الاستحقاقات الستراتيجية الوطنية للحراك الثوري التشريني المتجدد
د. احمد عبد الرزاق شكارة
وصولا لإستحقاقات وطنية إستراتيجية منتظرة يبدو للمتابع الحصيف للشأن العراقي أن بلدنا الحبيب بحاجة إلى رؤية أستراتيجية متأنية ترصد، تنقد وتقييم طبيعة الاحداث والوقائع التاريخية – السياسية بالتوازي مع استقراء لمستقبل العراق إنطلاقا من إحياء للذكرى الثالثة للحراك التشريني.
حراك جماهيريسيأخذ بالاتساع مستقبلا يستوعب فئات وشرائح مجتمعية متنوعة من العراقيين تحت قيادة حراك شبابي يمتلك وعيا سياسيا متقدما في ظل تصاعد ملحوظ لحالة النضج السياسي لجماهير شعبنا. الهدف الستراتيجي يتركز بإستمرار على ضرورة إستعادة حقوق وحريات أساسية للشعب العراقي ليس فقط حول تلبيةأهداف شعار “نازل أخذ حقي” بل والاندفاع نحو أستعادة وطن طالما عن جهل أو قصد يراد له عن يغيب عن ذاكرة ابنائه الذين يعتزون به أيما أعتزازويحلمون بإن يحقق لهم أمنياتهم وآمانيهم الوطنية عبر مسيرة الاجيال الحالية والمستقبلية.
إن الاحتفال العالمي بيومي الديمقراطية والانسانية وفقا لإجندة الامم المتحدة في شهر سبتمبر من كل عام يحتم علينا كنخب ثقافية التحقق عن مدى إنجاز النظام السياسي لمتطلبات التغيير الايجابي في بناء عراق «ديمقراطي – إنساني” جديد يواكب متغيرات العصر التقنية سريعة الايقاع من جهة بالتواز مع إهتمام جاد آخذ بالاتساع بإتجاه استقطاب ابناء العراق كلهم بأتجاه هدف بناء دولة عصرية مدنية «دولة مواطنة حقيقية» تحترم ابنائها وبناتها دون تمييز او تغليب لفئة عن الاخرى من خلال إعتماد مبدأ تكافؤ الفرص واستثمار مناسب للمهنية الادارية وللتخصصية العلمية والعملية في بناء مؤسسات حقيقية للدولة العراقية بعيدا عن الشخصنة أو المحاصصة المقيتة بكل اشكالها وانواعها ومستوياتها.
عراق يسير وفقا للمفهوم وللنهج الديمقراطي السليم الذي سارت عليه أمم ودول متقدمة عززت مواقعها عالميا من خلال إنجازات تنموية مستدامة يشهد لها بالتمييز. من هنا لابد من النظر للعراق على أنه وطن واحد موحد ذا سيادة وطنيةيجب أن يتمتع بالهيبة بين اقرانه من دول العالم بل أن تكون له حظوة ناجمة عن ما يمتلكه من آرث حضاري تأريخي اصيل مجيد، موقع جيوسياسيممتزج بموارد بشرية مهنية متخصصة ومادية – مالية حيوية يتبع مسارا حداثيا– مدنيا. إنطلاقا مما تقدم خطت الثورة التشرينية مسارا مستمرا من الصراع السياسي المحتدم ضد قوى التخلف والظلامية السياسية بكل اشكالها وصورها. أكثر من ذلك ثورة عمدتها قرابين “شهداء” الثورة الجليلة التي سعت لإنجاح أهداف إستراتيجية متوسطة وطويلة المدى لبناء عراق دولة المواطنة –الحقة أو الدولة المدنية الديمقراطية وفقا لنهج وقيم أنسانية سامية. من هنا، ضمن مثل هذا السياق الستراتيجي القيمي – المثالي في نظر البعض وبنفس الوقت يعد مسارا طبيعيا يبلور مرحلة بناء نظام سياسي – دستوري جديد يجب أن لاتهمل الطبقة السياسية الجديدة التي ستفرزها الانتخابات المبكرة القادمة مطلبا شعبيا يرتبط بإجراء محاسبة قانونية شفافة وحازمة لقتلة متظاهري تشرين للعام 2019 – 2020 وكذلك لحيتان الفساد الكبيرة وفقا للأطر التشريعية – القضائية – الدستورية. دون ذلك من الصعب تصور وصول العراق لمرحلة حقيقية من السلم الاهلي الممهد للتنمية الانسانية الشاملة المستدامة. بل ومن غير المقبول التكلم عن دولة تتمتع مؤسساتها الادارية – التنفيذية – التشريعية والقضائية (إلى حد ما) والاعلامية بالجرآة الكافية للتعمق في الاستجابة المطلوبة لمعالجة تفاصيل أحداث ووقائع إهدرت من خلالها ثروات بشرية لاغنى عنها إضافة إلى مصادر مادية – مالية كبيرة جدا تمت مصادرتها أو نهبها (في الملاذات الآمنة) في ظل ما عرف بالموازنات الانفجارية التي معها وصلت اسعار النفط في العامين الماضيين لقيم عليا (اكثر من مائة دولار للبرميل الواحد) بصورة ربما تصل إلى فائض مالي بحوالي 100 بليون دولار تقريبا في نهاية العام الحالي. مسألة تحتاج لجهود مجددة ابداعية لتوزيع منافعها على شعبنا الذي من حقه الحصول على عوائد مجزية من موارد الدولة الريعية (النفط والغاز الطبيعي والمعادن الاخرى).
إن الانتقال لحالة بناء رصين مكين للدولة بمؤسسات رصينة متينة مستدامة ليس بالامر الهين او السهل نظرا لمعطيات واضحة على رأسها إستمرار امتلاك بل وإحتكار فئات وتكتلات وشخصيات حزبية – مجتمعية – سياسية وعشائرية بل وحتى قبلية او مدنية لمساحات جغرافية تدر امتارها المربعة ملايين الدولارات دون وجه حق، مضافا للسلاح “المنفلت خارج إلاختصاص القانوني – القضائي للدولة». إن الاحداث الدامية المؤسفة في نهاية شهر آب/ اغسطس في الخضراء ليست سوى مثالا واحدا مؤلما ومدميا للقلب بحق لما يمكن أن يتصور في مراحل لاحقة إذا ما انتقلت حالة الانسداد السياسي إلى توترات جدية مجددة حالة من الهشاشة او الضعف السياسي – الامني حيث أضحى بالامكان أنتقال مظاهر الصراعات السياسية لحالات من العنف والعنف المقابل في مساحات جيوسياسية أخرى تغطي العاصمة وغيرها من مناطق وأقاليم الدولة. علما بإن رئيس مجلس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي قد حذر علنا من وقوع مثل هذه الاحداث الدامية كونها ستؤدي بالضرورة إلى فراغ دستوري على مستوى رئاسة مجلس الوزراء مسألة لاتحمد عقباها تسعى الحكومة العراقية لتجاوزها من خلال توفر الاستعدادات اللوجستية الحامية للمواطنين وللمؤسسات معا. هذا ولكي يصل الحراك الثوري التشريني إلى مداه الاوسع والاعمق والاكثر مصداقية لابد من أن يعمد الثوار إلى البدء بتشكيل رؤية استراتيجية موحدة في المواقف والسياسات بل وهيكلية مؤسسية جديدة تضم قادة الثورة التشرينية والقوى الرسمية الناطقة بإسمها التي نجحت في الاونة الاخيرة في أنبثاق باكورة مايعرف ب» إتحاد تنسيقيات الثورة العراقية» كناية عن حيوية استمرار الحراك الشعبي الذي انهى إلى حد كبير ما يعرف بالطائفية المجتمعية رغم بقاء جذورها الهشة على صعيد النظام السياسي القائم. علما بإن الاتحاد يضم 16 لجنة تنسيقية عبر 9 محافظات عراقية بضمنها العاصمة والمحافظات الكبرى.
أخيرا، لعل من المناسب الاشارة إلى بعض الاهداف والمظاهر الاساسية للحراك الثوري التشريني المستقبلي على رأسها:
اولا: الاصرار على سلمية التغيير للنظام السياسي المتوقع بعيدا عن حالة التوترات والتشنجات السياسية منعا لما لايحمد عقباه من أحداث عنف قد تكون “دموية”. أي أن مستقبل النظام الدستوري – السياسي –الديمقراطي على المحك بل وحياة العراقيين اساسا. إن أعتراف الطبقة السياسية التي تسعى لإدارة المرحلة الانتقالية بإتجاه حل مبكر للبرلمان عليها أن تدرك بل هي ادركت مسبقا منذ مدة زمنية حتى ماقبل انتخابات العاشر من اوكتوبر 2021 بإنها استنفذت جل اغراضها كونها لم تقدم منجزا إداريا –اجتماعيا /اقتصاديا – إستراتيجيا مرضيا للغالبية الساحقة من شعبنا هذا وفقا لإقوال موثقة من الطبقة السياسية التي تكالبت على حكم البلاد والعباد.
ثانيا: ترتيبا على ماتقدم من المتوقع أن تتسع دائرة الاحتجاجات الشعبية بدءا من بداية أوكتوبر 2022 خاصة من قبل قوى الحراك التشريني الذي يضم فئات متعددة ليست محددة العدد ولكنها متنوعة الطيف القومي والمجتمعي والديني من شعبنا وعلى رأسها جمهور التيار الصدري والقوى العلمانية انطلاقا من ساحة النسور. علما بإن إنتخابات العاشر من أوكتوبر /تشرين الاول 2021 اعتبرت منجزا لحكومة الكاظمي كون المجتمع الدولي وعلى رأسه الامم المتحدة بل والعديد من القوى الدولية اعتبرتها نزيهة وجرت وفقا لإحدث التقنيات الرقمية (افضل من أية انتخابات تشريعية سابقة).
ثالثا: يجب أن يتضمن التوجه المقبل مبدأ استراتيجيا مفاده تأكيد اساسي على أهمية إنهاء حالة التبعية او أي نوع من الهيمنة الخارجية على الشأن العراقي بخاصة من قبل الولايات المتحدة الامريكية وايران. علما بإن رغبة التشرينيين وغيرهم من المواطنين الاحرار المستقلين هي في تقبل قيام علاقات متوازنة موضوعيا مع قوى المجتمع الدولي بعيدا عن التأثيرات او التدخلات التي لا تمت بصلة إلى إنجاز متطلبات التقدم والتنمية الانسانية المستدامة او تبادل المصالح.
رابعا: ابتداع آلية واقعية تتميز بالشفافية والسلاسة والواقعية والاهم متفق عليها لإدارة المرحلة الانتقالية التي يجب أن تشرف أوتراقب عملية حل البرلمان ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية حرة مستقلة وبعيدة عن كل التأثيرات الحزبية او الخاصة بتكتلات سياسية همها تلبية مصالح ضيقة فئوية وشخصية. الامر الذي يستدعي تأسيس مفوضية قضائية مستقلة ومتخصصة فنيا مستندة إلى حكومة وطنية مستقلة من كفاءات سمتها النزاهة والتخصص هدفها تقديم خدمات حيوية للمواطنين بغية تلبية مطالب الشعب الجوهرية الذي لازال في غالبيته الساحقة يعاني برغم كل الجهود المحدودة الخيرة من إتساع مساحة الفقر والبطالة، الفسادوالامراض والابئة.
خامسا: توجه مركزي حكومي يتمتع بالحزم والجرآة نحو فرض الامن، القانون والنظام العام ما يقتضي الغاء كل انواع المليشيات التي لازالت تتمسك بسلاح يعد منفلتا خارج الاختصاص القانوني للدولة مسالة تتطلب كمرحلة اولى ضبط السلاح “كميات ترصد إحصائيا» ومن ثم استخدام اساليب ناجعة لإنتزاعه ووضعه بخدمة مؤسسات الدولة السيادية تأمينا للأمن المجتمعي واستمرارا لتعزيز المواجهات الناجحة ضد قوى الارهاب والفساد والجريمة المنظمة.
سادسا: إن اقتلاع مظاهرالفساد السياسي – الاداري – الاقتصادي والمالي في اقرب المديات الزمنية مسألة حيوية لإعطاء انطباع وطني ودولي عنإهتمام صناع القرار بهيبة الدولة ومصداقيتهامن خلال تعزيز الثقة المتبادلة بين الحكام والمحكومين بالسلطات القانونية والسياسية “التنفيذية” المعنية.
سابعا: إن أية تعديلات دستورية – قانونية جوهرية لابد من إجرائها وفقا لمديات زمنية واضحة برغم أدراكناأن التحديات السياسية والدستورية بضمنهامثلا فقرات من الدستورتسمح لثلاث محافظاتالغاء اية تعديلات دستورية لاتتوافق مع مصالحها أو استمرار مفهوم الكتلة الاكبر التي تشكل عقب الانتخابات في وقت يجب أن ينحو العراق لدولة المواطنة– الدولة المدنية.
ثامنا وأخيرا: من الضروري تفعيل ادوار السلطات التشريعية، القضائية و الاعلامية وتجديد اساليب ومناهج عملها. هذا ولعل من أبرز ما يمكن تصوره للمرحلة القادمة أن يسمح للنخب العراقية الوطنية بحق على أختلاف مشاربهم واطيافهم الجميلة أن يدلوا بدلوهم في تقديم مقترحات عملية، علمية وأبداعية لإصلاح الحياة السياسية والدستورية والاقتصادية بعيدا عن رغبة أي طرف شخصي أو فئوي ضيق الافق في الآستئثار بالسلطة بعيدا عن مفهوم الديمقراطية السياسية التي يجب أن تعنى بتأسيس مؤسسات ديمقراطية حقيقية تلبي أولى أولويات الاحتياجات الاساسية بل والتي يفترض أن تسعد حياة المواطنين وتجعل من الحفاظ على صحتهم وبيئتهم ورفاهم همها الاول والاخير..