حديث نظري عن الأفلام التسجيلية والوثائقية: (٢/٤)
قيس الزبيدي ـ
في الجزء الثاني من الحوار المطول الذي تجريه مجلة رمّان الثقافية مع الكاتب والمخرج السينمائي العراقي قيس الزبيدي، يتحدث الزبيدي بصيغة أقرب للمقال، أو للماستر كلاس عن مفهوم الفيلم، أنواعه، عن فهم الزبيدي وفلسفته للفيلم وصناعته، وهو الذي عاصر فترات مختلفة من تاريخ تطور السينما، وكتب وعمل في صناعة الأفلام ومونتاجها وإخراجها وإنتاجها وكتابة السيناريو لها، وأرشفتها وتوثيقها ونقدها، ما يجعله يمتلك نظريته الخاصة في فلسفة الفيلم. يقف كثيراً عن التفاصيل الدقيقة، ويؤصل المفاهيم السينمائية، ويضعها في سياقها التاريخي ليجيب على أسئلة مثل، لماذا نصنع السينما وكيف نصنعها؟ وكيف رآها وفكر فيها صناعها الأوائل مثل الأخوين لوميير وميلييس وروبرت فلاهرتي.
ما الفرق بين الفيلم التسجيلي والروائي؟ حيث يرى بعض من صناع الأفلام والنقاد ما بعد الحداثيين بأن الفروق يمكنها أن تتلاشى.
الجواب يكمن بالعودة للبدايات حتى نستطيع التعرف في السينما المعاصرة على تنويعات فنية عديدة في التعبير التسجيلي أو الروائي. تاريخياً كان الأخوان لوميير أول من أخرج الأفلام وأنتجها. وكانا مهووسين بوضع أشياء الواقع وناسه أمام الكاميرا، ليعيدا تصوير حركة الواقع، التي كانت تبدو، أثناء العرض، بكل واقعيتها: عمال يغادرون مصنعاً، قطار يصل إلى المحطة، طفل يتناول فطوره في حديقة. ويُعد ميلييس مبتكراً للفيلم الخيالي، أمينا للاستوديو والديكورات المرسومة وللمشهد في لقطة واحدة. واستمر من ناحيته يجرب صنع مشاهد خيالية مبتكرة لا تمت بصلة إلى المشاهد التي كان لويس لوميير يصورها بآلته مباشرة من الواقع.
وحصلت البداية النوعية الحاسمة مع دخول روبرت فلاهرتي السينما في فيلم “نانوك” وبعده فيلم “موانا”. وكما حول “غرفث” الفيلم الروائي من تقاليد متعثرة لما هو مُمَسرح وطوره إلى فن مستقل وكتب بحق “إنجيل” صناعة السينما، خصوصا في فيلميه “مولد أمة” و”التعصب”.
وقد اعتبر بعض المنظرين والمؤرخين (أمثال سادول ومورين وكراكاور) كل تاريخ السينما بمثابة تجاور وتفاعل دائم لاتجاهات لوميير الواقعي وميلييس الخيالي، فبالإمكان أيضاً رصد التجاور بين التسجيلية الواقعية من جهة وبين الاتجاهات الروائية/ الخيالية من جهة أخرى. ويرى كراكاور أن الحكايا خيالية تعتمد على الجنسين التسجيلي اللا خيالي والروائي الخيالي: الأول يبحث عن حكايات واقعية لا يجوز لأحد اختلاق حبكتها بل تكتشف من الواقع نفسه. والثاني يبحث عن حكايات خيالية تعتمد على حبكة مختلقة. وقد جرت نقاشات معقدة حول أين يمكن للحدود أن تتقاطع بين الخيال واللا خيال، وإلى أي حد يجوز للفيلم الروائي/الخيالي أن يكون تسجيليا وإلى أي حد يمكن للفيلم اللا خيالي أن يكون تمثيلياً؟ ويمكن أن يقال إن الروائي/الخيالي يحتوي أيضاً على جوانب تسجيلية كما يقول منظر الفيلم التسجيلي بيل نيكولس لأنه “يسجل” أيضا أحداثاً درامية، ويحقق شكلاً تسجيلياً بناء على رغبة فيلمية كاملة لمؤلفه أو مخرجه أو لشركة إنتاجه، وإن هذا التحقيق يسجل أيضاً الحكاية التي تأتي نتيجة لتجارب ومفاهيم واقعية معينة.
وإذا ما عدنا إلى تاريخ السينما التسجيلية، فسنجد فيها اتجاهين: نثري وآخر شعري. ينصرف النثري بالدرجة الأولى إلى وصف الحياة كما هي، وينصرف الشعري، بالدرجة الأولى، إلى تحريف صور الحياة، لكن من أجل فهمها، وليس من أجل تزييفها. لكن المطلوب في عصر وسائل الاتصال الجديدة تطوير هذه الحوارات النظرية. فنحن حينما ننشغل بالفيلم في الوقت الحاضر ونبحث عن أجوبة عن وضع التسجيلي علينا أن نلتفت إلى أسس إنتاجه وتاريخه، فلكل فيلم، تسجيلياً كان أم روائياً/خيالياً، أَعرافٌ وتقاليد وابتكارات متضمنة في مستويات بنيته المتنوعة.
حتى مصطلح التسجيلي يرمي بظلالٍ من الضبابية على التباعد والفارق بين مقولتي “واقعي” و”مُتصوَّر” من ناحية و”حقيقي” و”خيالي” من ناحية أخرى. ويُفترض أن الخيال يجري تصديقه. وفي كلا الحالين (واقعي أم خيالي) لا يطالب بنسخ الواقع كما هو، إنما ينتظر في أيِّ عملٍ فني خلاّقٍ، أن يؤثر تأثيراً حسِّياً وعقلياً لفهم العالم بصورة أفضل.
أما من ييُقرّر هوية التسجيلي أو الروائي/الخيالي، ليس فقط طبيعة العلاقة بين ما يجري تصويره (إفتراضياً كان أم مُتخيّلاً) إنما العلاقة بين ما هو مُصوَّر ومن يصوِّره وكيف يصوره ولأي هدف. وقد سبق للناقدة أنيه كون أن عالجت في مجلة “الشاشة الإنكليزية” مسألة التصور والصورة عبر الوسيط وحددتها في اتجاهين، أولهما ما سمته: الكاميرا-أنا، والثاني ما سمته الكاميرا-عين. وعنت في الأول تدخل الذات بقوة وحضورها في تشكيل الموضوع ومغزاه، وإعادته إلى ذات الفنان، بينما عنت في الاتجاه الثاني حضور الموضوع القوي وأعادته، بهذا القدر أو ذاك، إلى غياب ذات الفنان.
هل من الممكن أن يكون صانع الفيلم تسجيلياً ويبقى في الوقت نفسه روائيا؟
اشتق مصطلح التسجيلي/الوثائقي من الكلمة الفرنسية القديمة document ويشير قاموس تأريخ اللغة الفرنسية، الصادر عن دار Le Robert إلى أنّ مفردة “وثائقي” مشتقة من كلمة وثيقة: وقد انحدرت عام 1214 من اللاتينية documentum بمعنى “مثال، نموذج/موديل، عبرة، تدريس، برهان وأن الاسم منحوت من الفعل docere “يُعلّم، يُدرّس”، واشتقت منه كلمة Doktor ومذهب أو عقيدة Doktrin. تسرّب مفهوم التسجيلي استناداً إلى القاموس نفسه إلى لغة الفيلم عام 1906 عبر مصطلح Scene documetaire، ولم يستقر إلاّ عام 1915 للتدليل على فيلم بدون معالجة خيالية. وعموماً أُطلق على أفلام قصيرة أو متوسطة الطول وصاحَبَ هذه التسمية مصطلح docu، ثم اكتسبت في عام 1967 جانباً سلبياً تأتي من اللغة الإنكليزية في تسمية “المكتب القومي الكندي لإنتاج الأفلام التسجيلية” الذي أسسه جون غريرسون، الذي يعود له الفضل في إدخال المصطلح الإنكليزي documentary الذي أطلقه على فيلم روبرت فلاهرتي Moana) 1926) وعرّف الفيلم التسجيلي آنذاك بأنه: “معالجة خلاّقة للواقع”.
إن تاريخ السينما، حسب بعض المنظرين والمؤرخين، بمثابة تجاور وتفاعل دائم لـ “اتجاهات” الأخويين لوميير التسجيلية/الواقعية وجورج ميلييس الروائية/الخيالية. وقد قدمت السينما التسجيلية في العالم؛ نماذج متطورة جدا؛ كان لها تأثير كبير على السينما الروائية؛ ليس بتناول المادة؛ أو الموضوع؛ إنما بالأساليب والأشكال والصياغة الجديدة في التعبير. وانعكس هذا على الأعمال الروائية.
بدوره يرى كراكاور أن الخيالية تعتمد في طبيعة الجنسين التسجيلي اللاخيالي والجنس الروائي الخيالي: الأول يبحث عن حكايات واقعية لا يجوز لأحد اختلاق حبكتها بل تكتشف من الواقع نفسه. والثاني يبحث عن حكايات خيالية تعتمد على حبكة مختلقة. وقد جرت نقاشات معقدة حول أين يمكن للحدود أن تتقاطع بين الخيال واللاخيال وإلى أي حد يجوز للفيلم الروائي/الخيالي أن يكون تسجيليا وإلى أي حد يكون للفيلم اللاخيالي تمثيليا؟ في حين أن القضية تتعلِّق بطريقة الاختلاف التي تميز الفيلم التسجيلي/ اللاخيالي عن الفيلم الخيالي/التمثيلي. لكن المطلوب في عصر وسائل الاتصال الجديدة تطوير هذه الحوارات النظرية. فنحن حينما ننشغل بالفيلم في الوقت الحاضر ونبحث عن أجوبة لوضع التسجيلي علينا أن نلتفت إلى أسس إنتاجه وتاريخه، فلكل فيلم، تسجيلياً كان أم روائياً/خيالياً، أَعرافٌ وتقاليد وابتكارات متضمنة في مستويات بنيته المتنوعة. ومثلما اعتبر بعض المنظرين والمؤرخين (أمثال سادول ومورين وكراكاور) كل تاريخ السينما بمثابة تجاور وتفاعل دائم لـ “اتجاهات” لوميير وميلييس، فبالإمكان أيضاً رصد التجاور بين التسجيلية الواقعية من جهة وبين الاتجاهات الروائية/ الخيالية من جهة أخرى.
إن هذه الإشكالية ما تزال قائمة ومعلقة في النقاشات الدائرة في حقل النظرية السينمائية. وكان هناك وقتها، حسب الأدبيات السينمائية، مواقف مختلفة، وبالتالي منهجاً فنياً وجمالياً مختلفاً في تيار السينما التسجيلية، كذلك في تيار السينما الروائية. فطبيعة الفيلم التسجيلي تبدأ من صلته المباشرة مع الواقع والناس، ويتلخص دوره في تنظيم عملية تسجيل الواقع المرئي وحسب كيفية التنظيم، تتم كشف دلالاته ومعانيه، بينما الفيلم الروائي، في طبيعته، يعيد تمثيل محاكاة الواقع المرئي. وكان الاعتقاد، أن عملية تنظيم الواقع المرئي، هي أكثر صدقاً وأكثر موضوعية من عملية الفيلم الروائي، الذي يعيد خلق الواقع المرئي، وفقا لتصور فكري وفني جمالي، أيديولوجي، يقود وبالتالي إلى تدخل ذات المخرج في تعاملها مع صور الواقع المُمَثّل، ويخضعها، بشكل كيفي، إلى بناء مونتاجي، لا يرسم الصورة العامة للواقع، إنما يرسمها وفقا لرغبة المخرج.
غير أن تاريخ السينما يبين لنا، أن عملية تزييف الواقع، كانت تتم بعيداً عن حلبة هذا الصراع، ولم تكن نتاج أي من المنهجين، التسجيلي والروائي، إنما كانت نتاج توظيف السينما في خدمة سلطة فاشية ونازية أو صهيونية وما إلى ذلك. وتؤكد لنا الممارسة السينمائية، أن أياً من المنهجين لم يستطع أن يحسم الخلاف أو الصراع لصالحه، مع أن الخلاف استمر ويستمر حتى يومنا هذا. ففي الخمسينيات، يعود أندريه بازان لخيال إيزنشتين ويؤكد: إن تطور لغة السينما تميز بوجود تيارين عظيمين متعارضين، مثلهما أولئك المخرجون الذين آمنوا بالصورة والمخرجون الذين آمنوا بالواقع. التيار الأول وجد جوهره في أهمية دور المونتاج، كما هو الحال عند إيزنشتين، بينما اعتمد التيار الثاني على مقدرة الصورة ذاتها، بدون تجزئة زمنها، على كشف علاقات المكان الواقعي، دون اضافات تاويلية، تنتج من علاقات الصور فيما بينها. إذن، حسب هذا المفهوم، هناك مخرجو صورة وهناك مخرجو واقع. غير أن تاريخ السينما لا يؤكد لنا صحة أي مقولة من هاتين المقولتين، مع انهما لعبتا وما زالا تلعبان دورا بارزا في الممارسة السينمائية الإبداعية.
لكن عربياً كيف يمكننا أن نرى تجسيدات ذلك على الواقع؟
توجد في السينما العربية محاولتان توقفت عند صنع أفلام تسجيلية فقط دون أي رغبة في صنع أفلام روائية: عمر أميرالاي السوري وعطيات الأبنودي المصرية، مع أن أميرالاي حاول مرتين أن يكتب نصين روائيين واحد عن القرامطة والثاني عن أسمهان إلا أن المشروعين لم يتحققا. ويمكن أن يقال إن الروائي/الخيالي يحتوي أيضا على جوانب تسجيلية كما يقول منظر الفيلم التسجيلي بيل نيكولس لأنه يسجل أيضاً أحداثاً درامية ويحقق شكلاً تسجيلياً بناءً على رغبة فيلمية كاملة لمؤلفه أو مخرجه أو لشركة إنتاجه.
هنالك من يطلق على بعض أنواع من الأفلام مصطلح سينما تجريبية، هل تعتقد أن هنالك سينما تجريبية وسينما أخرى غير تجريبية؟ متى يتوقف صانع الأفلام عن التجريب؟
في ختام مقدمة الباحث الكبير جان متري في كتاب “السينما التجريبية”، يجد أنها تعني كل أنواع التجارب في مختبر السينما الطليعية. وهي ليست نوعاً بحد ذاته إنما تشمل في السينما المعاصرة كل تلك التجارب الفيلمية التي كانت تكتشف مكامن وقدرات التعبير السينمائي الجديد. ولا تنحصر في نوع فيلمي معين بل أنجزت في كل الأنواع. وكانت تقود لمحاكاتها حتى في الأفلام التقليدية التجارية. يقول جون غريرسون: إن التسجيلي الذي لا يستطيع أن يصور فيلماً عن الربيع هو ليس تسجيلياً.
هذا يعني أننا في حالة التسجيلي. أمام مادة خام من الواقع مباشرة، وأن الفنان لا يكتفي فقط، ولا يمكن أن يكتفي، بنسخها وعرضها على الشاشة فقط. من هنا بدأت تظهر في عملية الخلق الفني، مبادئ جديدة، فلكي يختار السينمائي التسجيلي مواده من الواقع ويسجلها، تظهر وجهة نظره، وتعبر عن موقفه الفكري تجاه العالم، لأن الكيفية الفنية، التي ينسق فيها الفنان صور الواقع، تعكس حقيقة فيلمية، تكتشفها ذات الفنان. رغم إننا في حالة الفيلم التسجيلي، سنجد أن المنهج، يستلهم الواقع، بشكل خلاق ويعبر عن مضامينه المختلفة، لا يمكن إلا أن يرتبط، بوحدة جدلية لا تنفصم، بالمنهج التعبيري.
ترى أن لكل صانع أفلام بغض النظر عن المدرسة السينمائية التي ينتمي لها، أسلوبه الخاص في كل شيء يختص فيه، لكنك لا تختص فقط في إخراج الأفلام، إنما الكتابة عنها والكتابة لها ومونتاجها وإنتاجها، فكيف تكتب أفلامك؟ كيف تفكر فيها؟
حسب الأدبيات السينمائية، هناك مواقف مختلفة، وبالتالي منهجا فنياً وجمالياً يختلف في تيار السينما التسجيلية (اللاخيالية) كما يختلف أيضاً في تيار السينما الروائية (الخيالية). وكما هو الحال في اللغة الأدبية، هناك طريقتان في التعبير السينمائي: الأولى التعيين أي التعبير المباشر والثانية التضمين، أي المعنى الثاني، وهو ما يسمى في الأدبيات السينمائية النثري والشعري، وبين التعبيرين تزاوج وانفصال. الفيلم التسجيلي ينحو أكثر نحو التعيين واستخدام عناصر تعبير نثرية، مع وجود اتجاه شاعري مستمر ربما بدأه يوري ايفنز في فيلمه الأول “مطر” وتابعه بعد سنوات طويلة في فيلمه “مسترال” وهو فيلم يتناول مادة فنية هي الريح. لكن أيضاً يمكن استخدام عناصر شعرية في الفيلم التسجيلي الاجتماعي أو السياسي. فبناء مشهد دلالته مجازية إيحائية، يحرك وجدان المتفرج من جهة ويجعله، من جهة أخرى، يشارك بفعالية في تأويل الدلالة، وكل ذلك يأتي من السياق الفني.
من باب آخر علينا ألا ننسى التداخل الفني الذي أنجز في أفلام كثيرة ومهمة بين منهجين في التعبير ألا وهما التسجيلي والروائي، الأمثلة كثيرة، وتبين بشكل واضح التلاقح الفني بين ما هو مباشر تكتبه الحياة اليومية وبين ما هو غير مباشر يكتبه الفنان، بين صوت الواقع وصوت الذات المعبرة، وبما أن السينما هي تركيب من فنون عديدة، على هذا نرى في تاريخ السينما أمثلة تبين كيف تستطيع السينما أن تعبر بواسطة عناصر من تلك الفنون وتنجح في ترحيل انتماءها إلى فن آخر يستقل باستمرار ويصنع تاريخه الخاص، وضع هذا النقاش في الفن السينمائي مقولة “الأمانة الفنية” في مواجهة مقولة “تزييف الواقع”، فالتعامل مع الواقع هو، في كل الأحوال، قدر السينما، كما أن المونتاج، هو أيضاً قدرها في ذات الوقت.
ومن ناحيتي أولاً أختار موضوع فيلمي، وثانياً أحاول أن أختار أسلوب إخراجه أيكون نثرياً أو شعرياً أو يكون تعبيره مباشراً أو غير مباشر، أو أن أجمع بين المباشر واللامباشر وفقا لطبيعة الفيلم أكان تسجيلياً أو روائياً وإذا تذكرنا “بعيداً عن الوطن” التسجيلي أو تذكرنا “الزيارة” الروائي، فالأول تعبيره مباشر (التعيين)، مع بعض المشاهد غير المباشرة كالبداية مثلاً، أما “الزيارة” فكله يستند على التعبير الشعري غير المباشر (التضمين) بمعنى أن تقول شيئاً وتعني شيئاً آخر وهنا يأتي دور المشاهد في فك معناه وفهمه.
يرى بعض متابعي تجربة قيس الزبيدي الطويلة، بأنه متأثر بطريقته في المونتاج بمسرح برتولد بريخت. إن كان فعلاً كذلك كيف وظّفت التقنيات والملحمية المسرحية في بنية الأفلام؟
دعا بريشت، في أغلب أعمال السنوات الأخيرة، إلى ضرورة إعادة النظر في وسائل الفن باستمرار، فلم يكن لمسرحه أن يستمر بدون تجارب، ولم تكن حاجته إلي التجارب تصدر عن رغبة في التجارب لذاتها، بقدر ما كانت تصدر عن منهج عمل يتم فيه كشف العلاقات الاجتماعية المعقدة وتصويرها بشكل فني مناسب. لقد كان مسرحه الملحمي، وبعدها الجدلي، مقولة تنتمي إلى ما هو اجتماعي وليس إلى ما هو جمالي – شكلي، لأنه وجد أولاً أن القواعد المسرحية السابقة، أي تلك التي ارتبطت في زمنها بمضامين ووظائف مختلفة، غير ملائمة ولم تعد تصلح كمعايير في عرض التغييرات الجديدة في العالم وبيَّن أن الناس، البترول، الإفلاس، الحرب، تجارة المواشي، الصراع الاجتماعي، العائلة، الدين، والقمح أصبحت كلها مواد جديدة في العروض المسرحية. ولأنه وجد ثانياً أن الأسئلة القديمة لم تعد تنفع في البحث عن أجوبة أصيلة، من هنا انصرف فكره، ببساطة تامة، إلى الاهتمام في طرح أسئلة جديدة، ليخلص إلى أن الأسئلة المهمة تبقى أقل قوة من التساؤلات ذات الأجوبة المٌعلّقة، لكن الممكنة.
يقصد منهج بريشت تفتيت الواقع وتفكيكه للبحث في آلية تَشكله وطرح هذه الآلية وهي بحالة التشكل على المتفرج حيث أنه لا يمكن بلوغ الهدف ذي الأساليب المختلفة بمعزل عن سياق الحكاية. لذلك كانت الحكاية لديه، بمثابة صيرورة أو مسار وليست مجرد تشابك مصائر وأحداث، بقيت موجودة وبقيت أساس المسرح، ومن أجل إظهار وظيفة التماهي العميقة والمحددة للمعرفة. يسترشد قيس الزبيدي بمقالة حول المسرح التجريبي أظهر فيها بريشت بشكل مشوّق جداً سمات تمثيل التغريب بالمقارنة مع التمثيل، الذي يعتمد على التماهي (Identification) مع النموذج/الشخصية الأساس. ولم ير هذه السمات في التأرخة (Historiesieren) أو في تبرير علاقة المتفرج بالشخصيات والظروف، إنما أيضاً في تقديم متعدد الجوانب للشخصيات.
يعتبر قيس الزبيدي أن نظرية بريشت قد قادت في نفي التقابل الميتافيزيقي بين التماهي والتغريب، إلى أهم الإنجازات في تطور علم الجمال، كما وجدت لها في السينما مربدين تأثروا، بوعي أو دون وعي، بمبدأ التغريب، وحاولوا تدمير صورة “التماهي” في أفلامهم.
كما يضيف الزبيدي نقلاً حرفياً عن فالتر بنيامين في كتابه «العمـل الفنـي فـي عصر إعــادة إنتاجه تقنيــاً» قوله: إن ما اندثر في عصر إعادة إنتاج العمل الفني تقنياً هو عبق ذلك العمل. إن هذا الحدث علامة فارقة تتعدى أهميتها نطاق الفن. إن تقنية إعادة الإنتاج، هكذا يعبر عنها عموماً، تُخرج العمل المعاد إنتاجه من نطاق الموروث. فبما أنها تقوم بإعادة إنتاج عمل مستنسخ، فإنها تضع مكان وجوده الوحيد وجوده الهائل الكثرة. وبما أنها تسمح لإعادة الإنتاج بالنزول عند رغبة المتلقي حسب وضعه الخاص، فإنها تستحدث العمل المعاد إنتاجه من جديد. كلتا هاتين المسألتين تؤدي إلى حدوث زعزعة قوية للعمل المتوارث، زعزعة الموروث، الذي هو الوجه الباطن للأزمة الراهنة ونهضة الإنسانية. وكلتا المسألتين على علاقة وثيقة بالحشود والتكتلات الشعبية أيامنا هذه. أما فاعليتهما البالغة القوة فهي السينما. إن أهميتها الاجتماعية قائمة على صورتهما الإيجابية ولا تستقيم إلا بها. هذا بالإضافة أيضاً إلى جانبها الهدام ذاك، وهو: القضاء على قيمة الموروث في الحقل الثقافي. هذه الظاهرة موجودة بشكل ملموس جداً في الأفلام التاريخية الكبرى. إنها على الدوام تبسط سيطرتها على أماكن جديدة وتدخلها في إطارها. عندما أطلق آبل جانس في العام 1927 صرخته الحماسية: «إن شكسبير ورمبراند وبيتهوفن سيتم تمثيلهم… وإن كل الأساطير والميثولوجيات وكل الشخصيات الأسطورية وأصحاب الديانات كلهم، بل وكل الأديان …، ينتظرون قيامتهم (بعثهم) إلى العدسة، وها هم الأبطال يتدافعون على الباب».
ويضيف الزبيدي: بناء على تحليل كهذا، لم ينحصر اهتمامي ببريشت فقط بمنهج المونتاج بل أصبح بالنسبة لي مبدأ التغريب يعينني في بعض أفلامي التسجيلية بشكل خاص من أجل موضوعية محتملة عبر، تقنية إعادة الإنتاج، تُخرج العمل المعاد إنتاجه من نطاق الموروث. ولنأخذ مثلا فيلم “وثائق من الأرشيف” نرى فيها كيف تستخدم الصهيونية كل أنواع الأسلحة بمواجهة انتفاضة الشعب الفلسطيني بالحجة، التي يرددها بيغن، إن فلسطين هي أرض إسرائيل ويعني أن تحرير الأراضي، هي حق رباني لإسرائيل!
كتب الناقد الراحل بشار إبراهيم عن فيلم “حصار مضاد” لقيس الزبيدي قائلاً: “سوف ينال فيلم قيس الزبيدي «حصار مضاد»الإنتاج المشترك بين دائرة الثقافة والإعلام الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية، والإعلام المركزي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الجائزة الرئيسية في مهرجان أوبرهاوزن، في عام 1978 (…) وهو فيلم تسجيلي وثائقي قصير مدته (20 دقيقة) يصوّر الوقائع داخل الأرض المحتلة، ويقدم الفيلم من خلال تصريحات مناحيم بيغن العنيفة، المترافقة مع الصور الدامية، وثيقة بصرية لا تدحض، عن همجية الاحتلال الصهيوني من جهة، وعن صلابة وصمود الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، من جهة أخرى. هنا ثمة جند مدججون بالأسلحة، ومدنيون فلسطينيون عزل، يتلقون أبشع أنواع الإذلال. (…) حصار يكاد يضيق حتى بالروح بين الجوانح، والأنفاس المترددة في الصدور، ولكن هذا الحصار الصهيوني سيقابله الفلسطينيون بحصار مضاد على طريقتهم.
كما أن إعادة استخدام كل الوثائق الأرشيفية حتى منها ألصهيونية، في فيلم “فلسطين سجل شعب”، وبهذا الصدد كتب الكاتب نفسه:نستطيع أن نقول بشجاعة وجرأة إن فيلم «فلسطين… سجل شعب» هو أحد أهم الأفلام الوثائقية الطويلة التي صيغت حول القضية الفلسطينية، بتاريخها وتطوراتها (…) سياق فلسطيني مضاد ومناقض لسياق الرواية الصهيونية… لأول مرة سينمائياً. يبسط المخرج مساحة واسعة للتاريخ ليروي حكايته؛ حكاية التاريخ. ولكنها الحكاية التي يريدها بأبعادها الأيديولوجية، تماماً. للتاريخ عشرات الروايات، والمخرج قيس الزبيدي اختار إحداها.
يبني فيلم «فلسطين… سجل شعب» روايته، ويحشد المخرج قيس الزبيدي ما أمكن له من الحصول عليه من وثائق بصرية، ومن مشاهد لم يدر بخلد من التقطها، أن مخرجاً من طراز قيس الزبيدي، سيأتي بعد زمن، يعيد بناءها مونتاجيا”، ويمنحها سياقا، لينسج رواية فلسطينية لذاكرة مكان، هو فلسطين (…) إذ أن قيس الزبيدي استخدم الصور ذاتها التي التقطها غربيون، في فترات مبكرة من القرن العشرين، ووضعها في سياق يخدم رواية فلسطينية للتاريخ تماماً على العكس مما كان من التقطها يفكر ويريد…
أما عن عمله في مونتاج الأفلام مع عدد من المخرجين العرب، وتوظيفه لبريشت في تقنيات المونتاج، يقول قيس الزبيدي:
عملت في المونتاج مع مخرجين عرب عديدين، ينتمون كلهم إلى ما سمي “السينما الجديدة أو البديلة أو المختلفة” عما هو سائد. وكنت أحاول وفقاً لمفهومي للمونتاج وخبرتي الفنية والتقنية أن أساهم في ابتكار حلول للأفلام التي عملت فيها مع مخرجين أذكر منهم نبيل المالح وعمر أميرالاي ومحمد ملص وغالب شعث وقاسم حول وكريستيان غازي التي كانت تجربتي معه في فيلم “مئة وجه ليوم واحد” قريبة من مفاهيم بريشتية خاصة وأن كريستيان كان يعرف بريشت ويثمنه وأخرج للسينما فيلمه الأول «الفدائيون» عن الثورة عام 1967. الذي استوحاه ليس عن مسرحية «الأمّ كوراج» كما يقول بعض النقاد، بل عن مسرحية “بنادق الأم كارار”.
وبهذا الصدد بودي أن أضيف أن في العربية تسمى “الأم كوراج” بـ “الشجاعة” وهذا خطأ فادح، فكوراج هو أسم الأم وهي ليست شجاعة، بمعنى أنها لا تتعلم من أن الحرب تدمر عملها وتقتل أولادها، وما يريده بريشت هو أن يتعلم المشاهد نفسه من كوراج التي لا تتعلم.
لكن تجربتي مع مارون كانت أيضا في نفس المسعى وحينما أتذكر الآن أجد أنها كانت مهمة، لأن مارون وقتها كان ينجز فيلمه الروائي الأول واستطاع أن يصوره في ظروف إنتاجية لم تكن تتوافق مع خبرته وموهبته، لأن موهبته وقتها كانت لا تتساوق مع خبرته، فهو اعتمد على كتابة أدبية ذات نص مفتوح، وكان يرتجل أثناء التصوير، ولم يكن كل ما يرتجل يتفق دائما مع النص الذي اعتمده: كل ذلك وضع أمام المونتاج مهمة لا أقول أنها صعبة فقط إنما إبداعية، بمعنى أن “الحكاية” كانت مخفية في المادة المصورة، وكان علينا البحث عنها، لنضعها في سياق إبداعي وتقني مناسب، لأن ليس كل ما هو إبداعي قابل للتحقيق تقنياً.
هناك عموما صراع حاد في السينما الجديدة بين الإبداعي والتقني، أي بين خلق استمرارية فنية عبر وسائل تركيب تقنية- فنية. من هنا كانت التجربة مهمة ومفيدة ربما ليس لي فقط إنما للفنان الموهوب مارون بغدادي، وأنا لا أقول هذا الكلام من باب الصدفة، إنما من باب تجارب مونتاجية قمت بها باستمرار في أفلام تنتمي إلى السينما العربية الجديدة. على هذا أرى في هذه السينما باستمرار مشكلة تعبيرية، تعود ليس فقط إلى ما يتم تصويره إنما إلى كيف يتم توليفه، وهنا يأتي شرط المونتاج، لكن في مرحلة متأخرة، يتطلب إنجازها عملاً إبداعياً دؤوباً، ينتمي عملياً ليس إلى المرحلة الأخيرة من إنجاز والفيلم إنما تعود إلى مرحلة إعادة كتابته في عملية المونتاج مرة أخرى.
عندما تقرر العمل على توثيق موضوع ما، إما سينمائياً أو كتابياً “كمؤلف” ما الذي يحدد لك الطريقة التي تعمل بها؟ أقصد بالنسبة لك ما الفرق بين التوثيق المكتوب والتوثيق المصور؟ وكلاهما في النهاية وثيقة؟
أنا مهووس بالأرشفة خاصة لأن ليس عندي مكان مستقر فكل شيء مهم كان عندي موزع في أمكنة عديدة فقد أكثر منها في بيت مدانات في بيروت وفي مقر النادي السينمائي بدمشق في ودائرة الثقافة والإعلام بدمشق وفي بيتي في دمشق وهكذا …
الفرق بين المكتوب والمصور يختلف بين التسجيلي والروائي. إن طريقة الاختلاف التي تميز الفيلم التسجيلي عن الفيلم التمثيلي، دون أن نغفل أحياناً التداخل بينهما، هي ما تقرّر هوية الفيلم، أكان تسجيليا/ وثائقياً أو روائيا/ خيالياً، ليس فقط في طبيعة ما يجري تصويره (افتراضيا كان أم مُتخيّلاً) . إنما ما يميز العلاقة بين مَن يقف وراء الكاميرا ومن يقف أمامها، أي ما يميز خطة الميز-آن-سين (الإخراج)، وطريقة التوجه إلى المُشاهد ومخاطبته، وجعله يستكشف عالمه (أو يكتشف) عالماً جديداً من خلال الصور. وأصل المكتوب بين الاثنين، هو ما يختلف أصلاً. ويشمل كل شيء يحدث ويظهر أمام الكاميرا.
الوثائقي هو الذي ينضوي تحت شروط التوثيق الفعلية، أمّا التسجيلي فهو الذي يسجل ما يقع أمام الكاميرا. حيث بتحقيق فيلم وثائقي، فإن المخرج سيلتزم بالشروط الصارمة للفيلم، ولا يلجأ لإدخال عناصر خارجية، كتلقيح وتركيب، ولا إدارة الشخص في الفيلم كممثل كما نرى الحال منتشراً، الالتزام هنا هو بتحويل الفيلم إلى وثيقة صادقة مائة بالمائة وخالية من التركيب والتفعيل الجانبي.
الفيلم التسجيلي يستطيع أن يأخذ على عاتقه هذا المنوال من التفعيل، لأنه يريد أن يسجل طبيعة حياة ما، وربما يواجه اختيارات من نوع تخصيص العنصر البشري الأول في الفيلم بلقطة تركب شروطها خلال التصوير؛ كذلك فإن التسجيل يعني أن الكاميرا تصوّر لكي تسجّل وضعاً، وليس بالضرورة لتوثيق حقيقة معينة. الغطاء المثالي لكلا النوعين هو “الفيلم غير الروائي”، على أساس أنه يشملهما معاً، وهو يشمل أيضاً الفيلم التجريبي، والفيلم الشعري، وأي فيلم يخلو من عنصر القصّة.