يُخطأ من يعتقد ان الدولة الاموية هي الخطأ الاساس… في السياسة الدينية عند المسلمين؟
د.عبد الجبار العبيدي
لا يمكن للباحث ان يرسم خطا فاصلا بين الناحية الدينية وغيرها من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية،في المجتمعات التي نشأت وفق القاعدة الدينية.لخضوعها للجانب الديني وتجميع كل السلطات بيد الخليفة ،لذا فأن اي تغيير في مجال السياسة ولا يتلائم والمنطق الديني السائد يُعد خروجا،وبالتالي يعتبر صاحب السلطة السياسية منحرفاً عن الدين.فهو بنظر الاخرين المتمسكين بتلك العقيدة الدينية يستحق الوقوف بوجهه وعزله عن السلطة. او الثورة عليه وازاحته من ساحة الحكم بالقوة والعنف.ان سياسة الخلفاء الراشدين التزمت بهذا الاتجاه والذي كان متمشيا مع الظروف الزمانية لتلك الدولة. ولو ان رياح التغيير بدأت تهب على الخلافة الاسلامية منذ وقوع الفتنة في عهد الخليفة عثمان بن عفان(رض) لاستغلال الولاة سلطة الخليفة لصالحهم ولظلمهم الرعية في ولا ياتهم.
وبأنتهاء عصر الخلفاء الراشدين ومجيء الامويين للسلطة تغيرت الصورة تماماً.وخاصة بعد ان جعل الامويين الامر ملكا ًوأهملوا التمسك بسياسة السلف، لذا فنحن لا نستطيع الحكم على السياسة الدينية للدولة الاموية الا من خلال سياسة الدولة العامة، حيث اقتضى النظام الجديد الذي جاء به معاوية الاول ان يكون الخليفة رجلا ذا مرونة لا يتقيد بالتقاليد السابقة تقيدا تاماً، بل يأخذ من تلك التقاليد ما يناسب عصره ويترك ما عداها. وكان معاوية بحق هو الرجل الذي يستطيع ان يمثل ذلك العصر لما آوتي من ميكافيلية السياسة وغيرها من الصفات التي أهلته لحكم الدولة الجديدة. ومكنته من نقل الدولة من نظام الخلافة الذي يعتمد على الشورى والانتخاب الشكلي ويستند الى الدين ، الى نظام الدولة الذي يقوم على اساس التوريث ويستند الى الرأي والدين في آن واحد. وبذلك اصبحت الخلافة الاموية اقرب الى السياسة منها الى الدين. وهذه نقلة نوعية لسلطة الدولة التي اسست على الشرعية الدينية دون سواها. لكن الشرعية الدينية ظلت رمادية التطبيق منذ وفاة الرسول (ص) وحتى مجيء الامويين.
من هنا بدأ الافتراق واصبحت تصرفات الخليفة الاموي مجافية للشرع بنظر الاخرين ،مما جعل العامة تنفر عنها، لجرها سياسات جديدة كالعصبية القبلية مقابل ارضاء العامة بجهاد المغانم ونشر الاسلام بقوة السيف لا بالقناعة ، ولقد حاول الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت101 للهجرة) العودة لسياسة السلف دون جدوى..
ان اول مظهر من مظاهر التزييف في حكم الدولة الاسلامية هي ما سمي ببيعة عام الجماعة واخذالبيعة من الناس وان كانوا كارهين لها ،ويتمثل ذلك في قول الاعرابي الذي دعاه معاوية في الكوفة اثناء زيارته لها لبيعته، فقال له الاعرابي (أبايعك يا معاوية وانا كاره لك، فقال معاوية له، بايع فقد خلق الله في المكروه خيرا كثيرا). وكلمة المكروه استقها من ( سورة الحج آية 5) التي تحدثت عن النطفة التي اعتبرت بمقياس العرب من النجس .وبما ان الانسان قد خلق منها فهو شر جاء بمنظار الخير،فلسفة ابتدعها معاوية من القرآن لم يدركها الا قلة من العارفين .
ان استحداث نظام التوريث كان حديث عهد بالدولة الاموية ابتدعته ولم تحسب له حساب الزمن والتشريع الذي لازال هو الاخر حديث عهد عند الناس، فحتى تبرهن على نجاحه لابد من توفر المبررات الشرعية والقانونية له، فسلطة القوة لم تكن هي الوحيدة النافعة في التطبيق، لذا لابد من استخدام النص الديني لاقناع العامة بما تريد تطبيقة في وقت كان النص الديني يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي بعد ان استطاع المسلمون ان ينشئوا لهم نظاما سياسيا واخلاقيا خاصا بهم يصعب اختراقه بالقوة تأويل زمني متحرك بين النص والمحتوى هنا أخطأت الدولة حين فهمت النص دون تغيير المحتوى فجعلته هو الدين.. وهذا ما تتبعه سلطة الدين اليوم في دولة العراقيين
ان الدولة الاموية واجهت مشكلة لا تعرف لها حلا ، ولم تواجهها دولة ملكية من قبل ، وهي حاجتها الى التعايش مع دستور شرعي لا يعترف بشرعيتها كما نحن اليوم . والخليفة الاموي يريد ان يحكم بموجب وراثة االعرش ، والقرآن يرفض التوريث بموجب اية الشورى (وشاورهم في الامر) وهي آية حدية ومبدأ قرآني سياسي لا يمكن تجاهله او الالتفاف عليه فهي ملزمة لزوم بقية الاركان لا يجوز تجاوزها ابدا. والخليفة الاموي يريد حصر الثروة بيده والقرأن يقف موقف المعارض من حصر الثروة دون اشراك الناس بتوزيعها حين يسمي الميزانية للدولة بمال الله (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم). ,والخليفة يستند الى فتاوى الفقهاء ،والقرآن لايعترف برجال الدين ولا يخولهم حق الفتوى نيابة عن الناس. والخليفة يصفي خصومه السياسيين والقرأن يرفض قتل النفس الانسانية بغير فساد في الارض (من قتل نفساً بغير نفسٍ او فسادٍ في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً). كما هو اليوم عند حكام من يعادون الامويين ويقلدونهم في خطأ التطبيق في عراق المظلومين .
لقد فشلت الدولة الاموية حين اهملت العلاقة الجدلية بين الانسان والبناء الحضاري ولم تدرك ان قمة الكمال الحضاري في الاسلام جاء متكاملا بنصوص الشريعة التي هي بحاجة الى أداة للسياسة بأضفاء القداسة عن طريق القراءة الحرفية وأنتقائية للكلام المنزل وحين جابهت اشكالية التطور ابتدع الفقهاء فكرة التفسير بوجب نظرية الترادف اللغوي الخاطئة دون التأويل لمحتوى النص لاخفاء الفشل في تحقيق الرسالة.. وقد جاراهم العباسيون بنفس الخطأ في التطبيق.أنظر خطبة المنصور (ت158 للهجرة).في الطبري ج8 ص89..
وعلى اي حال لم يكن امام الخليفة الاموي في ظروف هذا التناقض الشامل الا مصادرة القرآن واستبداله بنص شرعي جديد سماه الحديث والرسول يقول (لا تنقلوا عني غير القرآن،مسلم حديث رقم 5326 الزهد والرقائق، لكن ابن حجر يخالف مسلم ويقول ليس لهذا من أصل) .وهناك أراء متضاربة في هذا الخصوص..) وظل الخوف يساوي الاختراق الذي حصل فعلا لصالح الخلافة وليس لصالح الدين والدولة. وكل خطأ يولد خطئا اخر حتى وقع الجميع في اشكالية التدهور والسقوط .
هكذا لم تفد الامويين تسويات اهل التسوية والعدل وارادوا تطبيقهما بالقوة ، فظهرت الشعوبية حين رفعت الدولة شعار التفريق بين العرب والموالي والمناوئة بقوة لها، فظهرت الخلافة الاموية منهمة بالعصبية المرفوضة بقول الحق (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل ان اكرمك عن الله اتقالكم) اي اقربكم للتقوى وليس للعصبية وكما يطبقون اليوم حكام العراقيين جدلية بين الحاكمين اليوم والامس في التطبيق ، وبين الذهب والسيف (السيف أمضى من الكتبِ) ففتح المجال لمجتمع الاهواء الفردية ، وظلت الحلقات الخاطئة والابتكارات المرفوضة شرعا الواحدة تسحب الاخرى بالاتجاه المضاد حتى تقطعت اوصالها فانهارت كل الحلقات وتبعتها انهيار كل التفصيل للشريعة والتزاماتها الدينية فدخل الاسلام في منعطف خطير حين اصبح الاسلام يعيش في لغة الناس وليس في واقعهم..واذا كانت القيادة الاموية استخدمت هذه الطريقة في الاستيلاء على السلطة فأعداؤهم الحقيقيون اليوم يستخدمون السلطة الدينية لنفس الغرض ..جدلية بحاجة الى دراسة وتدقيق.
ونتيجة للذي حدث في امر الحكم والمال استمرت القوة مع الافتراقات وحين اصبح النقص يعلو على القوة ظهرت بوادر التدهور الذي ساق الى السقوط ..كما هي بوادر الضعف والتدهور يلاحقهم قبيل السقوط.
نستطيع ان نقول ان الدولة الاموية تتحمل وزر تفتيت الشريعة لكن هذا التفتيت قد ولد قبل الامويين حين ظهرت الردة والفتوح والفتنة والخلاف الاموي العلوي الذي انتهى بصفين ، ونتج عنه ما يعرف تاريخيا بظهور حركة الخوارج التي حوربت دون محاورة التحقيق . ولا زال تاريخهم يقرأ ليس على الصحيح..