدولي” ووقوع البلاد فيما بعد تحت الإحتلال دفع الأمور باتجاه آخر ورجّح هذا العامل على سواه من العوامل الأخرى، وهو ما حصل بالفعل وأربك حسابات الجميع.
تململات قانونية
ومع ذلك كان ثمّة تململات فكرية وقانونية وهواجس سياسية ومخاوف عملانية أخذت تنتشر في الساحة السياسية العراقية وحاولت تلك المشاريع أن تطرح مسوّدات وخلفيات لمشاريع تختلف عن تجربة العامين ونيّف (2003 – 2005)، ما بعد الإحتلال بما فيها تجربة المحاصصة في مجلس الحكم الإنتقالي الذي أسّسه بول بريمر، وسواء أفلحت تلك المشاريع أم لم تفلح، فإنّ لها شرف المحاولة، وتبقى جزءًا من جهد فكري ونظري في استعادته شيء من الوفاء أولاً، فضلاً عن الإفادة مما ورد فيه مع أخذه بسياقه التاريخي ثانياً، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة ونقد ليس للمشروع فحسب، بل للمرحلة بكاملها، وخصوصاً بعد أن وصلت الأمور إلى طريق مسدود، وهذا ثالثاً. أما رابعاً فالهدف هو الإفادة من الدروس والعبر، بعد أن أخفقت التجربة وبات الدستور بحكم المنسي وإن ظلّ كيافطةٍ يجري رفعها بين الفينة والأخرى، بفعل توافقات سياسية وتوازنات فوقه وتحته وخارجه وداخله، أساسها التقاسم الوظيفي.
توقيتات
وحسبما علمت فأن اللجنة التي شكّلها بحر العلوم (انطلاقاً من تلمّسه فشل نظام المحاصصة الطائفية -الأثنية) أكملت أعمالها في تموز/ يوليو 2005، وسعت لأن تنجز مهمتها قبل اكتمال الفترة المحدّدة لصياغة الدستور العراقي الدائم التي قرّرها الرئيس جورج دبليو بوش وهي 15 آب / أغسطس بالإنتهاء من صياغته، ثمّ بالإستفتاء عليه في 15 تشرين الأول / اكتوبر، وعلى أساسه ستجرى الإنتخابات العامة في 15 كانون الأول / ديسمبر 2005، وهو ما تمّ اعتماده كتوقيتات ملزمة بانضباط تام وشبه عسكري، بحيث سُلِقت الأمور سلقاً وقُدّمت مسوّدة مرتبكة ومتناقضة للدستور، ولم يطّلع عليها عند الإستفتاء العدد الكافي من أبناء الشعب العراقي، بل إن النسخة التي اعتمدت لاحقاً جرت عليها إضافات لم تكن من أصل النص، حيث كانت هناك أكثر من نسخة متداولة، وهو ما جرى الحديث عنه على لسان بعض أعضاء اللجنة ذاتها.
النص الذي صاغه السيّد بحر العلوم كمشروعٍ حاول تقديمه إلى ما سمّي بـ “اللجنة الدستورية” وعدد من الجهات الرسمية والحزبية والقوى والشخصيات السياسية بهدف الإفادة من مضمونه أو مبادئه أو أحكامه، علماً بأن ما أطلق عليه “اللجنة الدستورية” تمّ تشكيلها على عجالة وبشكل عشوائي أحياناً، وجرت عليها إضافاتٍ تكميلية، خصوصاً وأن فريقاً من المدعوين للمشاركة في العملية السياسية امتنعوا في البداية من الحضور، الأمر الذي جرى ترضيتهم بعنوان “المكوّن السنّي” بإضافة أعداد منهم إلى اللجنة الدستورية، والتي ضمّت أكثر من خمسين عضواً[2].
أزمة العراق دستورياً
وبمناسبة مبادرة معهد العلمين ومنتدى بحر العلوم لبحث “أزمة العراق دستورياً”، والذي شارك فيه نخبة من الإختصاصيين والأكاديميين والسياسيين، فإن موضوع إشكالية الدستور العراقي كانت حاضرة ومطروحة وبقوة على بساط البحث، علماً بأنها لم تغب طيلة السنوات المنصرمة بما فيها من تعديلات مقترحة كان يفترض أن تنجز خلال أربعة أشهر، وقد مرّ إلى الآن أكثر من عقد ونصف من الزمن دون أن تنجز تلك التعديلات التي طويت مع الوقت ولم يتمّ تفعليها منذ العام 2006 ولغاية الآن، بل أنها أصبحت نسياً منسيّاً بحكم “الأمر الواقع”.
وكانت تلك التعديلات المنتظرة مجرّد وعود أعطيت إلى ما يسمّى بـ “المكوّن السنّي” للمشاركة في عملية الإستفتاء على الدستور التي قيل أنها بلغت أكثر من 78%، وهي نسبة لا يمكن التأكّد من دقّتها، إذْ أنّ الإنتخابات والإستفتاءات في البلدان المتقدّمة نادراً ما تصل إلى مثل هذه النسبة، خصوصاً بتوفّر عناصر الإستقرار والوعي والمسؤولية، فما بالك في البلدان النامية وفي تجارب جنينية كما هي “التجربة العراقية”، حيث تقرّ جميع القوى بالتزوير فيها والتلاعب بالنتائج، بل برمجتها لتأتي متوافقة مع نظام المحاصصة، ناهيك عن احترابات قائمة وعزوف مجموعات كبيرة من السكان عن المشاركة في العملية السياسية، بل وقوفهم بالضد منها، خصوصاً بما جاءت به من نظام محاصصاتي.
مقارنات ومقاربات
لقد أعيد طرح هذه الإشكاليات الدستورية، فضلاً عن تطبيقاتها المشوّهة والتباساتها المنحرفة مجدّداً من زوايا مختلفة في إطار مقارنات ومقاربات دستورية وسياسية وعملانية، خصوصاً بعد إخفاق العملية السياسية ووصولها إلى طريق مسدود باعتراف من ساهم فيها وتحمّس لها، الأمر الذي يحتاج إلى إجراء مراجعات على جميع الصعد، بهدف التوصّل إلى صياغات جديدة عبر تفاهمات تأخذ بنظر الإعتبار وضع الحلول والمعالجات للخروج من المأزق الذي وصلت إليه البلاد.
وبما أن معهد العلمين ومنتدى بحر العلوم المعنيان الأساسيان بإحياء تراث السيّد، ولأنه ناقش الأزمة العراقية دستورياً، فقد انفتحت الشهيّة لمناقشات وحوارات حول مستقبل العملية السياسية والدستور الذي قامت عليه، وهو ما تطلّب من المعهد والمنتدى وبمناسبة مرور الذكرى السادسة لرحيل السيد بحر العلوم إعادة طرح مشروعه كخلفية لمناقشات أو مقترحات لتعديلات دستورية، خصوصاً حين تتمّ مقارنة نصوصه مع بعض مواد الدستور النافذ وحزمة من الدساتير التي كانت مطروحة للمناقشة.
إتجاهان
اتجاهان يتجاذبان النظر إلى الدستور وتطبيقاته. أحدهما يميل إلى صيغة الدولة المركزية الشديدة الصرامة، وهي صيغة قامت عليها الدولة العراقية، كدولة بسيطة مركزية، خصوصاً في العهود الجمهورية، علماً بأن الدولة بعد الإحتلال الأمريكي تحوّلت إلى دولة مركّبة ولا مركزية نظامها فيدرالي، على الرغم من عدم اكتمال تأسيس مجلس الإتحاد أو قيام فيدراليات جديدة أو فيدرالية عربية – كردية، وفقاً للدستور.
وثانيهما الصيغة التي تريد التقليل إلى حدود كبيرة من أية مركزية ظنّاً منها إنّ أي مركزية ستقود إلى الإستبداد، وبالتالي فإنها تحت عنوان اللّامركزية والفيدرالية تجيّر الكثير من صلاحيات السلطة الإتحادية إليها وتتمسّك بها باعتبارها مكاسب لا يمكن التراجع عنها دستورياً بفعل الألغام التي احتواها الدستور، ولا دستورياً بفعل الأمر الواقع. ويشمل الأمر صلاحيات الإقليم وقضايا النفط وتسويقه واستثماره والعقود الموقّعة بشأنه والمنافذ الحدودية ومواردها، إضافة إلى العلاقات الخارجية واستقلالية البيشمركة، التي هي من الناحية العملية تابعة للقوات المسلّحة العراقية وتتلقّى رواتبها منها دون أن يكون لها سلطة عليها.
ويقابل هذه الرؤية نظرة خاطئة أخرى، تعتبر كل لامركزية بما فيها صلاحية الإقليم الفيدرالية بمثابة رغبة في الإنفصال والتقسيم، وكلا الطرفين لم يحدّدا عند صياغة الدستور، المبادىء العامة للدولة الفيدرالية التي تقوم على أن صلاحيات السلطة الإتحادية تتركّز في الجيش والقوات المسلّحة عموماً والعلاقات الخارجية والموارد الطبيعية والخطط الإقتصادية، بما فيها سكّ العملة وغير ذلك. وما عدا ذلك من صلاحيات السلطة الإقليمية وهو ما أخذ به نظام الفيدراليات ودساتير الدول التي اعتمدتها بشكلٍ عام، وإن كان بعضها يوسّع من صلاحيات الإقليم والبعض الآخر يقلّص منها. وأعتقد أن القوى التي صاغت الدستور وضعت تلك الألغام في طريقه كيما تستمر الإشكالات والمشاكل، بل وتتعمّق من خلال التجاذبات التي ستجري في التطبيق والإستقطابات السياسية.
وقد سبق لي أن ناقشت مشروع قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية، في كتاب صدر لي عن مركز الأهرام في القاهرة، ومشروع الدستور الدائم في كتاب صدر عن دار المحروسة وفي مقالات وأبحاث عديدة، كما صدر دستور عن لقاء أكاديمي ساهم بصياغته النهائية كاتب السطور، وهو الأمر الذي دعاني ضمن دراساتي الدستورية لمراجعة المسوّدة التي قدمها السيّد بحر العلوم، وخصوصاً فيما يتعلّق بفكرة المواطنة وموضوع “المكوّنات”، التي كانت أحد ألغام الدستور الأساسية، وآمل أن تمهّد تلك المناقشات إلى حوار أشمل يتعلّق بالبنية الدستورية وبالدستور وطرق صياغته وتعبيره عن قيم الهويّة الجامعة للمجتمع ككل، بهدف التوصّل إلى صيغة جديدة مناسبة وفي ظرف مناسب لإعادة بناء الدولة وفقاً لمبادىء المواطنة[3].
وحين أقول المواطنة فأنا أقصد “الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة”، التي تمثّل قيماً أساسيّة في الدولة العصريّة وهي تتعارض مع ما ذهب إليه الدستور النافذ الذي اعتمد قاعدة “المكوّنات” كما سنأتي على ذكره، حتى وإن تناول مبادىء المواطنة.
مواصفات دستور السيّد
يتألّف مشروع دستور السيّد بحر العلوم من ديباجة و155 مادة وهو مقسّم على ستّة أبواب.
يشمل الباب الأول: “المبادىء الأساسيّة”.
أما الباب الثاني فيتضمّن “الحقوق الأساسيّة”.
ويتناول الباب الثالث “سلطات الدولة الإتحادية”: أولاً: السلطة التنفيذية وهي مؤلّفة من 1- رئاسة الجمهورية و2- حكومة الاتحاد (مجلس الوزراء: الرئيس ونوابه + الوزراء)، وثانياً: السلطة التشريعية وتشمل 1- الجمعية الوطنية “البرلمان” . 2- مجلس الأقاليم، وثالثاً: السلطة القضائية، ورابعاً: المجالس الإتحادية المتخصّصة وتشمل: 1- ديوان الرقابة المالية. 2- مجلس الخدمة.
ويتناول الباب الرابع: “الأقاليم وسلطاتها”، ويشمل المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية.
ويبحث الباب الخامس: في تعديل الدستور.
أما الباب السادس فيتناول: أحكامًا انتقالية وختامية.
لا أريد مناقشة مشروع السيّد بحر العلوم كاملاً، ولكني سأتوقّف عند نقطتين أساسيتين وهما : الأولى – المبادىء الأساسيّة، وهي تشمل الباب الأول بمجمله وهي بمثالة المنطلقات النظرية للمشروع وتعبيراً عن فلسفته. والثانية – الحقوق الأساسيّة وهي تشمل الباب الثاني برمّته الذي تناول الحقوق والحريّات، خصوصاً علاقة الفرد بالدولة من خلال حقوقه وواجباته.
نقطتان مفصليتان
وقد توقفت عند النقطتين المفصليتين ووجدتهما إلى حدود كبيرة منسجمتان مع التطلّع إلى مبادىء المواطنة في الدولة العصرية وما ورد في الديباجة التي نصّت على ما يلي: “نحن شعب العراق: الذي اتعظ لغده بأمسه فرسم الطريق بعزم إلى مستقبلٍ، متحررٍ من الخوف، متحررٍ من الذل، متحررٍ من الحاجة”. كما جاء فيها ” نحن شعب العراق: الذي وطّد العزم على أن يقيم من العراق جمهوريةٍ ديمقراطية، إتحادية، تعدّدية، أرضها لا تتجّزأ وشعبها تشدّه أواصر الإخاء حفظاً لكرامة أفراده وتعزيزٍ لوحدته.
وكما ورد في المادة 2 (من المبادىء الأساسية) “العراق دولة مستقلة ذات سيادة غير قابلة للتجزئة ونظام الحكم فيه جمهوري ديمقراطي برلماني إتحادي، يقوم على أساس الحقائق الجغرافية والتاريخية وليس على أساس العرق أو العنصر أو المذهب أو القومية” وبالمقارنة مع الدستور النافذ، فقد خلا المشروع من التناقضات الصارخة والإلتباسات التي أثارات تفسيرات وتأويلات خاصة لكل فريق حاول أن يتشبث بها في حين تشبّث الفريق الآخر بما يعارضها، حيث أكّد مشروع السيّد بحر العلوم على أنّ “العراق بلدٌ متعدّد القوميات ويقرّ هذا الدستور الحقوق المشروعة لهذه القوميّات كافّة ضمن الوحدة العراقية” (المادة – 5) .
ولعلّ هذا الأمر الذي ظل هاجساً مقلقاً للأطراف المختلفة التي ينظر كل منها بارتياب إلى الآخر بما فيها تلك التي لا تنظر إلى الدستور باعتباره مرجعية للدولة بصفته القانون الأساسي، إلاّ إذا انسجم مع تفسيراته، أو عبّر عن مكاسبها وامتيازاتها ومغانمها، وكثيراً ما كنا نسمع إشادات بالقضاء حين يصدر حكماً يتفق مع رأي هذه الكتلة أو تلك، وتنديداً واتهاماً بالتسييس حين يصدر حكماً مخالفاً لمصالحها أو تأويلاتها، علماً بأن القضاء هو الآخر ظلّ يتعرّض لضغوط كثيرة من جانب قوى الإرهاب ولإعتباراتٍ مذهبية أو طائفية أو إثنية أبعدته في الكثير من الأحيان عن وظيفته.
فيدرالية خصوصيّة!!
وبهذا المعنى فإنّ مشروع السيّد بحر العلوم أقرّ صيغة الفيدرالية، لكنّه لم يذهب إلى الإقرار بإقامتها على أساس عرقي أو استناداً إلى العنصر أو المذهب أو القومية، بل أكّد على قبولها وفقاً للحقائق الجغرافية والتاريخية، أي اعتمادها على مبادىء إدارية لا مركزية بتوزيع سلطات الدولة بين الإتحاد والأقاليم، وبهذا المعنى فإن مشروعه اتخذ موقفاً مسبقاً من الدعوات التي راجت بالدعوة إلى فيدرالية جنوبية، كما كان قد تحمّس لها السيد عبد العزيز الحكيم، وفيما بعد اتخذ البرلمان قراراً في العام 2007 بالتصويت على إقرار فيدرالية الجنوب، ولكن تمّ تأجيل تنفيذها لثمانية عشرة شهراً. حتى طواها النسيان ولم يراجع البرلمان قراره ذلك لتنفيذه بعد انقضاء تلك المدّة، بل أن بعض الجماعات المتحمّسة لها لم تكن كما كانت في السابق.
وبين الفينة والأخرى، يرتفع شعار الفيدرالية بين بعض القوى والشخصيات السياسية، خصوصاً ما يتعلّق بإقليم البصرة، بسبب الغبن والإجحاف الذي لحقه منذ الحرب العراقية – الإيرانية العام 1980 وإلى اليوم، لكن تلك الدعوات لم تلق استجابة كافية، لبعض دوافعها المذهبية والطائفية كما هي الدعوات التي لاقت حماسة لفيدرالية سنّية تضمّ جزءًا من المحافظات السنّية، أو فيدرالية خاصة بالموصل وغير ذلك، علماً بأنه غالباً ما يتمّ مقارنة الرغبة في إقامة فيدرالية بـ “فيدرالية إقليم كردستان” التي لها ظروفها الخاصة الدولية والمحلية والتاريخية، حيث تطوّرت الفكرة من الحكم الذاتي إلى الفيدرالية في إطار مبادىء حق تقرير المصير، ناهيك عن أن قيامها كان على أساس قومي، بفعل عوامل تتعلّق بالهوية الفرعية .
جدير بالذكر الإشارة إلى أنّ ما سمّيّ بالمكوّن السنّي كان من أشدّ المعارضين للدستور بسبب النصّ الخاص بكون العراق دولة إتحادية “فيدرالية”، لكن الأمور تغيّرت حيث يندفع فريق من داخل ما يسمّى بالمكوّن السنّي للمطالبة بالفيدرالية كوسيلةٍ للشعور العام بالتمييز الطائفي وهي شكوى ظلّت قائمة منذ الإحتلال الأمريكي للعراق، مثلما كانت هذه الشكوى باسم المظلومية قائمة لدى الشيعية السياسيّة بشكل عام في ظلّ الأنظمة السابقة، بل ومنذ تأسيس الدولة العراقية. ولكن هذه المطالبات للسنّية السياسية لقيت ردّ فعلٍ من جانب رئاسة الوزراء الشيعيّة، خصوصاً في عهد نور المالكي، ولدى ما أُطلق عليه “البيت الشيعي”.
ومثلما جرى الحديث عن القوميات بشكل عمومي في دستور السيّد، فقد جرى الحديث عن كفالة الدستور لذوي الأديان الأخرى والعمل بمقتضى شرائعهم وممارسة طقوسهم.
الحقوق السياسية
أما في باب الحقوق الأساسية فقد أكّد على مبادىء المساواة في الحقوق والواجبات (م- 10) – أ وكذلك على تكافؤ الفرص – (ب) والحريات العامة والخاصة مضمونة للجميع – م 12 (أ)
و (ب) – أكّد على حريّة الفكر والرأي والتعبير.
و (ج) – وحريّة الدين والمعتقد وممارسة الشعائر الدينية مكفولة لجميع الأديان والطوائف.
وفي مبدأن الحق في التنظيم والإعتقاد أقرّ في المادة 13 – حق تشكيل الجمعيات والأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني مضمون للجميع.
وفي باب الحريّات أكّد على مبادىء الحريّة المادة (14) “حرية الشخص وكرامته وشرفه مصونة” فلا يجوز التعرّض لها على نحو تعسّفي، أو غير قانوني لخصوصيات أحد أو شرفه أو سمعته، كما أكّد على حرمة دور العبادة ومعاهد العلم والمساكن الخاصة، وذهب إلى تأكيد الحق في محاكمة عادلة وعلنية (م 15) والمتهم بريء حتى تثبت إدانته. أما المادة (16) أكّدت أن العقوبة شخصية. وحرّمت المادة (17) التعذيب. وتناولت المادة (19) الملكيّة الخاصة وحريّة التصرّف مصونة ولا ينتزع ملك أحد إلاّ لأغراض منفعة عامة ولقاء تعويض عادل. كما تناولت المواد (22، 23، 24) بعض الحقوق السياسية والمدنية والحقّ في الأمن والتعليم والصحة والضمان الإجتماعي، وهي مبادىء عامة.
وقد تجنّب مشروع السيّد بحر العلوم أي ذكرٍ فيما يتعلّق بما سُمّي “بالمكونات” التي وردت في الدستور العراقي النافذ.
فقد وردت عبارة “المكوّنات” في الدستور العراقي الدائم 7 مرّات[4]، (مرّتان) في الديباجة، في المرّة الأولى عند تحديد فجائع شهداء العراق “شيعة وسنّة، عرباً وكورداً وتركماناً ومن مكوّنات الشعب جميعها…” وفي المرّة الثانية تأكيده “نحن شعب العراق الذي آلى على نفسه بكل مكوناته وأطيافه…”.
وورد مصطلح “المكوّنات” في المادة 9 حين جرى الحديث عن “القوات المسلّحة والأجهزة الأمنية” التي قال عنها: “تتكوّن… من “مكوّنات” الشعب العراقي بما يراعي توازنها وتماثلها دون تمييز أو إقصاء…”.
ووردت مسألة “المكوّنات في المادة 12 بالإشارة على أنّ علم العراق وشعاره ونشيده الوطني ينبغي أن “يرمز إلى مكوّنات الشعب العراقي”.
وفي المادة 49 عند حديثه عن مجلس النواب أولاً: بما”… يراعي تمثيل سائر مكوّنات الشعب فيه”.
وفي المادة 125 التي نصّت على ضمان الدستور لـ “الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية للقوميات المختلفة كالتركمان والكلدان والآشوريين وسائر المكوّنات الأخرى…”.
وفي المادة 142 حين تحدّث الدستور عن تشكيل مجلس النواب لجنة من أعضائه “تكون ممثلة للمكوّنات الرئيسة في المجتمع العراقي، مهمتها تقديم تقرير إلى مجلس النواب خلال مدّة لا تتجاوز أربعة أشهر يتضمّن توصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجرائها على الدستور”.
وليس ذلك سوى تأكيد لنظام المحاصصة الطائفية – الإثنية التي تأسّس عليها مجلس الحكم الإنتقالي والتي انعكست على نظام إدارة الدولة ومن بعده الدستور الدائم.
أعتقد أن السيّد بحر العلوم حاول الإبتعاد في مشروعه عن موضوع “المكوّنات” لأنه لمس لمس اليد أنّ الدولة أخذت تنحدر أكثر فأكثر في طريق التقاسم الوظيفي والزبائنية السياسية القائمة على المغانم، وكانت مبادرته بمثابة مراجعة ونقد للمرحلة السابقة التي كرّست قاعدة “المكوّنات” واقعياً في الحياة السياسية ما بعد الإحتلال عبر قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية.
وقد ولّد ذلك ضعفاً شديداً في مرجعية الدولة، خصوصاً بتصنيف الناس وفقاً للاعتبار الطائفي والإثني وعلى نحوٍ مسبق مع تعويم للعروبة، وهو ما جعل الولاء قبل الكفاءة، لا سيّما حين اختلط ذلك بأعراف وقوانين عشائرية تغوّلت على الدولة و “حكم القانون”، وكان من نتائجه استشراء الفساد المالي والإداري وتفشّي ظواهر العنف والإرهاب، بشيوع ظواهر التعصّب ووليده التطرّف التي لعبت سنوات الإستبداد والدكتاتورية في ظلّ النظام السابق، إضافة إلى الحروب والحصار دوراً كبيراً في تغذيتها، خصوصاً بانتشار السلاح والاستقواء به عبر ميلشيات وقوى مسلّحة باستخدام أجهزة الدولة أحياناً أو قوى منفلتة من خارجها.
إنّ استعادة دستور السيّد بحر العلوم ومشاريع دساتير أخرى، هدفه الأساسي هو تنقية الدستور النافذ من ألغامه وحلّ إشكالياته الأساسيّة وإلغاء وشطب كلّ ما يتعلّق بالتقاسم الطائفي والإثني أو تعديله بما يعزّز مبادىء المواطنة ويحرّم الطائفية.
وإذا كانت التجربة العراقية قد اقتفت أثر التجربة اللبنانية، أي “لبننة الدستور”، إضافة إلى أعراف وتقاليد ارتقت لتصبح قواعد واجبة التطبيق في توزيع المناصب العليا، الأمر الذي أدى إلى تعويم المواطنة وتعطيل التنمية وإضعاف الهويّة الوطنية الجامعة، إلى درجة أصبح من الصعب تغييرها على الرغم من الإحتجاجات الشعبية الواسعة التي شهدها البلدان في العام 2019، وهو ما أوصلهما باعتماد المعايير الدولية إلى أن يكونا دولتين فاشلتين. فهل فكّر المشرّع العراقي أو من يقف خلفه بذلك يوم سار على خطى التجربة اللبنانية، أم ثمّة خفايا وخبايا ما وراء الأكمّة، حيث التشبّث بصيغة “المكوّنات” والمحاصصة، عوضاً عن المواطنة والهوية الجامعة.
مع السيد بحر العلوم في النجف في 3 تموز/ يوليو 2003.
[1] أنظر خطّة مقترح دستور الجمهورية العراقية الإتحادية، مكتب السيّد محمد بحر العلوم، تموز/يوليو 2005.
[2] أنظر: المادة 142 من الدستور العراقي النافذ الذي حدّد 4 أشهر لإجراء التعديلات من لجنة تمثّل “مكوّنات” الشعب العراقي، على أن يجري حلّها بعد ذلك.
[3] أنظر: مساهماتنا الدستورية، كتباً وأبحاثاً ودراسات ومشاريع ومنها: كتاب “إشكاليات الدستور العراقي المؤقت، الحقوق الفردية والهياكل السياسية”، كراسات استراتيجية، مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية، العدد 140، السنة الرابعة عشر، يونيو/حزيران 2004، وكتاب “العراق: الدستور والدولة: من الإحتلال إلى الإحتلال”، دار المحروسة، القاهرة، 2004. وكتاب جماعي “برنامج لمستقبل العراق بعد إنهاء الإحتلال،”مشروع دستور لجمهورية العراق ما بعد التحرير” – أعدّ بتكليف من “مركز دراسات الوحدة العربية” من فريق من الخبراء وهم: يحيى الجمل ومحمد المجذوب وعصام نعمان وخليل الحديثي وخير الدين حسيب وعبد الحسين شعبان.”المنسّق”. وبحث بعنوان “الدولة والدولانية والدستور والدستورانية في العراق، إشكاليات منهاجية وإشكاليات عملانية”، مجلة حوليات المنتدى، (وهي مجلة علميّة محكّمة) العدد 43، السنة الثالثة عشر تموز/يوليو 2020. وبحثنا الموسوم “ثقافة المواطنة وفكرة الدولة” مجلة حوليات المنتدى، العدد 45، كانون الثاني/يناير 2021، وكذلك ورقة عملٍ تتضمّن مبادىء دستورية كان قد طلبها مني الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى العراق. مطلع العام 2004. وقد أوصلها له المحامي حسن شعبان.
[4] أنظر: دستور جمهورية العراق لعام 2005، موقع مجلس النواب العراقي.