الجواهري يستطلع الغيب ويتنبأ بمصير الزعيم عبد الكريم
جميل حسين الساعدي
في السابع من تشرين الأول للعام 1959 جرت محاولة اغتيال للقائد الوطني الزعيم عبد الكريم قاسم ، في رأس القرية ( شارع الرشيد) أصيب على أثرها بجراح ، وتمّ نقله الى مستشفى دار السلام الكائن في شارع 52 ، وقد زاره وقتها شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ، وألقى على مسامعه هذه القصيدة ، التي أحتفظ بنسخة منها طبق الأصل ، منذ أن كنت شابا يافعا ، وهذه هي المرة الأولى ، التي ينشر فيها النص الأصلي للقصيدة، أما ما نشر حتى الآن منها فهو بعيد بعض الشئ عن روح النص الأصلي فقد حذفت بعض الأبيات وأضيفت أخرى وحوّرت بعض الكلمات، حتى أنّ أسم الزعيم عبد الكريم لم يرد فيها .
الجواهري يزور عبد الكريم في مستشفى دار السلام بعد تعرضه لمحاولة اغتيال في رأس القرية
لقد تنبأ الشاعر بما سيحدث للزعيم في مقتبل الأيام، اذا لم يستخدم الحزم والردع مع من يحيكون الدسائس والمؤمرات ليل نهار خدمة للأجنبي ومخططاته لإيقاف مسيرة التقدم والبناء في العراق ، التي كان رائدها وراعيها، وفعلا صدقت نبؤة الشاعر، فقد تمّ قتل القائد الوطني عبد الكريم قاسم في 8 شباط إثر انقلاب عسكري دموي، القائد الذي أصدر قانون رقم 80 لتأميم النفط ، وقانون الإصلاح الزراعي ، وقانون المساءلة : من أين لك هذا ؟ والكثير من القوانين، التي حسّنت من واقع الطبقات الفقيرة والمحرومة، التي خاطبها مرةً واصفا أوضاعها بأبلغ وأصدق كلام في احدى خطبه، حيث قال : وإنّ حال الواحد منكم كحال الإعرابي، الذي وصف حاله بهذا البيت من الشعر
ولي ثيــابٌ رثــــاثٌ لســتُ أغسلـــــها
أخافُ أغسلهـــا تجــــري مع المـــــاءِ
أمّا عن جريمة قصر الرحاب، التي راح ضحيتها الملك وعائلته، ولم يسلم منها جتى الخدم والطباخون والعاملون في القصر، فلم يكنْ للزعيم يدٌ فيها، بل كانت نتيجة تصرّف فردي قام به النقيب عبد الستار سبع العبوسي، الذي أطلق الرصاص على العائلة المالكة، والتي أعلنت استعدادها لمغادرة البلاد امتثالا لأوامر الأمير عبدالله، الذي طلب من الحرس الملكي بعدم اطلاق النار على المهاجمين. كانت جريمة نكراء لا تُغتفر، يندى لها جبين الإنسانية . تلك الجريمة المروعة حدثت بدون علم عبد الكريم ورفاقه، وقد أبدى الجميع أسفهم وحزنهم لدى سماعهم الخبر.
قصيدة تحرّك اللحد
للشاعر محمد مهدي الجواهري
كِلُوا إلى الغَيبِ ما يأتي به القَدَرُ
واستَقبلوا يومَكُمْ بالعزمِ وابتدروا
وصَدِّقُوا مُخْبِراً عن حُسْنِ مُنْقلَبٍ
وآزِرُوه عسى أنْ يَصْدُقَ الخَبَرُ
لا تَتْرُكوا اليأسَ يَلقى في نُفوسكم
لَه مَدَبَّاً ولا يأخُذْكُمُ الخَوَر
إنَّ الوساوِسَ إنْ رامَتْ مَسارِبَها
سَدَّ الطريقَ عليها الحازِمُ الحَذِر
تَذكَّروا أمس واستوُحوا مَساوئهُ
فقدْ تكونُ لَكُمْ في طَيَّه عِبَر
مُدُّوا جَماجِمَكمْ جِسراً إلى أملٍ
تُحاوِلونَ وشُقُوا الدربَ واخْتَصِروا
وأجمِعوا امرَكُم يَنْهَضْ بسعيِكُمُ
شَعبٌ إلى هِمَمِ الساعينَ مُفْتَقِر
إنَّ الشبابَ سِنادُ المُلْكِ يَعضُدُهُ
أيّامَ تُوحِدُهُ الأرزَاءُ والغِيَــــــر
أتتْكُمُ زُمرةٌ تحدو عزائِمَها
ما خَلَّفت قَبلها من سيّيءٍ زُمَر
ألفتْ على كلِّ شبرٍ من مَسالكها
يلوحُ مما جَنى أسلافُها أثــــر
مُهمةٌ عظُمت عن انْ يقوم بِها
فردٌ وأن يتحدَّى امرَها نفــــر
ما إن لكُم غيرَهُ يومٌ فلا تَهنوا
وقـــــد أتتكم بما تخشونه نُذُر
طالتْ عَمايةُ ليلٍ ران كَلْكَلُه
على البلادِ وإنَّ الصُبْحَ يُنتظر
وإنما الصُبحُ بالأعمال زاهيةً
لا الوعدُ يُغري ولا الأقوالُ تنتَشِر
وأنتَ عبد الكريم الفذّ من لهجـتْ
بما جَسرتَ عليه البدوُ والحضر
الكابتُ النفسَ أزماناً على حنَقٍ
حتى طغى فرأينا كيفَ ينفجر
والضاربُ الضربةَ الأولى لصَدمتِها
لحمُ العُلوج على الأقدام ينتثر
هل ادَّخرتَ لهذا اليوم إهبَته
أم أنت بالأجل الممتَّدِ مُعتذر
أقدَمتَ إقدامَ من لا الخوفُ يمنَعُهُ
ولا يُنَهنِهُ مِن تَصميمهِ الخطر
وحَسْبُ امرِك توفيقاً وتوطئةً
أنَّ الطُغاةَ على الأعقابِ تَندحر
دبَّرتَ أعظمَ تدبيرٍ وأحسنَه
تُتلى مآثِرُهُ عُمـــــــــراً وتُدَّكر
فهل تُحاوِل ان تُلقي نتائِجه
يأتي القضاءُ بها أو يَذْهب القَدَر
وهل يَسُرُك قولُ المُصطلين به
والمُستغِلين أنَّ الأمرَ مبتَسَر
وأنَّ كُلَّ الذي قد كانَ عِندَهم
على التبدل في الأسماءِ مُقْتَصر
وهل يَسُرُك أن تخفي الحُجُولُ به
ما دامَ قد لاحتِ الأوضاحُ والغُرَر
أُعيذُ تلك الخُطى جَبَّارةً صُعِقَت
لها الطواغيتُ وارتجَّت لها السُرُر
أنْ يَعتري وقْعَها من رَبكةٍ زَللٌ
أو أن يثبِّط من إقدامها الحَذَر
ماذا تُريد وسيفٌ صارِمٌ ذَكرٌ
يحمي الثغورَ و أنتَ الحيَّة الذَكر
والجيشُ خلفَك يُمضي مِن عزيمتهِ
فَرطُ الحماسِ ويُذكيها فتَستعِر
أقدِمْ فأنتَ على الإقدامِ مُنطَبِعٌ
وأبطُشْ فأنت على التنكيل مُقتدر
وثِقْ بأن البلادَ اليومَ أجمعَها
لما تُرجيِّه مِن مسعاك تَنتظِر
عبد الكريم وما الإلهــام معجـزة
حتّى النبيّــون في إلهامهم بشـرُ
قدْ أقرأُ الغيبَ لمْ يخصصْ بهِ أحدٌ
وقدْ أقولُ الذي من أمسِ يُدّخرُ
إنَّ الرؤوسَ التي أبقيتَ جمّعهـــا
في الأربعاءِ برأسِ القريّةِ القـدرُ
لا تُبقِ دابِرَ أقوامٍ وتَرْتَهم
فَهم إذا وَجدوها فُرصَةً ثأروا
هُناك تنتظِرُ الأحرارَ مَجزرةٌ
شنعاءُ سوداءُ لا تُبقي ولا تَذَر
وثَمَّ شِرذِمةٌ الفَتْ لها حُجُباً
من طُولِ صَفحٍ وعَفوٍ فهي تَستَتر
إنّي أُصارِحك التعبيرَ مُجترئاً
وما الصريحُ بذي ذَنبٍ فَيعتذر
إن السماءَ التي ابديتَ رَونَقها
يومَ الخميس بدا في وَجهها كَدَر
تَهامَسَ النفَرُ الباكون عَهدَهُم
أن سوفَ يرجِعُ ماضيهم فَيزدِهر
تَجري الأحاديثُ نكراءً كعادتِها
ولم يُرَعْ سامرٌ مِنهُم ولا سمر
فحاسبِ القومَ عن كلِّ الذي اجترحوا
عما أراقوا وما اغتلوا وما احْتَكروا
للآن لمْ يُلغَ شبرٌ من مَزارعِهم
ولا تَزحزح مّمِا شيَّدوا حَجر
ولم يزل لهمُ في كلِّ زاويةٍ
مُنوِّهٌ بمخازيهم ومُفَتخر
وتلكَ لِلحرَّ مأساةٌ مُهيَّجةٌ
يَدمى ويدمعُ منها القلبُ والبصَر
فضيِّقِ الحبلَ واشدُدْ مِن خناقِهُمُ
فَربَّما كانَ في إرخائه ضَرر
ولا تَقُلْ تِرَةٌ تبقى حَزازتُها
فَهُمْ على أيِّ حالٍ كُنتَ قد وُتِروا
تَصوَّرِ الأمرَ معكوساً وخُذْ مَثَلاً
مما يَجرُّونه لو أنهم ظفــــروا
أكانَ للرِفِقِ ذِكرٌ في مَعاجِمهمْ
أمْ عنْ كريـــمٍ وأخوانٍ لهُ غفروا
تالله لاقتِيدَ “زيدٌ ” باسم ” زائدةٍ”
ولأصطلى ” عامرٌ ” والمبتغى ” عُمَر”
ولا نمحى كلُ رَسمٍ من مَعالمكُم
ولاشتَفَتْ بِكُم الآثـــارُ والسِيَـــــر
ولا تزالُ لهم في ذاكَ مأرُبَةٌ
ولا يزالُ لهم في أخذِكُم وطَـــــر
أصبحتُ أحذرُ قولَ الناسِ عن أسفٍ
من أن يروا تِلكمُ الآمالَ تَندَثِـــــر
تَحرَّكَ الَلحدُ وانشقَّت مُجدَّدةً
أكفانُ قَومٍ ظنَّنا أنَّهـــــم قُبِــــروا
……………