معارك جانبية تشغل السياسيين العراقيين عن تشكيل الحكومة
د. حميد الكفائي
بينما ينتظر الشعب العراقي انعقاد البرلمان لانتخاب رئيس للجمهورية، كي تنطلق عملية تشكيل الحكومة، اندلعت معركة سياسية غير متوقعة، حول خفض سعر صرف الدينار واستمرار تهريب العملة.
والغريب في هذه المعركة أنها تُخاض بعد مرور عام وبضعة أشهر على خفض سعر الصرف، وفي الأيام الأخيرة لحكومة تصريف الأعمال، وكان يجب أن تكون من مهام الحكومة المقبلة، التي لم تتشكل بعد، والتي ينبغي أن تتركز الجهود كافة على تشكيلها.
المستهدف الأول في هذه المعركة هو وزير المالية التكنوقراط المستقل، علي علاوي، الذي اتفقت القوى السياسية العراقية، بتنوعاتها القومية والدينية والسياسية، على الإتيان به وزيرا للمالية في الحكومة الحالية لمعالجة مشاكل العراق الاقتصادية والمالية المتراكمة.
وعلى الرغم من أن علاوي متخصص في المال والأعمال، وقد مارس العمل الأكاديمي في جامعات عالمية عديدة، وألف كتبا في السياسة والاقتصاد والتاريخ، ويتمتع بسمعة دولية مرموقة، إلا أن يده لم تكن مطلقة في اتخاذ القرارات الاقتصادية المطلوبة، إذ كان مقيدا بالتوافقات والتناحرات المتواصلة بين الجماعات السياسية.
وكاقتصادي وخبير مالي، كان علاوي يعرف جيدا بأن سعر صرف الدينار العراقي كان مرتفعا بشكل أضر كثيرا بالاقتصاد العراقي، وأنا أعرف رأيه لأنني ناقشته في هذا الأمر قبل أن يصبح وزيرا للمالية.
لقد تراجع الإنتاج الوطني للمواد الاستهلاكية، خصوصا المواد الغذائية، بنسب كبيرة جدا، بسبب انخفاض أسعار المواد المستوردة، مقارنة بالمنتجة محليا، كنتيجة مباشرة لارتفاع سعر الدينار، والذي لا يمكن تبريره اقتصاديا، الأمر الذي أضر بالإنتاج الوطني وجعل السوق العراقية تعتمد بالدرجة الأولى على الواردات المنخفضة السعر، بما في ذلك المواد الغذائية، التي كان العراق ينتجها بوفرة ويصدّر الفائض منها.
لقد واجه علاوي مصاعب جمة في تدبير شؤون العراق المالية المعقدة، ولم يكن سهلا أبدا التغلب عليها، خصوصا استشراء الفساد في مؤسسات الدولة، وخواء الخزينة العامة، وانخفاض أسعار النفط، الذي يعتمد العراق على عائداته بنسبة تقترب من 90 في المئة، ووجود ما يقارب 7 ملايين عراقي، بين موظف وعسكري ومتقاعد، يعتمدون على رواتبهم من الدولة.
يضاف إلى ذلك الأعباء المالية لشبكة الحماية الاجتماعية والبطاقة التموينية والديون المترتبة على العراق بسبب الحروب والعقود الفاسدة، والتي فاقمها تدني الإنتاجية، وفشل الدولة في جباية الضرائب، خصوصا الرسوم الجمركية في المنافذ الحدودية، واستحصال أجور الخدمات العامة من المستهلكين.
لم يكن التعامل مع هذه المشاكل سهلا، وكان أحلى الحلول مرا، بل لا توجد حلول ممكنة في ظل سيطرة العصابات المسلحة على مؤسسات الدولة ومرافقها الاقتصادية، لذلك أقدم علاوي، بعد استحصال موافقة القوى السياسية العراقية الممثلة في البرلمان، على تخفيض سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار بما يقارب 20 في المئة، ما يعني أن القيمة الشرائية للدينار قد انخفضت بالمعدل نفسه، كحد أدنى، وهناك دائما تبعات أخرى متعلقة بخفض سعر الصرف، منها مثلا اهتزاز الثقة بالدينار، الذي يقود في العادة إلى خفض سعره السوقي بنسبة تفوق خفض قيمته الرسمية، ثم ارتفاع الأسعار كنتيجة حتمية للغموض حول مستقبل البلد الاقتصادي ومدى قدرة مؤسساته على الصمود.
ويضاف إلى كل هذا، التشاؤم الذي ساد في الأسواق العالمية حول احتمالات انتعاش أسعار النفط، خصوصا بعد اندلاع جائحة كورونا التي عطلت قطاع النقل العالمي، والعديد من النشاطات الأخرى، التي تعتمد على استهلاك الطاقة.
ورغم صواب قرار تخفيض سعر الدينار، الذي قلّص على الفور من أضرار تهريب العملة وعمليات تحويل الأموال العراقية المستحصلة بطرق غير مشروعة إلى الخارج، عبر شركات وبنوك أنشئت لهذا الغرض، بحجة استيراد البضائع والسلع، والأمل بأن يترك خفض سعر الصرف أثرا إيجابيا بعيد الأمد على الإنتاج الوطني، إذ لابد أن يخلق فرصا استثمارية جيدة للمنتجين العراقيين والمستثمرين الأجانب، ويحفزهم على تطوير إنتاج المواد الاستهلاكية، التي ستكون أقل كلفة من المواد المستوردة، ولكن تساويها، أو تفوقها جودة، خصوصا بعد تحسن مردودات الإنتاج المحلي، وارتفاع ثقة المستهلك بالمنتج الوطني.
لكن الغائب، أو المُغَّيب، في قرار علاوي هو تعويض الموظفين ومحدودي الدخل عن الضرر الفادح الذي لحق بهم جراء خفض سعر الدينار، وارتفاع أسعار السلع والبضائع، ومعظمها مستورد.
الوزير علاوي يقول إنه وضع فقرة لمساعدة الفقراء في موازنة 2021، تتضمن مبلغا قدره 3 ترليون دينار (2.2 مليار دولار)، لكن البرلمان حذفها من الموازنة، وبذلك فهو غير مسؤول عن الضرر الذي لحق بالفقراء، حسب قوله، وإن هذه المسؤولية يتحملها البرلمان حصرا.
لكن علاوي، والحكومة التي يحتل فيها الموقع الثاني، لم تتمكن من تقليص الفساد في تهريب العملة، وتحسين جباية الضرائب والرسوم الجمركية من المنافذ الحدودية، وإضعاف هيمنة المليشيات المسلحة على المرافق الاقتصادية، ناهيك عن جلب الفاسدين والقتلة والخاطفين إلى العدالة، وحماية المطارات والسفارات ومقرات الأحزاب ومنازل المسؤولين من إرهابها، وهي مهام كان يفترض أن تكون من أولوياتها.
نائب رئيس البرلمان الحالي، والقيادي في التيار الصدري، حاكم الزاملي، الذي أرسل في طلب وزير المالية للمثول أمام البرلمان، كان فاعلا في البرلمان السابق الذي أقر تخفيض العملة، والكتلة الصدرية كانت داعمة لهذه الحكومة وإجراءاتها، بما فيها تخفيض العملة، لذلك ليس صحيحا أن تحمل وزيرا كفؤا ومستقلا ونزيها، أعباء فشل الحكومات السابقة، الذي يحتاج إلى عقود عديدة وجهود كبيرة لإصلاحه.
كما أن الطريقة التي عومل بها علاوي ليست لائقة، ابتداءً من طلب الاستجواب، الذي كان يجب أن يقدم إلى رئاسة الوزراء أولا، والتي يجب أن تحدد موعدا لمثول الوزير أمام البرلمان، وهناك فترة زمنية يجب أن تمضي قبل مثوله، وكل هذه الإجراءات الأصولية لم تُتَّبَع.
كذلك فإن التهجم على الوزير والانتقاص منه والإساءة له، عبر مقارنته بوزراء مدانين هربوا من السجون، ليس صحيحا ولا لائقا بشخصية وطنية عراقية وأكاديمية مرموقة كعلاوي، فالرجل ليس متهما، وهو معروف بالنزاهة والمهنية والصدق، وبالتأكيد لا يعتزم (الهروب) كي يقول الزاملي إنه “يحمِّل وزارة الداخلية وجهاز المخابرات مسؤولية مغادرته العراق”.
لقد دأب السياسيون والمسؤولون العراقيون على اتهام بعضهم البعض بالفساد، وتحميل بعضهم البعض أعباء الفشل والفساد اللذين سادا مؤسسات الدولة، لكن كل التهم سرعان ما تختفي عندما يتصالح الفرقاء.
لقد أصبح هذا النهج ثقافة عامة، فالجميع متهمون، سواء كانوا مسؤولين أم سياسيين أم صحفيين أم أكاديميين أم مثقفين، مشاركين في السلطة أم غير مشاركين، في الداخل أو الخارج، حتى تحول العراقيون جميعا إلى متهمين بطريقة أو بأخرى، بل هناك من يلوم الشعب العراقي بأكمله لأنه شارك في انتخاب فاسدين وإيصالهم إلى السلطة!
أصبح توجيه الاتهامات غير المستندة إلى أدلة أمرا في غاية السهولة، فعندما يختلف أحدهم مع آخر على أمر ما، فإنه لا يتردد في اتهامه بشتى التهم، حتى أصبح الجميع متهمين وفاسدين في نظر المجتمع، وكأن العراق ليس فيه نزهاء وأكفاء ومتخصصون ووطنيون.
وقد قادت هذه الظاهرة إلى عزوف كثيرين من الأكفاء والمتخصصين النزهاء عن الانخراط في خدمة البلد، خشية أن يتهموا بتهم باطلة، بل رفض موظفون كثيرون الترقية إلى مواقع أعلى للسبب نفسه.
لقد أساءت حكومة المالكي إلى محافظ البنك المركزي العراق الأسبق، الخبير الدولي الراحل سنان الشبيبي، ووجهت له تهما باطلة، برأته منها المحاكم في عهد حيدر العبادي، كي تجبره على ترك منصبه، وقد تسبب ذلك في استياء شعبي واسع من حكومة المالكي.
استهداف علي علاوي، الذي يتفق معظم العراقيين على كفاءته ونزاهته ومهنيته، ليس صحيحا، وسيقود أيضا إلى استياء الشعب من الجهات التي تستهدف الرموز الوطنية العراقية.
ليس صحيحا تشويه صورة المتخصصين والأكفاء الذين دفعهم شعورهم الوطني وحبهم لبلدهم إلى المساهمة في الحكومة، وأحسب أن هذا هو دافع علاوي للمشاركة في الحكومة.
لقد عُرضت عليه رئاسة الوزراء عام 2020، فرفضها زاهدا فيها، لكنه، وافق لاحقا أن يصبح وزيرا للمالية بعد أن مورست عليه ضغوط سياسية من جهات متعددة كي يتصدى لإصلاح الاقتصاد العراقي.
لقد آن الأوان أن يتخلى السياسيون وغيرهم عن هذا النهج الذي أضر كثيرا بسمعة العراق والعراقيين، وساهم في تراجع أداء الدولة، وأن يتحلى المسؤولون بحيوية الضمير والمهنية العالية والفروسية في الخصومة، كي يضربوا مثلا للآخرين في التعامل الأخلاقي والمهني المخلص.
ليس صحيحا توجيه الاتهامات جزافا للأبرياء، بل ليس صحيحا افتراض التقصير وعدم النزاهة عند الآخرين، قبل توفر الدليل القاطع، ومن الضروري جدا أن تتولى المؤسسات المتخصصة التعامل مع هذه الأمور، بدلا من السياسيين الباحثين دوما عن مكاسب سياسية.