حديث عن تجاربه السينمائية الأولى: (١/٤)
قيس الزبيدي ـ
سيرة المخرج والكاتب السينمائي قيس الزبيدي واحدة من تجارب السينما العربية المميزة جداً، ليس فقط بكونها مسيرة تمتد منذ نهاية ستينات القرن الماضي، منذ حصوله على دبلوم في المونتاج من معهد الفيلم العالي في بابلسبرغ بألمانيا عام 1964، ودبلوم آخر في التصوير عام 1969، وعمله في استوديو ديفا للأفلام التسجيلية وفي المعهد العالي للسينما في ألمانيا في المونتاج والتصوير والإخراج، وكان الطالب الوحيد من قسم التصوير الذي منحته الكلية فرصة إخراج فيلم التخرج التسجيلي بالإضافة إلى تصويره ومونتاجه وكتابة السيناريو له، وحقق نجاحاً فتم عرضه في مهرجان لايبزغ السينمائي. بل لأنها تجربة متنوعة جداً، عمل فيها بالكتابة للسينما والنقد، الإخراج والمونتاج والإنتاج، وأخرج مجموعة من الأفلام التسجيلية في سوريا ولبنان وألمانيا حصلت على جوائز في عدة مهرجانات عربية ودولية، وقام بمونتاج وإخراج مجموعة من الأفلام في ألمانيا، كما قام بمونتاج أفلام عربية معروفة منها “إكليل الشوك” للمخرج نبيل المالح، و”رجال تحت الشمس” للمخرج محمد شاهين و”الحياة اليومية في قرية سورية” للمخرج الراحل عمر أميرلاي، و”بيروت يا بيروت” لمارون بغدادي و”يوم الأرض” لغالب شعث و”عائد إلى حيفا” لقاسم حول وفيلم “الليل” لمحمد ملص. كما برز اسمه في أوائل السبعينيات، كأحد أبرز الأسماء التي تصدّرت المشهد السينمائي في سوريا مخرجاً ومونتيراً لعدد من أفلام السينمائيين الشباب السوريين.
أثناء حوارنا مع الزبيدي، أعادنا إلى دراسة سابقة بعنوان “مع قيس الزبيدي: عودة إلى السينما البديلة” للباحثة الفرنسية آناييس فارين حيث كتبت: في عام 1972، نظم في دمشق، المهرجان الأول للسينمائيين العرب الشباب، والذي أكد خلاله هؤلاء السينمائيين الشباب، على إرادتهم في إحياء وخلق أو تأسيس “السينما البديلة”، كما تشرح سيسل بويكس. فالهدف المنشود هو “صياغة لغة سينمائية جديدة تأخذ في الاعتبار الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمعات التي تتحدث عنها وتكون شاهداً عليها (……) هناك حاجة وضرورة لتغيير المستوى من أجل فهم أفضل لصيغ وطرائق هذا التهميش. وهذه في الحقيقة مسألة اللغة والظروف السينمائية والسياسية لهذه المنطقة التي -إلى جانب المسألة المؤثرة والحاسمة بخصوص صعوبة الوصول إلى الأفلام التي أخرجت في تلك الفترة في العالم العربي- تفسر الجهل بمواقف وآثار قيس الزبيدي. فآراء ووجهات نظر السينمائي وكتاباته النقدية التي جمعت في دمشق -ونشر منها ملاحظة من الزبيدي- في عدد خاص مكرس للسينما العربية البديلة ( العدد رقم 8_7-،1972).(…) وكتغطية للفضاء المهرجاني، فإن هذه الوثيقة تتيح الاستماع لأصوات متناقضة ومتباينة، ورؤية مشروع يختلق أو يبتكر، وتعريف يتبلور ويتشكل ويتم رسمه نظرياً. هنا يوجد تعدد الأصوات واستخدامات لا مبالية أحيانا للشروط ولمفاهيم مثل “سينما بديلة” و”سينما جديدة”، تسمح على نحو أفضل في فهم المشاكل التي تواجه السينمائيين الشباب وتنوع واختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم.
أما الناقد الفرنسي غي هينيبيل فكتب كذلك عن رؤية الزبيدي فيما يتعلق بمسألة العلاقة بين السينما العربية البديلة والجمهور:” يتذكر الموقعون على هذه الخطوط مناقشات متعمقة مع المخرج في المهرجان الأول للسينما العربية الشابة في دمشق في عام 1972، حول أهمية النهج الفني الذي كان، باختصار، يرنو للعثور على نوع من السرد “الثوري أنطولوجياً” إنطلاقاً من بحوث مختبريه، لا تأخذ في الاعتبار تلقي وتقبل الجمهور”.
سألناه: ما هي السينما البديلة التي ناديتهم بها؟ لماذا السينما البديلة؟ وبديلة عن ماذا؟ أقصد ما هي مدارس السينما التي أردتم خلق سينما رديفة لها؟ ما الذي كنتم تحاولون عمله؟ واليوم بعد ما يزيد عن خمسين عاماً هل تعتقد أنكم نجحتم في خلق هذا التيار والتأثير في مسار السينما الفلسطينية والعربية؟ أين يمكننا أن نرى هذا التأثير؟
السينما البديلة في سورية أو السينما الجديدة في مصر شعار آخر، اتجاه آخر ظهر بصوت عال لكن صداه في الواقع الموضوعي، تبين بعدئذ، على غير التوقعات كان ضعيفاً، وكان مهرجان دمشق لسينما الشباب هو الإعلان عن وجود ونية وجود هكذا سينما، كانت بداياته موجودة مثلاً في مصر والمغرب الكويت ولبنان وسوريا بشكل خاص، غير أن الشرط الموضوعي لم يكن في صالح هذه السينما، فالعالم العربي ليس فيه، عدا مصر، صناعة سينما والقطاع الخاص كانت تقاليد إنتاجه معادية قطعا لأي مشروع جاد جديد. وكانت هناك فقط إمكانية العمل في قطاع عام ناشئ أتاح وضعه، في البداية، هنا أو هناك فرص عمل أمام بعض مخرجي هذا الجيل، ولكن القطيعة حصلت بعد أن بدأ القطاع العام يتجه، هنا وهناك، شيئا فشيئا نحو بيروقراطية بدائية لا ترى في السينما سوى وسيلة أعلام.
هذا يدفعني هنا للإشارة إلى أفلام ثلاثة روائية “مئة وجه ليوم واحد” لكريستيان غازي عام 1970 و”الفهد” لنبيل المالح عام 1972 و”اليازرلي” عام 1974 لقيس الزبيدي، والفيلم التسجيلي “الحياة اليومية في قرية سورية” لعمر أميرلاي عام 1974 وهي سنة حاسمة في تاريخ المؤسسة ومشروعها ممثلاً بشخص رئيسها حميد مرعي -كما تكتب الباحثة- “الذي ساعد قيس الزبيدي في العمل في سوريا، وشجع التجريب الفني والحوارات أو النقاشات حول السينما البديلة، حيث أعفي من منصبه وأزيح، في خطوة استبدال إدارته للمؤسسة العامة للسينما”.
ويمكن التأكيد بهذه الإشارة على أن هذه الأفلام الأربعة أخرجت كتعبير عن صوت ولادة كامن، قاد إلى تأكيد صوت السينما البديلة الذي ارتفع أثناء، أو بعد انتهاء مهرجان دمشق لسينما الشباب في العام 1972.
وفي دراسة “مع قيس الزبيدي: عودة إلى السينما البديلة” للباحثة الفرنسية آناييس فارين التي تقول فيها: “لقد غدت المؤسسة العامة للسينما مركز استقطاب ومختبراً للسينما البديلة والملتزمة. وقامت هذه المؤسسة بإنتاج فيلم “اليازرلي” وهو الفيلم الروائي الطويل الوحيد للمخرج السينمائي قيس الزبيدي. ولقد منع الفيلم من العرض بذريعة “محتواه الجنسي الصريح” وكان هذا الفيلم، مع عمل وإبداع عدد من السينمائيين الآخرين، يندرج على نحو ما في سياق تلك التجربة أو المحاولة لخلق وتقويم سينما عربية بديلة مهمشة ضمن تاريخ عام للسينما لأسباب خارجة عن مستواها الجمالي والإبداعي ونوعيتها الذاتية.
هل كان الفيلم سبباً كما قيل حينها، من منع دخولك مؤسسة السينما؟ أم هي مشكلة المؤسسة الرسمية مع مواقفكم؟ أو لمشاريع أخرى كتجربة سيناريو فيلم “المغامرة” الذي كتبته مع سعدالله ونوس عن مسرحيته “مغامرة رأس المملوك جابر” ولم ينته به الحال بأن يصبح فيلماً؟
كانت المؤسسة قد تعاقدت مع شركة موسفيلم Mosfilm لعرض الفيلم في الصالات وأرسلت الفيلم للمشاركة في مسابقة مهرجان لوكارنو وصادف عرض الفيلم في المهرجان مع المتغيرات الحاسمة في تغير مدير عام المؤسسة عبد الحميد مرعي ولم يتسن لي تلبية الدعوة. وبعد ذلك ألغت الإدارة الجديدة العقد ومنعت عرضه إطلاقا؟! أما ما يخص منعي من دخول المؤسسة فسببه مونتاجي وإشرافي الفني على تصوير فيلم “المغامرة” الذي كتبته مع المخرج محمد شاهين بموافقة من سعد الله ونوس. وقد غير المخرج نهاية الفيلم بمشاهد من حرب تشرين، لم أكن وقتئذ في سوريا وحينما عدت وشاهدت النهاية ألغيتها. وهكذا اعتبرت الإدارة وكأن موقفي غير وطني!
بعد تغير الإدارة طلبت مني وزيرة الثقافة إلغاء المشهد الإيروتيكي الطويل ووجدت الفرصة سانحة لإعادة مونتاج الفيلم بشكل أفضل، وفي الوقت نفسه وجدت حلاً فنياً للمشهد دون إلغاءه. مما قاد أيضا لوقف عروضه إلا في برامج الأفلام السورية في مهرجان دمشق مع قص أكثر من عشرين دقيقة من الفيلم.
تقول الباحثة الفرنسية آناييس فارين: إن فيلم قيس الزبيدي ليس ممنوعاً من العرض، هو ممنوع ولكن ليس بصورة رسمية “مش ممنوع”، والصيغة التي استخدمها قيس الزبيدي تذكرنا بممارسات المنع الشفوي غير الرسمي لمنع عرض وتوزيع الأفلام. وقد كتب بعد العرض الأول للفيلم في طشقند الناقد السينمائي وليد شميط:
“لقد اكتشفنا الآن فيلماً عربياً هاماً أعاد لنا ثقتنا بإمكانية أن يكون ثمة سينما بديلة يوماً ما في هذا الوطن العربي. فهو أول فيلم تجريبي حقيقي من إخراج أحد الذين تحمسوا للسينما البديلة. وهو أول فيلم “بديل” يطرح بجدية مسألة الشكل والجمالية في السينما؛ وعلاقة السينما بالجمهور وبالأدب؛ إذا استثنينا فيلم “مائة وجه ليوم واحد” لكريستيان غازي الذي ساعدت في إنتاجه أيضا المؤسسة في دمشق”.
وكتب الناقد البولوني السينمائي ليسلاف باير في مجلة “فيلم” البولونية في تشرين الثاني 1974: “من الأكيد أن فيلم الزبيدي هو تجربة شيقة وجديدة في عالم السينما العربية. (…) إن “اليازرلي” يملك هيكله السردي الخاص. ليس هنا مسعى إلى نهاية معينة؛ والدراماتورجية تتميز بالصفات الكلاسيكية لما يسمى بالعمل الفني المفتوح. حتى أنه من الصعب القول من هو البطل الرئيسي. هل هو الصبي الذي وضع في المركز الرئيسي من القصة والذي تخرج منه موجات الإرتداد. وهل هو رئيس العنبر ذلك الرجل القاسي في المظهر والحساس في الجوهر؛ الصارم في حل الخلافات مع العمال؛ والقادر على تقديم المساعدة عند الحاجة؟
إذن لا يمكن القول إن قيمة الفيلم تكمن في حالات الارتداد. فالفيلم كله حالة نكوص. لكن نعثر هنا على نوع من النظام والحزم والغائية الدراماتورجية؛ ربما لأن الزبيدي يعرف كيف يربط في صورة واحدة أمزجة متباينة؛ بل وحتى أهدافاً متناقضة. مثلا يظهر صائد سمك يحلم برؤية أثداء بضع فتيات. وليحقق حلمه يدفع الثمن على هيئة قطع بائسة من الصابون.
إنه مشهد مؤثر لبؤس الذي يدفع واللواتي يستلمن الثمن. وهناك في الوقت نفسه خيط من الكوميديا في هذه الصورة. إن التزاوج بين الرهبة والكوميدي؛ في شخصية اليازرلي؛ والإذلال والإضحاك والقوة والعجز، إن هذا التناقض الداخلي الذي يسيطر على كل واحد؛ وعلى كل شيء؛ هو طريقة في تنظيم المادة الدراماتورجية. إن الحلم أيضاً يصبح أسلوباً لنقض الواقع ويؤكد على شذوذ حالة اليقظة. إن هذا الصبي البائس ذا الملامح الرقيقة؛ يعامل كدحه في الميناء باديء الأمر كتسلية؛ لكن بعدها حين يدفع العربة المليئة بالاكياس من الرصيف إلى المخزن وحين تغوص قدماه في الرمل الملتهب؛ وتلك الشمس الفظيعة؛ يغمى عليه وفي إغماءته يظهر أمامه صف المدرسة طاف على سطح ماء بارد. وهذا أمر تقليدي. ولتعميق الأثر يلجأ الزبيدي دائما إلى نوع من التزاوج بين الحلم والواقع. وهذا هو المبدأ الثاني للقصة المشيدة هندسيا.
لكن علينا أن نضيف بأنه ليس هناك في الفيلم مبدأ قد استغل واستخدم دائما. والهدف من اللجوء إلى مثل هذه الوسيطة هو مختلف كل مرة. والطراز الثالث من التزاوج هو انتقاء نوع من الطبيعة بالتأمل الشاعري. وهذان العنصران المتناقضان يلتحم أحدهما بالآخر. هناك توجد الحاجة إلى النظام؛ وإلى ضرورة تبرير استخدام الصور المكررة. وفي لحظات معينة يبدو أن المخرج نفسه يحلم. فهناك مثلا تلك الحديقة التي غرست فيها الشموع. إنها مجرد زينة وليست من عناصر المشهد الإخراجي. ولم ينقذ المخرج من الوقوع في المبالغة الجمالية سوى الفكاهة والمراقبة الحادة والميل إلى التهكم.
البؤس والبطالة والبغاء والأطفال الكادحون والأم المعذبة والرجال القساة والفتاة بإغرائها، هذا كل شيء بل وأكثر، إلا أن ذلك حديقة زرعت بعناية وإدراك. في الفيلم لا توجد أسئلة ولا حالات تشخيص بل مجرد وصف مؤثر لمصير كائنات بشرية؛ لا يلجأ إلى الأساليب (القويمة) والإيضاح الذي لا حاجة إليه. ولربما بسبب ذلك هناك في تلك الصور صرخة ما مكتومة لكنها تخرج بوضوح.”
كان لك تجارب قليلة، الفيلم الروائي بفيلم “اليازرلي” الذي أخرجته في سوريا عام 1974 عن قصة قصيرة لحنا مينه، ومن قبله فيلم “الزيارة”. هل هذا انحياز للتسجيلي بالنسبة لك؟
بدأت عملي كسينمائي بإخراج فيلمين قصيرين تسجيلي “بعيداً عن الوطن” وروائي “الزيارة” وذلك تعبيراً عن توجهي في إخراج أفلام تسجيلية وروائية فنية شبيهة بالفيلمين المذكورين، لكن ظروف الإنتاج الصعبة التي واجهتني لم تحقق مثل هذا التوجه، خاصة وأنا كعراقي لم أعمل أبدا في وطني. وبعد أن تركت العمل في المؤسسة أتيحت لي فرصة كتابة وإخراج فيلمي الطويل الوحيد أي “اليازرلي” وهو فيلم كما هو معروف تعرض للعقاب لعقود طويلة. وقبل ذلك وبعده انصرفت لعمل المونتاج في أفلام روائية عديدة وجربت عمل أفلام تسجيلية إلى أن عملت في دائرة الثقافة والإعلام، وأخرجت مجموعة من الأفلام التسجيلية القصيرة والطويلة. ولأذكر هنا محاولاتي العديدة لكتابة سيناريوهات لأفلام روائية طويلة عديدة، إضافة إلى مشاركتي لمخرجين عديدين في كتابة السيناريوهات. بمعنى آخر لم يكن الأمر انحيازاً للتسجيلي مع كل أهميته للمواضيع الفلسطينية وإمكانية عروضه في المهرجانات أو في المحافل الدولية.
حدثنا عن فيلمك “في سنوات طيران النورس”.
كنت قبل فيلم شهادة الدبلوم قد أخرجت أفلاماً قصيرة عديدة خلال دراسة المونتاج، كذلك أفلاما أخرى قصيرة خلال دراسة التصوير وعملت في المونتاج في فيلم “إلى الأمام أيها الزمن” مع المخرج كارل غاس وهو مخرج أفلام تسجيلية مهم جداً. أنهيتها بفيلم الدبلوم “في سنوات طيران النورس”، وكنت قد تعرفت في جزيرة هيدينسي على صياد ألماني اعتزل الصيد لتقدمه بالسن، وأجريت معه عدة لقاءات مكتوبة حدثني فيها عن ماضيه والزمن الذي عاش فيه فقدمت سيناريو مفتوح مع صور فوتوغرافية للصياد والجزيرة ولما تمت الموافقة أخذت الكاميرا وطالباً كمساعد وذهبت إلى هذه الجزيرة الساحرة التي تقع على سطح بحر البلطيق، ومع أن الفيلم تسجيلي لكني جربت أن تكون عناصر تعبيره شعرية، بمعنى تدخل من يصور ويوجه من يصوره، فمثلاً أردت للصياد أن يجلس في قاربه في يوم مشمس لتنعكس الصورة على مياه البحر، وهو ما يخلق صورة شعرية أثناء ما نسمع صوت الصياد، وكنت قد أخترت شخصاً صاحب صوت قريب لصوت الصياد المسن ليقرأ ما سبق أن دونته مع الصياد وبلهجة أهالي المنطقة نفسها. إن الطابع الشعري للفيلم ينشأ من علاقة الصياد بالبحر، ليس باعتباره وسيلة عيش فقط بل نظراً لتلك العلاقة الروحية الحميمة بين الصياد والبحر.
وأود أن أبين هنا بأني أثناء سنوات دراسة التصوير كنت أعمل كمونتير لأفلام دبلوم الطلبة الأجانب في المعهد وفق عقود نظامية كذلك كمصور في مثل هذه الأفلام وكانت حصيلة الأفلام التي صورتها وقمت بمونتاجها عموماً تزيد عن عشرين فيلماً إضافة إلى دراستين، الأولى نظرية حول طرق المونتاج في فيلم “طفولة إيفان” لتاركوفسكي والثانية “وظيفة الخدعة السينمائية في اللغة السينمائية”. وخلال فترة الدراسة وبعدها تابعت الحضور في مهرجان لايبزغ، الذي هو أهم مهرجان للفيلم التسجيلي في العالم، وفيه تعرفت على السينما التسجيلية العالمية وعلى أبرز مخرجيها فلاهرتي وفيرتوف وايفنز وغيرهم. كما تعرفت أيضاً عن تاريخ السينما التسجيلية العالمية بكل تياراتها النثرية والشعرية الذي كان المهرجان ينظم سنويا برامج خاصة من تاريخ السينما.
اكتشفت أولاً أهمية السينما التسجيلية، لأننا حينئذ كانت السينما بالنسبة لنا هي السينما الروائية، ولا أنسى أن أشير هنا إلى مشاركتي وتجربتي لسنوات طويلة في مهرجان أوبرهاوزن المهم أثناء عملي في سوريا. وكنت بهذا، كما أعتقد، قد تأهلت حرفيا وفنيا وحتى نظريا في إخراج وكتابة سيناريو ومونتاج الأفلام أثناء مسيرتي السينمائية.
حمل كتابٌ للسينمائي السوري محمد ملص عنوان “قيس الزبيدي- الحياة قصاصات على الجدار” هل كان عنوان الكتاب يصف طريقتك في الكتابة السينمائية؟ هل تكتب مشاهدك وملاحظاتك على قصاصات وتعلقها؟ كيف تجمع بينها، هل تراها لقطات أو مشاهد أم مجرد أفكار تعيد تجميعها لتصبح مشاهد كاملة؟
ربما هذا العنوان أستلهمه محمد ملص من طريقتنا في مونتاج فيلم صبري مدلل. ودعني أقتبس إجابتي مما كتبه ملص في كتاب قصاصات على الجدار: “باعتبار أننا نعيش ونعمل في البيت -بيتي في برلين- فقد قررنا أن نبقى طوال الوقت في البيجامات. وبدأ قيس مشاهدة (رشز) المادة المصورة، التي ما تزال ليست فيلما، وما يزال هذا الجنين بلا أسم؛ وفي الحديث عنه نسميه للتداول صبري مدلل. يجلس قيس قبالتي في الصالون، إلى القرب من جهاز التلفزيون وقارئ V.H.S.، وأجلس إلى جوار النافذة وراء الطاولة وأسجل أرقام “التايم كود ” للقطات نتوقف عندها أونختارها؛ وبعد النقاش حولها يسجل قيس بطاقتها وأرقام الزمن الذي نأخذه منها ويعلق البطاقة على الجدار أمامه.
للمتابع لأفلام قيس الزبيدي يرى أن ثمة علاقة بين السينما والرسم في بعض أفلامه، ما طبيعة هذا التناغم أو لنقول التأثر بفن الرسم؟
ذات مرة قلت لسمير فريد، جواباً على سؤاله حول أفلام الفن التي استهوتني: إن فيلم “زائد ألوان” خلق عندي نوعا من تبكيت الضمير لأن الرسم رسم والسينما سينما. وكان جوابي هذا ساذجاً. لأن عالم الفن التشكيلي كان يأسرني دائماً فمنذ كنت طالباً في المعهد السينمائي، عملت فيلم “نزهة”، عالجت فيه لوحة غرنيكا لبيكاسو، ثم في فيلم (الزيارة) الروائي التجريبي القصير طلبت فيه من الرسام الفلسطيني نذير نبعة أن يرسم لوحة عن فلسطين شبيهة بلوحة غرنيكا لكي أعالجها وفي “شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب” عالجت رسوم الأطفال الفلسطينيين التي رسموها في مخيم البقعة بمبادرة من الفنانة التشكيلية منى السعودي ثم أخرجت في المؤسسة فيلم “زائد ألوان” وهو فيلم عن لوحات ثمانية رسامين بارزين في سورية من أجيال مختلفة. وفي برلين أخرجت فيلم “كابوس” عن رسوم كولاج لناقد ألماني معروف، وكانت هذه فرصة لأصنع فيلماً عن رسام عراقي يعيش مثلي في المنفى ويبحث عن مواضيع وألوان شبيهة بألوان عرفها في وطنه. عليه كان يجد ألوانه في روما وفي الوقت نفسه يجد ألواناً في دمشق ويلقح بين هذه الألوان ليرسم مواضيعه وكأنه في وطنه.
إذن، وفي سياق الرسم والسينما، جاء فيلمك التسجيلي عن الرسام جبر علوان “ألوان”، الذي يعتبر فيلمك الوحيد الذي له علاقة بالعراق، لماذا اخترت جبر علوان موضوعاً للفيلم؟
لا شك في أن جبر علوان رسام مهم عنده طريقة خاصة في استعمال الألوان، والطريف أني سميت الفيلم “الوان” لأنني أردت عمل الفيلم عن اللون عند علوان واسمه هذا يلفظ باللاتينية (ألوان) وهو اسمه لكنه أيضاً يشير إلى اللون. إذا التقى فن السينما كوسيط، بالرسم كفن ووسيط مختلف، ثمة أشياء مشتركة بينهما وأشياء متضادة، فما ينتج عن ذلك يعتمد على معرفة ومهنية وقدرة صانع الفيلم على إيجاد هذه العلاقات المتجانسة والمتفارقة. فمثلاً من الأشياء المختلفة أن اللوحة ثابتة سكونية وإطارها متنوع في شكله وحجمه؛ مستطيل أو مربع، صغيرة أو كبيرة، بينما السينما صورتها متحركة وإطارها محدود. عملياً، ليس المهم اللوحة بقدر ما هو إعادة تفكيك اللوحة وإعادة بنائها وربطها كلون وإيقاع وملامح وموضوع باللوحة الثانية، بمعنى إعادة تفكيكها وإعادة إنتاجها سينمائياً، وهنا يعطيك المونتاج فرصة بالتشكيل لا حدود لها. وحاولت هنا ببناء مونتاجي أن أتطرق لعملية إبداع اللون عند هذا الرسام.
فيلمي ليس فيلم بورتريه عن جبر علوان العراقي، إنما بحث في جذور اللون الذي يستخدمه جبر علوان، أهو من دمشق (المدينة الشرقية) التي يقيم فيها بعض الوقت أم من روما (المدينة الغربية) التي يقيم فيها البعض الآخر من الوقت، أم من الذاكرة من بلده الأم العراق. نراه في الفيلم مرة يرسم في روما ومرة يرسم في دمشق، لأني أردت اكتشاف من أين يأتي بالألوان في كل مكان منهما، أي من شمس روما أم من شمس دمشق الأقوى والأكثر دفءاً. وهل هنالك فرق في درجة الألوان بين المدينتين؟ وما نوع الموسيقى التي يسمعها عندما يرسم في كل منهما؟
إضافة إلى أنني استخدمت مقطعاً من مسرحية جواد الأسدي “حمام بغدادي” التي رسم جبر لها لوحة الخلفية، وعبر حديثه عنها وعن تجربته هذه دخلت في موضوع العراق، هنا استرجعت اللوحات التي رسمها عن العراق التي تختلف تماماً عن اللوحات التي يعرضها في الوقت الحاضر. في هذا الفيلم أول مرة أقترب من الموضوع العراقي لكن بشكل تجريبي.
ما هو المنفى وما هو الوطن بالنسبة لك؟
المنفى ليس منفى والوطن ليس وطنا والخيار ليس خياري وأنا من زمن لا أفكر بمثل هذه الأمور، لكي لا أفقد تلك القوة المتبقية عندي والتي هي دافعي الوحيد على العمل المنتج، وإن كان متواضعاً ولا يتناسب مع طاقة القوة المتبقية عندي.
قضيت في ألمانيا، وبعدئذ في سوريا سنوات حياة أكثر مما قضيتها في وطني، لكن ما يربطني بسوريا هو أكثر مما يربطني بأي بلد آخر. غير أن علاقتي بسوريا ذات مفارقة ومحفوفة بالمشاكل لأنها ليست وطني، فأنا اخترتها وهي لم تخترني. عشت فترة في لبنان واخترت من ثم فلسطين، غير أن فلسطين ليست وطناً لأهلها حتى تكون وطنا لي، وأنا الآن مواطن ألماني لكن ألمانيا هي ليست وطني. أنا لست حراً في اختيار العودة إلى أي مكان، ومن الناحية الواقعية لا أجد في أي من هذه البلاد أو الأماكن أو الأوطان وطنا لي، مع أني أتصرف كما لو أنها كلها أوطان لي.