عبد المحسن الكاظمي شاعرالبداهة والإرتجــــال
جميل حسين الساعدي
ولد عبد المحسن الكاظمي في مدينة الكاظمية ــ بغداد ــ في العام 1865 من أبٍ يتصل نسبه بمالك الأشتر النخعي ، صاحب الإمام علي عليه السلام ، ومن أمّ يتصل نسبها بشاعر الطالبيين الشريف الرضي . عملَ في التجارة أسوةً بوالده ، الذي كان يعمل فيها ، ثمّ امتهن الزراعة ، التي لم يفلح فيها ، فانصرف عنها ، قاصدا وجهة جديدة وهي مطالعة كتب الأدب ، حيث كان يقضي معظم وقته متنقلا بين حلقات الأدباء ومكتبات الكاظمية ، ينهل الأدب من خزائنها ، فحفظ الكثير من الشعر ويقال أنه حفظ أكثر من 12000 بيت من الشعر ، كما خصص بعضا من وقته لدراسة أمّهات الكتب في اللغة والنحو بهمة لا تعرف الكلل والملل حتى أصبح لغويا كبيرا ، ملمّا بعلوم العربية وأسرارها . لم يكن الكاظمي يفكر يوما بأن يغادر مرابع الصبا والشباب ، لكنّ استبداد السلطات العثمانية المحتلة وما جبلت عليه من فساد واستغلال ومساعيها لطمس الهوية العربية .كلّ ذلك دفع الشاعر إلى أن يتعرض لها كاشفا مثالبها ، مما اضطره أخيرا أن يغادر بغداد سرّا ، ميمّما شطر البصرة ومن ثمّ إلى أبو شير في الخليج العربي ثمّ يعود ثانية الى العراق ليبدأ من جديد رحلة إلى إيران فالهند ، ليستقرّ به المقام أخيرا في مصر. وهناك تزوج من فتاة تونسية تدعى عائشة ، وهي ابنة الثائر التونسي محمود أحمد الحسين ، الذي لجأ إلى مصر بسبب ظلم الفرنسيين وتعسفهم.
حفلت حياة الكاظمي بأحداث مهمة أثناء إقامته في مصر ، من أبرزها اتصاله بالشيخ محمد عبدة ، الذي شمله برعايته واهتمامه وقدّم له يد المعونة والمساعدة ، ، ، منذ أن وطأت قدماه أرض مصر ممّا حبّب له البقاء فيها ، ولما توفي الشيخ محمد عبدة ، أخذ سعد زغلول على عاتقه رعايته ، بأن خصّض له راتبا شهريا يدفع له من خزانة الأوقاف.
ذاع صيت الشاعر عبد المحسن الكاظمي في الأوساط الأدبية ، فأصبح يلقّب بشاعر العرب وبشاعر البداهة والإرتجال ، وأبو المكارم
وحظي باحترام وتقدير الشخصيات الأدبية في مصر ، فقد نشر عنه الكاتب المصري محمد رشيد رضا مقالا بعنوان (القديم في الحديث والاول في الآخر) في المجلد الثالث لمجلة المنار نقتطف منه هذا الجزء:
((ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي كله ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام ، وحتى صرنا نعد وجود مثل سعادة محمود سامي باشا البارودي من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة ، كأنّ السليقة العربية رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها والظاهر أنّ بلاد العراق لا تزال أقرب الى السليقة العربية من أهل هذه البلاد ، وأنّ النابغين فيها أكثر منهم في غيرها ولقد وافى هذه البلاد من أشهر رجل فاضل جدير بلقب ( الأديب) وقلّ الجدير به في العصر، ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن الكاظمي( نسبة إلى الكاظمية بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح والأخلاق الحسنة من الشاعر المفلق ، العذب المنطق ، الذي ناهز المقدمين ، وخاطر المقرمين ، ومن السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس ، حتى أنّك لا تشعر في أول عهدك به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة.
قال صاحب السعادة اسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب في مصر( إنني عندما لقيته أول مرة ظننت إنّه لا تطيب معاشرته ، فلما خبرته علمت أنّه لا تطيب مفارقته ) .أ هـ ))
ومما هو معروف في مجالس الأدب ونواديه ، أنّ الشاعر محمود سامي البارودي ، كان يكنّ للكاظمي كلّ الإحترام والتقدير بحيث أنه لم يقرأ شيئا من شعره في حضوره وأصبح اسمه يذكر ويقارن بأحمد شوقي وحافظ ابراهيم ،
عرف الكاظمي ببداهته وقدرته على ارتجال القصائد الطويلة ، التي تربو على المائة بيت بدون تكلف . وهذه ميزة نادرة خُصّ بها وحده بين شعراء زمانه فقد كتب الصحافي المصري المعروف سليم سركيس في مجلته واصفا ملكته في حفظ الشعر وارتجاله :(( نظم الدكتور ابراهيم شدودي قصيدة في مدح الأستاذ الكاظمي في الحفلة التي عُقدت لتكريمه ، فما انتهى الدكتور من تلاوتها حتى أجابه المُحتفل به بقصيدة ارتجالية من نفس البحر ، فكان ينظم وأنا أكتب والإخوان يُعجبون بسرعة خاطره )).
وينقل لنا الشيخ عبد القادر المغربي رئيس المجمع العلمي في دمشق ، الذي كان يعمل محررا في صحيفة ( المؤيد) وهو من أصدقاء الشاعر المقربين هذه الطريفة في مقال نشره في العدد 98 من مجلة الرسالة الصادر بتاريخ 20 ـ 5 ـ 1935 ((ومن ظريف أخبار بداهته ما اتفق لي معه: ذلك أنه زارني يوماً في إدارة المؤيد، فابتدره زميلي الصحافي المشهور سليم سركيس رحمه الله بالعتب الشديد عليه لإغفاله تهنئته بزيه البلدي الجديد وكان من خبر هذا الزي أن (سليماً) تضايق من اللبوس الإفرنجي المحزق ولا سيما ياقة القميص المكوي، وربطة الرقبة (الكرافات) وشطاطها أو بكلتها التي كانت تمنعه الحركة وإدارة رأسه يمنة ويسرة وهو يحرر ويترجم والفصل فصل الصيف والحر حر القاهرة. فما كان منه إلا أن أعلن هجر ذلك الزي والزراية عليه، واصطنع لنفسه الزي البلدي: قفطاناً مشدود الوسط بالزنار، ويحيط أعلى القفطان بعنقه من دون الياقة ولا عرى ولا أزرار؛ وقد سدل فوق القفطان جبةً بلديةً مخصرة الوسط، فضفاضة الأذيال، سهلة الطي، سريعة اللي. وأعلن خبره هذا في الصحف المحلية مشفوعاً يرسمه العربي الأصيل، وزيه البلدي الجميل؛ وأخذ إخوانه المحررون – وهم كثر – يصفون خبره في صحفهم، والشعراء منهم يهنئونه بقصائدهم
وكان صديقنا (سليم) تعجبه طريقة الصحافي الأمريكي الكبير (برزباين) الذي يتخذ في موضوعات كتابته من الحبة قبة، فكيف لا يتخذ هو موضوعاً يلذ المصريين من القفطان والجبة؟
وكم مرة سمعته يقول: إنني أنا الكاتب الصحافي، وقد تلقيت فن الصحافة من سفري إلى أمريكا ومعاشرة صحفييها. أما زميلاي: (المنفلوطي) و (المغربي) فليسا صحافيين بالمعنى المقصود من كلمة الصحافة: المغربي كاتب عالم، والمنفلوطي كاتب شاعر
فلما دخل علينا السيد الكاظمي وأسمعه سليم عتبه عليه قال له:
ألِقُ دواتك واقربُ … وخذ أداتك واكتبُ
ثم جعل يرتجل شعراً في مدح سليم، ووصف زيه الجديد. يمليه عليه وهو يكتب. حتى إذا طال نفس القول اعترضته أنا قائلاً: أرى أنه سيكون لهذه القصيدة نبأ عظيم بين أدباء القاهرة، فلم لا يكون لي فيها ذكر وأنا ثالثكما وشاهد حادثتكما؟ فتحول الكاظمي عن (سليم) وأقبل علي، وخاطبني ببضعة أبيات من شعره المرتجل على وزنه وقافيته. ثم عاد إلى إتمام الكلام في سليم حتى أكمل قصيدة بلغت الثلاثين بيتاً فيما أذكر، وقد نشرها صديقي سليم في مجلته – سنتها الثانية أو الثالثة – وحكى القصة كما وقعت، لكنه ذهب إلى أنني، إنما اقترحت على السيد الكاظمي أن يذكرني في القصيدة امتحاناً له، واستيثاقاً من أمر ارتجاله. رحم الله (الكاظمي) وعوضنا الدهر منه ولا أراه فاعلاً )) .
عُرفَ الشاعر عبد المحسن الكاظمي بصدق العاطفة وجيشان الشعور وحضور البديهة ، فهو شاعر بالفطرة ، يجري الشعر على لسانه مجرى الأنفاس في صدره ، ومجرى الدم في عروقه ، فأشعاره التي كتبها متأملا أو مرتجلا في مناسبات عديدة ، كانت تمنحهُ الشعور القوي بالحياة واستمراريتها ، فهي بمثابة نبضات القلب ، التي إذا ما توقفت ، توقفت الحياة ، فهي المرآة ، التي انعكست فيها ملامح شخصيته جليّة بكل جوانبها ، وكانت شاهدا على ما امتاز به من مقدرةٍ فذّة في تطويع اللغة لأغراض الشعر المتنوعة وانتقاء مفرداتها بدقة وعناية الى جانب براعته في الصياغة والسبك مع أسلوبٍ راقٍ في التعبير عما يختلج في النفس من مشاعر وأحاسيس ، فهو صاحب قريحة دفّاقة معطاء ، لا ينضب معينها.
كان الكاظمي يقول الشعر بعفوية ، فما من أثر للتصنع والتكلف في قصائده رغم طولها الذي يصل أحيانا إلى 200 بيتا ، فهو يمتلك نفسا طويلا في نظم الشعر ، لفت انتباه شعراء وأدباء عصره ، حتى اصبح يشار إليه بالبنان في حلبات الشعر ومنتدياته ، فما أشعارهُ إلا دفقات وفيوضات من وحي الخاطر ، تشدّ القارئ والمستمع إليها على حد سواء بسلاستها وعذوبتها وما تنطوي عليه من صدق وصراحة في وصف الوقائع والأحداث والمشاعر والاحاسيس . حظي الكاظمي بتقدير أعلام الأدب والفكر في زمانه ، وشهد له القاصي والداني بسموّ الأخلاق والعفة والإباء والصدق فيما يقول ويعمل . يقول شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري عنه: (( إنّ أهم الميزات ، التي تتجلى في حياة الكاظمي وفي شعره أيضا ــ وهو صورة صادقة عن حياته ــ كونه مرآة صافية لجيله ومجتمعه ، وعلى غير هذا القياس يصعب في رأيي المقارنة بينه وبين شعراء العراق الآخرين حتى من الذين عاصروه كالزهاوي والرصافي والشبيبي والشرقي وهناك ميزة ثانية هو كون شعر الكاظمي ذخيرة من ذخائر اللغة العربية النقية ومفرداتها الجميلة)).
ويقول عنه العلامة اللغوي المعروف مصطفى جواد : (( إنّ قصيدته التي مطلعها :
إلى كم نُجيلُ الطرْف والدارُ بلقعُ ** أما شغلت عينيك بالجزْعِ أدمــعُ
تصلح لأن تكون ( المعلقة الثامنة ) في أسلوبها وفصاحتها وطرازها البدوي وصحّة معانيها وقوّة مبانيها) .
أما أحمد شوقي فقد أشاد بالكاظمي قائلا: (( قدم هذا الفاضل مصر وكأنه ابن هانئ جاء من بغداد إلى البلاد فجعلها موضع الإنشاد وملأها أدبا ثمّ عاد سخّر الله له من ( المؤيد) رواية . لم تسخر لشاعرفي العصور الخالية فما ألقى عصاه حتى أخذت هذه الصحيفة تجلو لنا شعره مديحه وفخره سلافه وسحره فإذا نحن بحكمة أبي الطيّب وبالوليد ينسب وابن ابي ربيعة يشبب وابن زويق يشتاق الى الأهل والبلاد ويحنّ إلى قمرٍ في بغداد أما مثل سلطان الشعر على هذا الشاعر فإني ما سمعت ولا رأيت فهو كما يتمثله أصدقاؤهُ من قراء هذه السطور نظرته شعر ومنطقه شعر وضحكته شعروهو في كلّ ذلك يحبّب إلى النفس الشعر))
هذا ما قاله شوقي في حقّ الكاظمي ، وهو مديح ما بعده مديح ، فهل يصدق أحدٌ؟! أنّ شوقي سينقلب في يومٍ من الأيّام على الكاظمي ويكيد له . نعم .. لقد حدث هذا بالفعل! فقد أغاظ شوقي صعود نجم الكاظمي في سماء الشعر ولاحظ انّ شهرته طغت على شهرته ، ومما زاد من مخاوف شوقي على مكانته الأدبية المقالة، التي كتبها الشاعر والأديب المشهور مصطفى صادق الرافعي ، الذي قسّم شعراء وأدباء مصر المعروفين إلى ثلاث طبقات . تشمل الطبقة الأولى عبد المحسن الكاظمي ثمّ محمود سامي البارودي ثمّ شاعر النيل حافظ ابراهيم ، أمّا الطبقة الثانية فتشمل كلّا ً من اسماعيل صبري وأحمد شوقي وخليل مطران ، أما الطبقة الثالثة فتضمّ المنفلوطي وأسماء أخرى.
مقال الرافعي دفع بشوقي أن يكيد للكاظمي و ويتسبب في حرمانه من راتبه الشهري ، الذي خصصّه له الخديوي بعد وفاة الشيخ محمد عبدة ، الذي مد ّيد العون من قبل للكاظمي بأن جعل له راتبا شهريا يستعين به على أمور حياته ، بعد أن عرف الشيخ ما يمرّ به الشاعر من ظروف معيشية صعبة .
أوغر شوقي صدر الخديوي ضد الكاظمي بأن قال له: (( أنسيتَ أنّه شاعر المفتي ــ ويقصد الشيخ محمد عبدة ــ ومن المعلوم أن علاقة الخديوي بمحمد عبدة كان يسودها التوتر والتشنج ، فما كان من الخديوي سوى أن يأمر بإيقاف صرف الراتب الشهري للكاظمي.
تذكر رباب ابنة الشاعر الكاظمي أنّ شوقي زارهم في البيت حين سماعه بوفاة والدتها ، وأخرجَ مظروفا فيه خمسمائة جنيه ودسّه تحت الوسادة وقال: هذه هدية ، لكنّ والدي أعاد المظروف إلى شوقي قائلا : كنتُ أظنّ أنّك جئت لتعزيني لا لشرائي . وبعد هذه الحادثة كتب الكاظمي قصيدة وأرسلها الى شوقي ومما قاله فيها:
تعالــى الله مـــا صوّرك اللهُ وكــم صـــــــوّر
ولهفي لك من هـــــــادٍ غواهُ الدهــر فاستكبر
لقد كنتُ أرجّيــــهِ ليـومٍ فــــــــي الورى يُذكر
وكنتُ أخالُ ( زيد الخيل) في الغابات لا يعثر
إذا بالســابق الكــرّار مـا إن كرَّ حتــى فـــــرّ
وهكذ انتهت العلاقة بين شوقي والكاظمي الى جفاء وسوء ظن ، بعد أن كانت إعجابا وتواصلا ، على العكس من العلاقة ، التي كانت بينه وبين الأديب المشهور مصطفى صادق الرافعي ،التي شابها في بدايتها شئ من التوجس والحذر، بل التجاهل ، خصوصا من طرف الكاظمي، لكنها انتهت الى صداقة حميمية ، كما أخبرنا الأستاذ الأديب محمد سعيد العريان من خلال مقالته المنشورة بتاريخ 16ــ 8 ــ 1937 في العدد 215 من مجلة الرسالة ، والتي جاء فيها :
((في أبان هذه المعركة الصامتة بين الرافعي وحافظ، قدم إلى مصر شاعر كبير لم يكن الرافعي يعرفه أو يسمع به أو قرأ شيئاً من شعره، ذلك هو شاعر العراق الكبير المرحوم عبد المحسن الكاظمي، ونشرت له الصحف غداة مقدمه قصيدة عينية من بحر الطويل، قرأها الرافعي فاستجادها ورأى فيها فناً ليس من فن الشعراء المعاصرين الذين قرأ لهم، فملكت نفسه وبلغت منه مبلغاً، فقرر لساعته أن يسعى إلى التعرف به، ليصل به حبله ويقتبس من أدبه، وكان الرافعي يومئذ كاتباً بمحكمة طلخا، ففارق عمله بغير إجازة، وسعى إلى لقاء الكاظمي في القاهرة، وهو يمني نفسه بأن يكون بينهما من الود ما يرفع من شأن الرافعي ويجدي على أدبه. وكان في الكاظمي – رحمه الله – أنفة وكبرياء، فأبى على الرافعي أن يلقاه ورده رداً غير جميل، إذ كان الرافعي يومئذ نكرة في الأدباء، وكان الكاظمي ما كان في علمه وأدبه وشهرته وكبريائه، مع خلته وفقره. واصطدمت كبرياء بكبرياء، وثار دم الرافعي وغلى غليانه، فذهب من فوره فأنشأ مقالة (أو قصيدة، لا أذكر) نال فيها من الكاظمي ما استطاع أن ينال بذمه والزراية عليه والغض من مكانته؛ وما كان الرافعي مؤمناً بما كتب، ولكنه قصد أن يلفت الشاعر إليه بالإنذار والتخويف، بعد ما عجز أن يبلغ إليه بالزلفى والكرامة.
وفعلت هذه الكلمة فعلها في التقريب بين الأديبين، فأتصل الرافعي بالكاظمي وصفا ما بينهما وأخلصا في الوداد والحب حتى لم يكن بينهما حجاب، وحتى صار الرافعي أصفى أصفياء الكاظمي، وصار الكاظمي أشعر الشعراء المعاصرين عند الرافعي، ثم ارتفعت الصلة بينهما عما يكون بين التلميذ والأستاذ، وتصادقا صداقة النظراء؛ حتى أنه لما هم الكاظمي أن يسافر إلى الأندلس في سنة 1905 كتب كتاباً إلى الرافعي يقول فيه: (. . . ثق أني أسافر مطمئناً وأنت بقيتي في مصر. . . )
حين قدم الكاظمي الى مصر كتب قصيدة عينية طويلة نالت إعجاب شعراء وأدباء مصر المبرزين , وكان ممن أعجب بها الرافعي ، الذي رأى في الكاظمي شاعرا فذا لا يجارى وكذلك عباس محمودالعقاد،وهذا بعض قاله فيها:
إلى كم تُجيل الطَّرف والدار بلقع
أما شغلت عينيك بالجزع أدمـــعُ
أأنت مُعيري عبرة كلما ونت
يحفزها برح الغــــــرام فتسرع
وهل عريت أرض كسوت أديمها
بماء شئوني فهْي زهراء ممرع
فمِن حرِّ أنفاسي وقيض محاجري
مصيف تراءى في ثراها ومربع
ألم ترَ جرعاء الحمى كيف روضت
وسال بمحمر الشقائق أجــــرع
فهاتيك من دمعي وهذاك من دمي
فللعين ذا مبكى وللقلب مجزع
جرى ماء جفني عن سويداء مُهجتي
فمن أجل ذا وشى الرياض مجزع
أفي كل دارٍ أنت ماتح عَبرة
إذا غاض منها مدمع فاض مدمـع
كأنَّك فيها ناظر رسم منزلٍ
حمتْه عن النُّظار نكباء زعــــزع
تذكرت شِعبًا في رباها ولعلــــعً
فهاج لك البرحــــاء شعب ولعلع
كأن في عينيك عارض مزنة
تصوب عزاليها ولا تتقشـــــــع
كأن بها خرقاء أوهت مزادها
وليس لِوَهْيٍ سال واديه مرقـــع
تتبَّعْ تجدْ ما يغمر القلبَ سلوة
وهل عدم السلوانَ مـــن يتتبع
وهيهات تسلى الدار وهي فجيعة
ويسلو أسير الدار وهْو مفجّــَع
وأفدح خطبٍ شفَّني بصروفه
وجرَّعني ما لم أكن أتجــــرَّع
وقوفي على تلك الديار وقد عفتْ
معالمُ كانت زاهياتٍ وأربُــــع
معالمُ أعفاها البلى فتوزعت
وما هي إلا أكبُــــــــدٌ تتوزع
في اليوم الأول من أيار من العام 1935 توفي الشاعر عبد المحسن الكاظمي ، الذي قال عنه الشيخ مصطفى عبد الرازق (ت 1947) شيخ الازهر ووزير الاوقاف المصري: (وشعر السيد عبدالمحسن الكاظمي من الطراز الأول في روعة اسلوبه وفي سلطانه على القلوب. والسيد عبد المحسن الكاظمي من شعراء الطبقة الاولى بين دعاة الحرية وشهداء الحرية في بلاد الشرق. في سبيل الحرية هاجر الرجل من وطنه، وفارق اهله وماله، وفي سبيل الحرية عاش غريبا فقيرا بعد العز والغنى)
وعن أسباب وفاته يحدثنا الكاتب تركي كاظم جودة في كتابه الموسوم ( عبد المحسن الكاظمي شاعر الإرتجال) فيقول: (( في أواخر أيام الشاعر تكالبت الأمراض عليه ، وضعف بصره، وكانت نوبات القلب تعاوده بين مدة وأخرى حتى وافاه الأجل في 1ـ 3 ـ 1935 ، وقد دفن في أرض الكنانة ( مصر) ، بناءًعلى رغبته وحسب وصيته ، التي أوصى بها في حياته في مقبرة مصر الجديدة. إلا أنّ الحكومة العراقية بنت له ضريحا يليق بمنزلته في مقبرة الإمام الشافعي في القاهرة .وفي 1ــ 3 ــ 1947 نقلت رفات الشاعر إليه. .
كان للكاظمي طريقته وأسلوبه في نظم الشعر فقد جمع بين فخامة اللغة وجمال ورقة المعاني ، فلشعره نكهة مميزة ، لم يعهدها شعراء وأدباء مصر لدى شاعر آخر من شعراء زمانهم المعروفين. مصر التي احتضنته وأكرمته و انبهرت بشعره وسمو أخلاقه ، وذاع صيته بين أبنائها ،. حتى أنّ المصريين ــ كما ذكر الأستاذ أسعد داغر لم يكونوا يطلقون اسم”عبد المحسن”على ابنائهم قبل مجيء الكاظمي الى مصر، فلما عرفوه واعجبوا به بدأوا يكثرون من التسمية باسم عبد المحسن .
أحبّ الكاظمي وطنه ، فكان العراق حاضرا على الدوام في ذهنه وذكره يجري على لسانه في حلّه وترحاله . قد يضمحل الحبّ ، الذي يربطنا بالبشر ، لكن حب الحمى ( الوطن) لا يضمحل ، فلنقرأ له هذه الأبيات ، التي تفيض عذوبةَ :
كلِفٌ يحنّ وليس يألــو ** * صبرا على اللائين ولّـوا
إن يضمحلّ هوى المها *** فهوى الحمى لا يضمحلُّ
كلفٌ يزيدُ ثباتـــــــــــهُ *** إن قيلَ ذو كلــــــفٍ يزلُّ
ولئن خلا قلبٌ فمـــــن *** همّ المعالي ليس يخلـــــو
قالوا سلا أوطانــــــــهُ *** وأخو الصبابةِ ليسَ يسلو
ولقد حسبت أحبتــــي *** فوجدتهم كثروا وقلّـــــــوا
وذكرتهم في حين قـد *** نســيَ الودادَ أخٌ وخـــــلُّ
والليل شابَ قذالــــهُ *** والفجرُ في الحجراتِ طفلُ
يا عينُ طلّك وابـــلٌ *** أبداً ووبـلُ ســواكِ طـــــلُّ
وجواكَ يا وطني لهُ *** ببواطنِ الأحشــاءِ شعـــــلُ
ذكــــراك يا وطن الصبا *** ذكرايَ أرحلُ أو أحلُّ
ويصف لنا حنينه الى مدينته بغداد وشوقه الى الكرخ بهذه الأبيات الرائعة:
إذا ما قيــلَ بغدـــــــــــــــادٌ كواها *** بلاعجة الحنيــــن فقد كواني
ومــنْ شاء الوقوف على اعتقادي *** فديني أوّلٌ والكـــــرخُ ثانــي
أحـــــــبُّ الكرخَ أسمــــعُ أو أراهُ *** وليتَ الكرخ يسمــعُ أو يراني
وأما حبه الأبوي لابنته الدكتورة رباب ، التي تأثرت بشخصيته كثيرا ، وتعلمت الشعر على يده فقد عبّر عنه بهذه الأبيات ، فما أروعها وأصدقها !
فــــداءُ رباب داء قلبي ومهجتي *** وانّ شفاها لو علمت شفائــــــي
رجوتُ بقاهـــا في الأنــام وإنما *** بقــاء ربــابٍ في الأنامِ بقائــــي
عسانا نرى منها غدا خير واعظٍ *** لخيرِ رجالٍ أو لخيــر نســـــاءِ
مات الكاظمي في أرض الكنانة لكنّ حبه للعراق لم يمت بموته فقد ظلّ حيا خالدا في قصائدة ، و قد رأيت أن أختتم مقالتي بواحدة من تلك القصائد ،التي تتدفق شوقا وحنينا ، أعني قصيدة ( دع الوجد يُصبحُ أو يغبـــقُ ) :
دعِ الوجدَ يُصبحُ أو يغبــــقُ *** ويشئـــمُ بالكَلَــــف ِ المُعـــرقُ
وخلّ الحشـا تتلظـــى جوى *** وجفنـيَ فــــي مائـــهِ يشـــرقُ
ولا تزجر الطير عند الأرا *** كِ ينعــبُ بالبينِ أو ينعــــــــقُ
فقف بي على الدار حيث الكثيـ *** ب يبرقُ في سربه الأبرقُ
وذرني أسائلُ عجماءَهـــــــــــا *** عساهـــــا تكلّمُ أوْ تنطـــقُ
ألا خبــرٌ من ثنـــــايا العــــــرا *** ق ِ يطلـعُ أو زورةٌ تطرقُ
هل الدار بعدي كعهـــــدي بهـا *** يُباكِرُها العارضُ المُغـدِقُ
أم البيــنُ أسلمــــها للبلـــــــــى *** وعاثَبها الذئــبُ والخرنـقُ
رعى الله أهــل الحِفاظ الألـــى *** كمـا لقــيَ القلب فيهـم لقوا
أحبّــــايَ هـــل كَلِـــفٌ شيّـــقٌ *** يناشــدهُ الكلِــــفُ الشيّــــقُ
وإن خفق البدرُ ينحــو الحمى *** نزتْ كبدي نحوكــم تخفــقُ
على حرقٍ أضلعـــــي تلتوي *** ومن علــقٍ أدمعـــي تدفــقُ
متى تنجلي طبقات الكروب *** وينجابُ سدفُ العنا المطبــقُ
وممن رماني بسهم الجفـون *** ولمْ يُخطني سهمــهَ الأفــوقُ
فتاةٌ ترجــرجُ في زورقٍ *** جرى بدموعي بهــا الزورقُ
وحرّاقـــة وسط حرّاقــةٍ *** تناهبني وجدهـــا المُحـــــرقُ
تعشّقتها غرّة تشـــرئبُّ *** وما كلُّ مكحولـــةٍ تُعشــــــقُ
ومُذْ أرهقتني جوىً مثقلا *** تيقّنتُ أنّي الفتـى المُرهــــقُ
لك البشرُ يا قلبُ إنّ العيونَ *** أصابتكَ أزلامها الرشّــقُ
فما أنا ممن ثنـــــاهُ العذولُ *** وزحزحهُ الكاشـحُ المحنقُ
وإنّــي غنــيٌّ ولكــنَّ لــــي*** فؤاداً إلى وصلها يملــــــقُ
وبي شممٌ ينشقُ الطيّبـــات *** ومن كان أجـدع َ لا ينشقُ
أقولُ وقلبي يشبُّ اللظـــى *** وإنســانُ عينـيَ مُغـرورقُ
رفيقيَ لا ترجُ رفقَ الظلوم *** فمنْ دأبهُ الظلــمُ لا يرفقُ
ومنْ طلبَ العزِّ أنّــى يبيت *** خليَّ الفؤادِ ولا يقلـــــــقُ