هل يفلح بايدن في جمع الحلفاء بعد افتراق مساراتهم؟
د. حميد الكفائي
كان الديمقراطيون في الولايات المتحدة يركزون تقليديا على السياسة الداخلية أكثر من الخارجية، لكن تطورات الأحداث العالمية دفعت الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى الربط العضوي بين السياستين، فأميركا الآن تواجه تحديات كبرى وخطيرة، داخلية مرتبطة بالخارج وخارجية مرتبطة بالداخل، ولن تنجح إدارته في مواجهة هذه التحديات دون تنسيق الجهود مع حلفائها التقليديين في أوروبا وآسيا.
لم يعد الفصل بين السياسات الداخلية والخارجية ممكنا في عالم اليوم في أي بلد في العالم، ناهيك عن الدول الكبرى، التي تتوزع مصالحها في أنحاء العالم المختلفة. كما أن التحديات الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة كبيرة، وتحتاج إلى سياسات مدروسة وتنسيق دقيق ويجعلها تتكامل مع سياسات الدول التي تتطابق مصالحها معها.
حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا يسعون حثيثا لأن يكونوا أكثر استقلالا عنها في سياساتهم الاقتصادية، والسياسية والعسكرية، فتجربتهم مع الرئيس دونالد ترامب، الذي رفع شعار “أميركا أولا”، وطبّقه على أرض الواقع، مازالت حية في أذهانهم، وهم ليسوا واثقين بأن أمثال ترامب لن يعودوا مستقبلا إلى حمل هذا الشعار، خصوصا وأن أكثر من 74 مليون ناخب صوتوا لصالح دونالد ترامب في الانتخابات الاخيرة، بينما صوت لصالح بايدن 81 مليون.
وعلى الرغم من أن الأوروبيين متفائلون بمجيء جو بايدن إلى السلطة، فهو من أكثر الرؤساء الأميركيين تحمسا لتوطيد العلاقات مع أوروبا، فإن أوروبا ما بعد ترامب تختلف عما قبله، فقد مثَّلت رئاسة ترامب جرس إنذار للأوروبيين بأن هنالك حدودا للاعتماد على التحالف مع الولايات المتحدة، مع استمرار التأييد الشعبي الواسع لسياسات ترامب.
لقد اعتمد الأوروبيون على الولايات المتحدة في سياساتهم الدفاعية، إذ كانت تقود أوروبا واليابان ودولا أخرى سياسيا وعسكريا واقتصاديا، لكن كل هذا قد تغير عندما وصل ترامب إلى السلطة، وحاول إضعاف الاتحاد الأوروبي، بتشجيع بريطانيا على الانسحاب منه، وهدد بالانسحاب من حلف الناتو، الذي أسسته الولايات المتحدة نفسها عقب الحرب العالمية الثانية، وتبنى سياسات منفصلة عن حلفاء الولايات المتحدة، ودون تشاور معها كما كان يحصل سابقا.
وفجأة، وجد الأوروبيون، ومعهم اليابانيون والكوريون الجنوبيون والكنديون والأستراليون بدرجات متفاوتة، أنفسهم وحيدين في الساحة، فاضطروا إلى التفكير بسلوك مسار مختلف عن السياسة الأمريكية.
فرنسا كانت تسعى دائما لأن تكون مستقلة في قراراتها، بل كانت في الحقيقة تناهض السياسات الأميركية، إذ رفضت السماح لبريطانيا بدخول المجموعة الاقتصادية الأوروبية مرارا، متجاهلة السياسة الأميركية، التي كانت تحث أوروبا على التماسك سياسيا واقتصاديا لمواجهة الاتحاد السوفيتي. كانت فرنسا الديغولية تعتبر بريطانيا عينا للولايات المتحدة داخل المجموعة الأوروبية، لذلك عارضت انضمامها في عهد الرئيس شارل ديغول، ولم تسمح لها بعضوية المجموعة الأوروبية إلا في عهد الرئيس جورج بومبيدو.
كما قاد الخلاف الفرنسي-الأميركي إلى انسحاب فرنسا من الهيكلية العسكرية لحلف الناتو عام 1966، إذ رفض ديغول أن يضع القوات الفرنسية تحت إمرة جنرال أميركي، ما أحدث تصدعا في الحلف، الذي كان دوره مركزيا في الدفاع عن أوروبا والتحالف الغربي ضد تهديدات الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية المتحالفة معه.
وقد ذهبت فرنسا بعيدا في مناهضتها للسياسة الأميركية، عندما أمر الرئيس ديغول البنوك الفرنسية ببيع كميات كبيرة من الدولار الأميركي بهدف إضعافه وزيادة الضغوط الاقتصادية على الولايات المتحدة، الامر الذي قاد إلى فك الارتباط بين الدولار ومقياس الذهب عام 1973 ودفع أوروبا إلى اتخاذ خطوات جدية لتأسيس الاتحاد النقدي الأوروبي.
هناك أسباب رسمية، تتداخل معها أخرى فعلية، تدعو الولايات المتحدة لإعادة تحالفاتها السابقة كي تتمكن من مواجهة التحديات الجديدة. الأسباب الرسمية هي اتخاذ موقف موحد تجاه التغير المناخي الذي يهدد العالم أجمع، وتكثيف الجهود للقضاء على جائحة كورونا، وتوحيد العالم الديمقراطي ضد القوى التسلطية (روسيا والصين)، التي بدأت تتوسع وتقوى في العالم، وحماية تايوان من التهديدات الصينية المتصاعدة، والمحافظة على التميز الذي تتمتع به هونكونغ، وفقا للاتفاقية المعقودة بين الصين وبريطانيا، ومساندة أوكرانيا في وجه المضايقات الروسية، والانتصار للقيم الغربية والقوانين الدولية التي تنتهكها الصين وروسيا، اللتان تساندان دولا تهدد السلم العالمي مثل كوريا الشمالية وإيران، أو تتساهلان وتتحالفان معها.
أما الأسباب الحقيقية فهي مواجهة التحديات الاقتصادية الصينية التي بدأت تتزايد ضد الولايات المتحدة وأوروبا، خصوصا مشروع الطريق والحزام الصيني ومعاهدة الاستثمار المعقودة مع الاتحاد الاوروبي، ومواجهة روسيا التي تشن هجمات سبرانية على الولايات المتحدة، وتنشط اقتصاديا في أوروبا، خصوصا بعد اتفاقها مع ألمانيا حول إنشاء خط (نوردستريم 2) الناقل للغاز من سيبيريا إلى ألمانيا، وضرورة اتخاذ موقف عالمي موحد لمكافحة جائحة كورونا التي عطلت الاقتصاد العالمي وقلصت الحريات العامة والخاصة وأهلكت ملايين البشر أو آلمتهم وعطلت نشاطاتهم، بالإضافة إلى مشكلة التغير المناخي التي لم يعد تجاهلها ممكنا.
في مسألة التغير المناخي، استمع المؤتمرون إلى كلمة للعالِم البيئي البريطاني، والإعلامي المشهور، ديفيد أتنبرا، الذي طالب الزعماء بأن يتخذوا قرارا عاجلا لإنقاذ البيئة من كارثة محتملة، وأن هذا القرار سيكون من أهم القرارات في تأريخ البشرية. وكانت الدول الصناعية قد اتفقت سابقا على تصفير الانبعاثات الكربونية بحلول عام 2050، لكن علماء البيئة يقولون إن هذا الجدول بطيء ولن ينقذ الأرض من الكارثة. وتعتزم الدول الصناعية الإعلان عن خطة لتقديم محفزات مادية لدول العالم الثالث كي تحد من الانبعاثات الغازية الملوِّثة للبيئة.
أما في قضية مكافحة فيروس كورونا فقد اتفقت الدول الصناعية على تقديم مليار جرعة لقاح إلى الدول الفقيرة، لمساعدتها في جهودها للقضاء على الجائحة. لكن هذا ليس كافيا في نظر كثيرين، فهناك ثمانية مليارات إنسان في العالم، معظمهم يعيش في العالم الثالث، وهم يحتاجون إلى مزيد من الأطباء والممرضين والمستشفيات والأدوية ومراكز الأبحاث كي ينجوا من الأمراض والفيروسات. وقد استقطبت القمة آلاف المحتجين على التلوث البيئي والفقر والمرض في العالم، وبعضهم سبح في الجزء البحري المقابل لموقع انعقاد القمة كي يراه المؤتمرون.
من المشاكل التي برزت في القمة مسألة أيرلندا الشمالية، وهي جزء من المملكة المتحدة، لكنها أصبحت فعليا جزءا من الاتحاد الأوروبي بسبب (بروتوكول أيرلندا الشمالية)، وهو أحد أجزاء اتفاقية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال إن أيرلندا ليست جزءا حقيقيا من بريطانيا، وقد اعترف وزير الخارجية البريطاني، دومنيك راب، بأن عددا من رؤساء الاتحاد الأوروبي الآخرين قد عبّروا أيضا عن رأي مماثل، “لكنهم مخطئون، ويمكننا أن نقول الشيء نفسه عن (كورسيكا) أو (برشلونة) أو (كتالونيا)”!
وقد برر الفرنسيون قول ماكرون بأنه كان يقصد أن أيرلندا الشمالية ليست جزءا من (بريطانيا العظمى) وليس (المملكة المتحدة)! وتضم بريطانيا العظمى كلا من إنجلترا وأسكوتلندا وويلز، بينما المملكة المتحدة تضم أيرلندا الشمالية إضافة إلى الأجزاء الثلاثة الأخرى.
الرئيس بايدن، وهو من أصل أيرلندي، هو الآخر مهتم كثيرا بمشكلة أيرلندا الشمالية، التي قد تتسبب في خلق مشكلة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، بل قد تحيي الصراع بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت في المقاطعة. السكان البروتستانت، ومعظمهم من أصول اسكوتلندية، متمسكون بالمملكة المتحدة، بينما الكاثوليك يريدون إعادة توحيد أيرلندا، أي الالتحاق بجمهورية أيرلندا (أيرلندا الجنوبية).
القضية الأخرى التي أثارت خلافا بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وبالتحديد ألمانيا وفرنسا، هي أن الأوروبيين لا يريدون أن يدخلوا طرفا في النزاع بين الصين والولايات المتحدة، خصوصا وأن الاتحاد الأوروبي أبرم معاهدة للاستثمار مع الصين. وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي قد جمَّد المعاهدة الآن بسبب الخلاف مع الصين التي فرضت عقوبات على أعضاء لجنة حقوق الإنسان الأوروبية بعد توجيهها انتقادا للسياسة الصينية بخصوص إقليم شينجيانغ، فإنها لم تلغَ كليا، والأوروبيون يعتزمون المضي قدما في التعاون مع الصين رغم الخلافات السياسية والأيديولوجية معها.
وقد أعلنت الدول السبع عن مبادرة بعنوان (من أجل بناء عالم أفضل) أو (B3W) لمساعدة الدول النامية على الاستثمار في البنى الأساسية، والتي تقدر احتياجاتها الاستثمارية بـ40 ترليون دولار. وحسب مصادر البيت الأبيض، فإن هذه الخطة “ليست لمواجهة الصين بقدر ما تعكس قيمنا ومقاييسنا لإنجاز الأعمال، والاعتراف بأننا لم نقدم حتى الآن خيارات إيجابية بديلة”.
المشكلة الأخرى هي الهجمات السبرانية التي تشنها روسيا على المؤسسات الأمريكية. كما تتهم إدارة بايدن روسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية لعامي 2016 و2020، وتنتقد دعمها لنظام لوكاشينكو الدكتاتوري في بيلاروسيا، الذي قام مطلع الشهر الجاري باختطاف طائرة تابعة لخطوط (رايان أير) الأيرلندية، كانت تمر في أجوائها قادمة من اليونان، وتحمل على متنها الصحفي البيلاروسي المعارض، رومان بروتاسيفيتش، وكذلك التهديدات والمضايقات التي تمارسها روسيا ضد أوكرانيا، وحشدها قوات على حدودها معها.
لكن ألمانيا ماضية قدما في مشروع (نوردستريم 2) الناقل للغاز الروسي، الذي تعارضه الولايات المتحدة، باعتباره يعزز النظام الروسي التسلطي ويمنحه نفوذا اقتصاديا غير مستحَق في أوروبا. لكن ألمانيا بحاجة إلى الغاز الروسي، ولا يمكنها أن تفرط بمصالحها من أجل الولايات المتحدة، على الرغم من أن إدارة بايدن تحترم القرارات الأوروبية، وتعلق آمالا كبيرة على توطيد العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو مصمما على تحقيق الاستقلال الاستراتيجي، وهو لا يعني التخلي كليا عن التحالف مع الولايات المتحدة، لكنه يجدد الأسس التي يقوم عليها هذا التحالف ليكون تحالفا بين الأنداد.
لا يستطيع الأوروبيون أن يتخلوا عن علاقتهم التأريخية مع الولايات المتحدة، فتحالفهم معها استراتيجي وثقافي واقتصادي وعسكري، لكنهم لم يعودوا يثقون بالسياسة الأمريكية المتقلبة، خصوصا بعد تجربة دونالد ترامب، الذي لم يكترث لمصالحهم وعلاقاتهم الدولية. كما أنهم لن يفوتوا فرصة وجود رئيس في البيت الأبيض يتفهم استقلالهم ويحرص على مصالحهم وتوطيد علاقات بلده معهم مثل جو بايدن. غير أن مسارهم أصبح الآن مختلفا. ورغم أن تحالفهم مع الولايات المتحدة استراتيجي ومهم، فإنهم بحاجة إلى تطوير نظام دفاعي وآخر مالي يجعلهم أكثر استقلالا، وأقل اعتمادا على الولايات المتحدة.
أما الدول الصناعية الأخرى الحليفة للولايات المتحدة، كاليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا والهند، فهي الأخرى لا تستطيع أن تتجرد من مصالحها التي تحتم عليها أن تراعي سياسات الدول الأخرى كالصين، لكنها في الوقت نفسه، لا تستطيع أن تتخلى عن علاقاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية مع الولايات المتحدة. قد تكون المسارات تغيرت بعض الشيء، لكن المصالح تقتضي المضي قدما في التحالفات الاستراتيجية المبنية على أسس جديدة.
قد تكون الولايات المتحدة الآن أحوج من أي وقت مضى لحلفائها، لكن الحلفاء، أيضا، مازالوا بحاجة إلى القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية والسياسية الأمريكية، ولن يفرطوا بمبادرة رئيس يؤمن بالتحالف الغربي ويسعى لتوطيده وتعزيز دوره في أن يلعب دورا إيجابيا في استقرار العالم وإيجاد الحلول لمشاكله المُلِحَّة.