ابو الخير
تمارا العطية
“ياااه ما الذي تفعلينه هنا في هذا اليوم تحديداً، و لمَ هذا الوقت من السنة؟ لا اعلم، أحياناً اشعر انك جنية. تبدو خصلات شعرك المتموجة حمراء جداً، حمراء أصلية، هه.. اقصد لم تلونيها بأحدى ماركات الاصباغ التي تستخدمها النساء. لكن.. نعم..حنة الفاو، هي الوحيدة القادرة على تلوين الرؤوس بهذه الحمرة القرمزية، اعرف الان انك انسية.. اراكِ كل سنة، لكنك لم تلحظي وجودي الا مرة واحدة على حد علمي. لا تحسبيني مجنوناً، فأنت تظهرين هنا في وسطة الماء فجأة.. ثم تختفين بعدها.. ااه كيف لم يخطر ببالي، انك حورية اذن”..
يقضم تفاحة، ينزلها من فمه، فتظهر من خلفها احواض تمتلئ بسمك السمتي و تتبعثر حولها زعانف كثيرة. ينزعج، يردد لنفسه “لمَ لم يعد احد يشتري مني السمك؟، ربما حان الوقت لأن اترك هذه المهنة”. يضيق صدره من منظر السمك المتعفن، فيتوقف عن التحدث لنفسه، المهارة التي اتقنها في الآونة الأخيرة حتى اصبح يمارسها بنبرات صوت مختلفة، عالية و واطئة، و بمواقع مختلفة؛ فمرة هو مذيع نشرة إخبارية، و مرة هو شاعر جهور من العصر الجاهلي، ومرات كثيرة هو بطل قصة حزينة تراجيدية.
ثم ما يلبث حتى يعود ليتخيل ما سيقول لها عندما يراها هذه السنة.. بالتأكيد!
يلملم ادوات الصيد التي تنتشر في كل مكان في بيته الصغير جداً. يتقدم و يمشي ببطء بين اغراض منزله المبعثرة، اذ قد مر وقت طويل على وجود امرأة في بيته لترتب له حاجاته. يخرج من خزانة ملابسه قميصاً لا يلبسه الا لهذا المشوار السنوي، و قد كان معلقاً وحيداً في الخزانة. لم يستحم، يشعر انه لا يحتاج لأن يستحم كثيراً في العشرين سنة التي مضت، فرائحته عطرة و ذقنه مشذب ايضاً. يضع اغراض الصيد و بعض المستلزمات التي ربما سيحتاجها هذه الليلة في سيارته، ثم ينطلق عند منتصف الليل.
يمر على مقاهي الكورنيش التي خلت هذا الوقت الا من بعض الشباب مدخني النرجيلة. يفتح شباك سيارته، يمد رأسه و رقبته كلها، يميلها و يتقدم اكثر، كمن يحاول ان يسترق السمع، غير آبه بالطريق الذي يقود سيارته خلاله، يراقب هؤلاء الشباب عن كثب ثم يطلق ضحكات عالية، و يتأمل ان يلتفت عليه احدهم، لكن لا جدوى. يعود برأسه داخل السيارة و يفكر بصوت عالٍ: “ما بال هذه المدينة، فكل من فيها غير مبالٍ. وجوه ساكنيها شاحبة، و صامتة و كئيبة، هل رأيت احدهم يبتسم مؤخرا؟” يوجه سؤاله بصوت عالٍ “لابو الخير”، الكنية التي اطلقها على شط العرب، بينما يمشي بجانبه بسيارته ثم يزلف، “كأن الحرب جاءت عليهم بوباء ازلي، يجعلهم احياء اموات. ابو الخير، الا تغدق عليهم بشيءٍ من عطاياك. ربما بعض الحب او بعض الأمل. انا متأكد ان لديك شيئا ما سيعيد لهم الحياة”. يسكت، ثم يتمتم لنفسه بصوت خافت، انيق، و هذه المرة كصوت مذيع النشرة الإخبارية الذي خرج مرة من مذياع سيارته المعطل منذ عقد او اثنين: “لا اعرف تماماً هل الحرب قتلت المدينة اولاً ام قتلتنا نحن؟ اعرف جيداً ان الحرب الاولى التي سلبت الحياة من احدنا، كانت قد تركت النخلات. النخلات فقط من بقين احياء، يتبسمن لي و يتكلمن معي دون الوجوه كلها. الا ان الحرب الثانية ذبحتهن، لكنها ابقت منهن بعضاً من جذورهن تتدلى من فوق الأرض. انا اعرف انهن احياء، و ما زلنَ يبتسمن، دون وجوه”.
يتمم لنفسه بصوت خافت متردد، كمن يواسي صديقاً عزيزاً: “لم يبق لي سوى ابو الخير. انا اعرف ان لا حرب ستأخذه مني، فليس له جذور تربطه بهذه المدينة، بل انه يحتضنها من زاوية واسعة تجعل من الصعب فصلها عنه. هو يؤنس ليلي بقصصه التي لا تنتهي، و يهديني الهدايا الاجمل، حورية بشعر احمر، نعم.. ابو الخير كله خير. هي كذلك، كالنخلات، ابتسمت لي، و كالشط، لم تمت بعد. هي و ابو الخير والنخلات ما زالوا احياء، و انا كذلك. نحن الاربعة يجب ان لا نفترق و لا نموت”. يمد رأسه و رقبته من شباك السيارة و يصرخ بصوت عالٍ: “لن اتركك يا ابو الخير.. لن اتركك يا أبو الخير”.
“لن نفترق و لن نموت”..
سكون، لا مارة و لا سيارات، و ليس للمدينة اي صوت. الجو يلفه التراب، و الرؤية ضبابية. تظهر هي من العدم قرب الماء بردائها الابيض، تتقدم ببطء وتسبقها خصلات شعرها الاحمر التي تتحرر من تحت شال رأسها الابيض. تنزل بهدوء في الماء، و تبدأ بغسل جسدها. تحني رأسها الى الامام و تنزله حتى يصل الماء، تبلله ثم تخرجه بحركة معاكسة. و حين تدفع رأسها الى الامام لترفعه، تلتقي عينها بعينه. يجفل في مكانه. اما هي فتبتسم، ثم تختفي مرة اخرى بين المشهد الضبابي الأبيض.
يردد، بصوت بطل القصة التراجيدية” “تلك الابتسامة التي اشرقت يومها على شط العرب بدل شمس تموز الحارقة، فغدونا اسعد اثنين على وجه المدينة، اتذكر ذلك ابو الخير، لقد مرت اربعون سنة على ذلك، اتصدق! ما الذي تخفيه تحت هذا الرداء الطويل يا ترى؟ ذيل حورية.. نعم.. الا تعتقد ذلك يا ابو الخير؟!”
يكمل حديثه عن ذلك اليوم مع أبو الخير و هو على متن بلمه الخشبي المتآكل، يجدف بهدوء، حتى يصل الى منتصف الشط، يتوقف، يرمي شباكه و ينتظر.
الاوساخ التي تأكل وجه المدينة ايضا تحمل معها الجرائد الصباحية. تمر واحدة من امامه في صباح اليوم التالي. ينتشلها، و يخطف ببصره على العناوين سريعاً:
” نفوق الاف الاسماك في شط العرب، النهر المحتضر بالتلوث و البلاستيك والمخلفات”
“مجازر النخيل في الهواء العليل، حرق و قطع أشجار النخيل في سبيل تحويل أراضيها لمناطق مشاريع تجارية”
“لن نفترق و لن نموت”..
يقلب الصفحة:
” أحيا أبناء طائفة الصابئة المندائيين في محافظة البصرة عيدهم الكبير “دهواربا” عبر إجراء طقوس التعميد بمياه شط العرب لتطهير أرواحهم وأجسادهم”.
يرفع رأسه بابتسامه تشبه ابتسامة النخلات.. يضع ما بين يده على وجه الشارع مجدداً، ثم يمضي لوجهته في المشهد الضبابي الابيض و يردد شيئاً لنفسه، وشيئاً لأبو الخير: “اذاً لست بجنية و لا حورية، نعم انت انسية، و بهذا فأنت امرأة مسنة الان. لكن خصلات شعرك لا تزال حمراء، انا اعرف، فحنة الفاو ستبقيها كذلك”.
“لن نفترق و لن نموت”..
…………..
على الحافة السفلية اليسرى من نفس صفحة الجريدة، يقبع خبر آخر “العثور على كوخ مهجور في منطقة التنومة يحتوي على بقايا اسماك متحللة وعدة صيد كبيرة، يرجح انه يعود لصياد عاش و توفي في نهايات القرن المنصرم. و قد تم العثور في الكوخ ايضاً على زعانف كبيرة و ملونة و غريبة الشكل، لا زال الخبراء يحاولون اكتشاف لأي نوع من الاسماك تعود”.