أصبح مصطلح “الإرهاب الدولي” جزءًا من الخطاب الشائع في الربع الأخير من القرن الماضي؛ وكثر الحديث عنه بعد فاجعة 11 أيلول / سبتمبر 2001 الإرهابية الإجرامية، التي حصلت في الولايات المتحدة بتفجير برجيْ التجارة العالمية في نيويورك، والتي تمرّ ذكراها هذه الأيام. وكان ذلك من مبرّرات واشنطن لإقدامها على احتلال أفغانستان العام 2001 والعراق العام 2003؛
و منذ ذلك التاريخ وماكنة الدعاية والإعلام في الغرب تدور، لتنتج مسوّغات وحجج ووسائل ناعمة وخشنة لدمغ مليار وما يزيد عن نصف المليار من العرب والمسلمين بالإرهاب، حيث وضعتهم في “خانة واحدة” وشمل الأمر بعض دولهم التي اعتبرت “مارقة” و”خارجة على القانون” في نوع من “الإرهاب الفكري” أيضًا، إضافة إلى الحرب الفعلية المعلنة.
وإذا كان تنظيم القاعدة يعتبر إرهابيًا لأنه بنى استراتيجيته على محاربة ” اليهود والصليبيين” منذ أواخر التسعينيات، وأن تنظيم داعش هو الآخر يندرج تحت لائحة الإرهاب باستراتيجيته المعروفة وسعيه المحموم لإقامة نواة “الدولة الإسلامية في العراق والشام” في العام 2014، فهناك تنظيمات صنّفها الغرب بكونها “إرهابية”، إلّا أنها نشأت في بلدان مسيحيّة أو غير مسيحيّة (بادر ماينهوف الألمانية والألوية الحمراء الإيطالية والجيش الأحمر الياباني السرّي والجيش الجمهوري الايرلندي ومنظمة فارك الكولومبية وغيرها) ، فلماذا يتمّ الإصرار على نعت ما تقوم به المنظمات التي نشأت في بلاد العرب والمسلمين بالإرهاب الإسلامي؟
هكذا ما تزال الصورة ضبابية، بل وإغراضيّة ، حيث يتم إسقاط الرغبات على الواقع لأهداف سياسية عدائية ومصالح أنانية ضيّقة، فالعرب والمسلمون شأنهم شأن غيرهم يختلفون تبعًا لاختلاف المصالح والأهداف والتصوّرات، والإسلام ليس كلّه ولا حتى المسلمين كلّهم تنظيم القاعدة أو داعش، بل أن الغالبية الساحقة من المسلمين هم ضدّ الإرهاب، لكن للأسف تستمر النظرة الغربوية إلى منطقتنا وديننا باعتبارهما المصدر الذي يحضّ على الإرهاب والعنف في قراءة مبْتسرة ومشوّهة للنصوص الإسلامية، وهي ذاتها التي اعتمدت عليها القاعدة وداعش وأخواتهما، وذلك بإغفال متعمّد لعدد من الحقائق الباهرة، وهي أننا كباقي الشعوب لدينا حضارة وتاريخ زاخرين بكلّ ما هو إنساني، دون أن ننكر بعض الجوانب السلبية الموجودة أيضًا، بل ويوجد مثلها وأكثر منها بكثير في العديد من الحضارات والثقافات.
نحن مجتمعات تتأثر بما يجري في العالم من تقدّم في العلوم والتكنولوجيا والأفكار والمكتشفات، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال فصلنا عن جذورنا، مثلما لا يمكن فصل الآخرين عن جذورهم بأحداث قطيعة أبستمولوجية مع واقعنا وتاريخنا وتراثنا.
ولعلّ كلّ من يعتبر نفسه مسلمًا، سواء كان مؤمنًا أم غير مؤمن، متديّنًا أم غير متديّن، علمانيًا أم متزمتًا، مجدّدًا أم محافظًا، يساريًا أم يمينيًا، يشعر بهذا الانتماء عن وعي صميمي بأنه جزء من هويّة كبرى أسمها الإسلام، وهو يحتفل بأعياده الإسلامية ويطلق الأسماء الإسلامية على أبنائه وأحفاده ويقيم مراسم العزاء والدفن على الطريقة الإسلامية، بل أن بعضهم لا يأكل اللحوم إلّا إذا كانت مذبوحة على الطريقة الإسلامية، لكن هذا شيء والتنظيمات الإرهابية شيء آخر.
وإذا كانت هذه التنظيمات تحاول أن تستمدّ شرعيّتها من الدين الحنيف، فإن بعض الحكومات هي الأخرى تنسب نفسها إليه وتحاول أن تمنح نفسها مثل هذه “الشرعيّة” بتشدّقها، ويبقى الإسلام ، بغضّ النظر عن الادعاءات والتبجّحات حضارة وهويّة لأمم وشعوب وتكوينات عرقيّة وإثنيّة وسلالية لعبت دورًا في توجّهها وفي نظرتها إليه، دون أن تضع حاجزًا أمام انخراط المسلمين في الركب العالمي نحو الحداثة والمدنية والتنمية.
لقد ارتبط الإسلام بوجدان الشعوب العربية والإسلامية واضطلع بدور كبير في التصدّي لمحاولات فرض الهيمنة والاستتباع ومحو الهويّة منذ حروب الفرنجة إلى محاولات الاحتلال الاستعماري وصولًا إلى عمليّات التغريب والإلحاق الاقتصادي ونهب الموارد، وهو يمثّل المشترك الإنساني الذي تستند إليه الهويّة بغض النظر عن اللغة والقوميّة، وتبقى حاجات المجتمعات الإسلامية مثل حاجات المجتمعات الأخرى إلى الصحة والتعليم والعمل والعدالة والتنمية.
لقد اعتمدت السياسة الغربية على وجهات نظر انتقائية بخصوص الإسلام، “فالمجاهدون الأفغان” أيام الاحتلال السوفييتي يستحقّون الدعم، ولكنهم أصبحوا “أبالسة” بعد تصدّيهم للسياسة الأمريكية، وأي موقف اعتراضي ضدّ السياسة الأمريكية يمكن وضعه تحت هذا التوصيف. جدير بالذكر أن جهودًا حثيثة نظرية وعملية قانونية وسياسية، بذلت طيلة نصف القرن المنصرم لتعريف الإرهاب الدولي، لكنها لم تصل إلى النتيجة المرجوّة، وذلك وحده يكفي لإقامة الدليل على دور القوى المتنفّذة التي لا تريد التوصّل إلى تعريف مانع وجامع لمفهوم “الإرهاب الدولي” وتتصرّف على هواها باتهام دول وحركات وتيّارات بالإرهاب حتى وإن كانت هذه تدافع عن حقوقها ضدّ احتلال أراضيها ، مانحة نفسها حق احتكار العدالة، الأمر الذي يثير كثيرًا من الصراعات والتحديات بشأن الخصوصيات الثقافية والتنوير والحداثة وعلاقة الدين بالسياسة والقانون.