ما ينبغي أن يُقال…!!
حسن خضر
قلنا في مقالة سبقت إن حرب صدّام ضد إيران كانت في جانب منها بالوكالة، ولم تكن عادلة أيضاً. سمع العرب، في سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية كلاماً كثيراً وفارغاً عن بوابة العالم العربي الشرقية، التي يحميها النظام الصدّامي من التوسّع الفارسي.
وقد تبخّر هذا كله في لحظة واحدة عندما تكاتف هؤلاء، في حفر الباطن، إلى جانب نصف مليون من الأميركيين، لتدمير البوابة الشرقية وحارسها. وبقدر ما يعنيني الأمر، هذا لا يعني الموافقة على احتلال الكويت، بل مجرّد التدليل على سهولة الانقلاب من النقيض إلى النقيض على الرغم من طوفان وبذخ بلاغة العروبة الكاذبة.
ثمة مكتبة كاملة، وأرشيفات هائلة، للحرب العراقية ـ الإيرانية ودوافعها وأسبابها. ولكن يندر العثور بينها على تفسير لمسته بطريقة شخصية تماماً، ولم يفارقني على مدار سنوات طويلة. فقد شاءت الصدف أن أكون في بغداد في زمن اندلاع الثورة الإيرانية. أتكلّم، هنا، عن الأشهر الأخيرة في عام 1978، التي شهدت تظاهر الملايين في مدن إيرانية مختلفة، وسبقت رحيل الشاه وعودة الخميني، في مطلع العام التالي.
لم يكن المحافظون من رجال الدين قد نجحوا في الاستيلاء على الثورة بعد، وكان صوت القوى الوطنية العلمانية، وكذلك الدينية التي زاوجت بين نزعة مساواتية راديكالية في الإسلام الشيعي، والماركسية، من طراز مجاهدي خلق، في طليعة الصفوف. وهذا، في الواقع، ما أثار الذعر في عموم المنطقة العربية.
فما وقع على مرأى ومسمع من العالم، في ذلك الوقت، كان ثورة شعبية حقيقية، بألف ولام تعريف كبيرتين. وكان في مجرّد وقوعها ما يمثّل فضيحة سياسية وأيديولوجية لانقلابيين أطلقوا على أنظمة جاءت إلى الحكم على ظهور الدبابات تسمية ثورة، إضافة إلى ما يثير خروج الناس إلى الشارع من ذعر في قلوب رجعيين ومحافظين في أنظمة قبلية تنتمي إلى القرون الوسطى، أو تفتقر إلى تقاليد ومؤسسات تمثيلية وضوابط دستورية.
ولم يكن من الصعب العثور على ما يشبه القلق الأيديولوجي والسياسي، والحيرة الأخلاقية، لدى البعثيين في بغداد أواخر السبعينيات. فعلى الرغم من كل بلاغتهم “الثورية” و”القومية” و”التقدمية” إلا أن ثورة الإيرانيين في تلك الأيام أثارت غيرتهم وحسدهم وأحرجتهم في آن.
لا أعتقد، بطبيعة الحال، إمكانية الاكتفاء بتفسير ما حدث في العراق وبلدان أُخرى بالغيرة والحسد والإحراج والخوف، ولكن إضافة هذه المشاعر المعقّدة، وما استنفرت من استجابات سياسية وأيديولوجية، تبدو ضرورية تماماً. فلن يقول لك أحد من الرجعيين والمحافظين: خفنا من مشهد الناس في الشارع، ولن يقول لك أحد من أنظمة العسكر: فضحنا الإيرانيون.
والمهم في الأمر، علاوة ما تقدّم، أن عداء الإيرانيين للأميركيين والإسرائيليين بدا واضحاً منذ الأيام الأولى للثورة، لا لأن هؤلاء كانوا مِنْ وعلى رأس أصدقاء وحلفاء الشاه وحسب، ولكن لأن لاهوت التحرير، كان معادياً للإمبريالية في الجوهر، أيضاً. (ولنتذكّر علي شريعتي، ومدرسته، التي تأثرت بلاهوت التحرير المسيحي في أميركا اللاتينية، ومحاولة حسن حنفي الفاشلة في محاكاة وتوطين لاهوت التحرير، الذي رد عليه الرجعيون الدينيون والمحافظون بالسلفية الجهادية).
كان العداء للإمبريالية من مصادر القلق الرئيسة التي أفزعت الرجعيين الدينيين والمحافظين في أنظمة الحكم العربية القائمة وخارجها. فهم وهي (الإمبريالية) في، ومِنْ، معسكر واحد. والمهم أن هذا العداء لم يكن تجسيداً لتحيّزات أيديولوجية مجرّدة، بل كان ترجمة لخيبة أمل إيرانية نجمت عن مؤامرة أميركية ـ بريطانية أطاحت بمصدّق، رئيس الوزراء بعد تأميم النفط في عام 1953، وأعادت الشاه إلى العرش، وأعاقت، على الأرجح، عملية التحوّل الديمقراطي، في إيران والشرق الأوسط. كان عبد الناصر، المصري، ومحمد مصدّق، الإيراني، أهم رمزين للتحرر الوطني والاستقلال، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
على أي حال، ومع كل ما تقدّم، للإيرانيين بصرف النظر عن هوياتهم السياسية، وقناعاتهم الأيديولوجية، ذاكرة وطموحات إمبراطورية. فكما كان لينين، الذي أطاح بحكم آل رومانوف، الوريث الذي صان الإمبراطورية من الهلاك، بل ووسّع حدودها، قد يحكم التاريخ على الخميني، الذي أطاح بآل بهلوي، بكونه الوريث الذي صان طموحاتهم الإمبراطورية، بل وسعى إلى تحقيقها بثمن مروّع، أيضاً.
وفي سياق كهذا، شرع الإيرانيون بعد نجاح الثورة في القتال على أكثر من جبهة: ثأروا من الأميركيين باحتجاز الرهائن، حوّلوا سفارة إسرائيل إلى سفارة لفلسطين، واستقبلوا ياسر عرفات في طهران، وأشعلوا مشاعر تكاد تكون قيامية في الشرق الأوسط كله، طرحوا أنفسهم كطليعة للعالم الإسلامي، وهددوا بتقويض ما نجم عن زيارة السادات للقدس من تحوّلات في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط.
وعلى غرار البلاشفة الروس الذين كشفوا مؤامرة سايكس ـ بيكو، بعد انتصار ثورتهم، وفتح خزائن وزارة الخارجية القيصرية، كشف الإيرانيون في وثائق عثروا عليها في السفارة الأميركية، وفي محفوظات حكومة الشاه، عن نادي السفاري، أي تحالف أجهزة المخابرات، الذي ضم أجهزة الأمن السعودية والمصرية والمغربية والفرنسية، برعاية أميركية، لمكافحة الشيوعية في الشرق الأوسط وأفريقيا.
لم يفعل الإيرانيون كل ما فعلوا نتيجة الهبل الأيديولوجي، أو حتى الإيمان الديني، بل ترجمة لطموحات إمبراطورية، وقراءة قومية للجغرافيا السياسية. ولا يعنيهم ما ألحقوا بالآخرين من خراب. والمفارقة أن ردة الفعل المعادية لهم لم تنجم عن الهبل الأيديولوجي، أو التحيّزات الطائفية، بل عن حقيقة الوجود في خندق آخر، لا مكان فيه لجغرافيا سياسية لا تتماهي مع مصالح إسرائيلية ـ أميركية أصبحت سائدة. هذا هو مربط الفرس، وكل ما عداه هباء. وهذا ما ينبغي أن يُقال.