كان “سلطان” الذي يبلغ من العمر 15 عامًا يقضي وقتًا طبيعيًّا روتينيًّا مع عائلته، في مزرعتهم الصغيرة التي تبعد مسافة ثلاثة كيلومترات عن قاعدة جبل سنجار، ومحاطًا بأقاربه الذين يكوِّنون عائلة كبيرة تتكون من قرابة ١٥٠ شخصًا. كان سلطان يسمع من كبار السن عن الفرمانات (الأوامر أو الأحكام الموقَّعة من السلطان)، المرتبطة بالإبادات الجماعية التي تعرَّض لها الإيزيديون عبر تاريخهم، لكنه لم يتصور أن يصبح هو نفسه ضحية للإبادة الأخيرة.
في الساعة العاشرة صباحًا، وصل مقاتلو “داعش” إلى الشارع الرئيس الذي يبعد عن مزرعة عائلة سلطان 40 مترًا، وبدؤوا بإطلاق النار عشوائيًّا، وقتلوا قرابة ٥٠ شخصًا. صارت أخته الصغيرة تبكي وهي تلاحظ الذعر على وجوه أفراد العائلة، ثم صرخت “سوف يقومون بقتلنا”. حين دخل مقاتلو داعش المزرعة، سرعان ما فرقوا أفراد العائلة. فأدخلوا سلطان مع الأطفال الصغار غرفة المطبخ وأغلقوا عليهم بإحكام، ثم فرز المقاتلون ٣٤ امرأة وطفلًا، كانت من ضمنهنَّ ثلاث شقيقات لسلطان. وفي غضون دقائق قليلة دوَّى صوت الرصاص، فعرف سلطان أن الرجال في عائلته جرت تصفيتهم، في حين اختُطفت الفتيات الشابات وأعدمت كبيرات السن بطرق مختلفة. حُشر بقية الأحياء من الضحايا في سيارات القتلة، وعندما لم يتبقَّ مكان لوضع الصغار فيه، قرر الإرهابيون ترك سلطان مع بقية الأطفال في آخر لحظة.
ما إن غادر القتلة حتى قرر سلطان الفرار، فقاد بقية الأطفال الصغار في رحلة إلى جبل سنجار، وخلال أكثر من عشرة أيام في الجبل واجه تقلبات مناخيّة صعبة للغاية، من حر النهار وبرودة الليل، في ظل عراء موحش، فضلًا عن صورة القتل الجماعي التي ظلَّت تلاحقه في ساعات نومه القلقة.
خلال الأعوام الثمانية اللاحقة تغيرت شخصية سلطان كليًّا، إذ تَحوَّل من طفل وديع وحالم إلى رجل يحمل مسؤولية تغيير العالم على كاهله. تدريجيًّا كان يعيد تمثيل سيرة أجداده، مدركًا أن قصته ليست بجديدة، بل تُمثل استمرارية مأساوية عبر الأجيال. ولكونها كذلك، فقد اختَصرت قصص جيل كامل من الناشطين والناشطات فيما بعد الإبادة الجماعية أيضًا.
في تاريخ الأقلية الإيزيدية، تُعبِّر “أطروحة الاستمرارية» (The continuity thesis) في تاريخ الأقلية الإيزيدية عن فكرة التواصل التاريخي الطويل المدى، لِبُنًى اجتماعية وثقافية تتمحور حول: الاضطهاد المنهجي، والتمييز على أساس ديني، ومحاولات تغيير العقيدة الدينية بالقوة، مرورًا بالعنف الموجه ضد أفراد الأقلية، ووصولًا إلى المذابح المنهجية والإبادات الجماعية التي تتخذ في الذاكرة الإيزيدية تسمية “الفرمانات».
تقف فكرة الاستمرارية على النقيض من فكرة التغيير الدائم والتقدم والتحديث، من خلال سلسلة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتغيرة، التي ترتَّب عليها إعادة إدماج الإيزيديين في بنية اجتماعية حداثوية، ابتداء من ولادة الدولة الوطنية في العراق سنة 1921، وتعاقُب الأنظمة السياسية منذ العهد الملكي مرورًا بالعهد الجمهوري 1958-2003، والتي تستند إلى دساتير تقوم في ظاهرها على مبدأ المساواة وفكرة المواطنة. ووفقًا لمنظور الاستمرارية (لا شيء جديد تحت الشمس)، فالعالَم -بالنسبة إلى الإيزيديين- في عَود أبدي، والعنف يغيب تارة ليبزغ بعد حين في شكل آخر وتَجلٍّ جديد. وعلى الإيزيدي في كل مرة أن يبدل الأقنعة والوجوه لكي يجري تَقبُّله في ضمن بنية الثقافة السائدة، أو يلوذ بالجبل صديق المضطهدين في نوع من التقية الإيكولوجية، أسوة بما فعلته الأقليات الدينية المهدَّدة في الشرق الأوسط.
لقد أصبحت الإبادة الجماعية حدثًا تأسيسيًّا للهوية الإيزيدية المعاصرة، ومؤثرًا في وجهات النظر والقرارات الشخصية والمجتمعية. فتمامًا كما أطلق المؤرخ “ألون كونو” على الهولوكوست وصْف: “الماضي التأسيسي” للهوية اليهودية، لا تزال الإبادة الجماعية التي حصلت في عام 2014 حية ومستمرة بالنسبة إلى المجتمع الإيزيدي، خاصة مع استمرار الصراع السياسي حول إدارة الأراضي الإيزيدية الأصلية في سنجار، ومع ارتفاع معدلات الهجرة وتشتت المجتمع أكثر فأكثر.
جاءت صدمة الفرمان الأخير (الإبادة الجماعية عام ٢٠١٤)، مفجِّرة لقوى الذاكرة، ومفعِّلة للماضي المؤسَّس على استمرارية الاضطهاد؛ فإذا بها تحفز الإيزيديين على التطلع إلى نموذج جديد بعد نزوحهم وهجرتهم داخل البلاد وخارجها. لكن هذه المرة، لم تعد هويتهم ومعتقداتهم محط صراع، بل برز بُعد جديد للصراع حول أراضيهم التي أصبحت محط صراع داخلي/إقليمي/دولي (ما بعد الربيع العربي في سوريا وما بعد داعش في العراق)، وسط فوضى دولة عسيرة التشكل وفق نموذج مستقر، وتدخُّل إقليمي ودولي في شؤون البلاد، على نحو لم يسبق له نظير.