في العراق علماء موهوبين بوسعهم ان يتعاملوا مع تحديات البلاد، وان يوجدوا حلولا لمشاكله، لكن الافتقار الى التمويل يعيقهم.
كيف، بدون تمويل كاف، يمكن لأساتذة الجامعات وللباحثين من استثمار عقولهم في ايجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والطبية والهندسية والزراعية والاجتماعية العديدة في هذا البلد المنكوب بالآفات والسرقات، وكيف يمكن لهم من التصدي للتحديات التي تواجه الجامعات في مواكبة التقدم العلمي العالمي، وكيف لهم من الاشراف على بحوث رصينة وعالية الجودة تستحق ان يمنح منتجها شهادة عليا او ان يستحق على اساسها ترقية علمية لدرجة اكاديمية اعلى؟
أضحت اليوم قضية انعدام التمويل تشكل عائقا كبيرا أمام تطور البحث العلمي وتقدمه في العراق.
فهل يمكن حقا الاستمرار في الطلب من الباحثين العراقيين بتقديم ما يستحيل تقديمه وبدون منح مالية للبحث العلمي، علما ان كثيرا من البحوث العلمية إن لم نقل كلها، تحتاج الى مصادر للتمويل الدائم ومبالغ مالية وفيرة حتى يتم انجازها على اتم وجه؟
لقد مرت سنوات طويلة والبحث العلمي يتم اجرائه بتمويل فردي وبجهود فردية. لا توجد استراتيجية للبحث ولا سياسات مالية، ولا اولويات تمويل حكومية، مع انه توجد دوافع وضغوط على الطلاب والأساتذة لإجراء البحوث لانها المرتكز الاساسي للحصول على الشهادات العليا وعلى الترقية الوظيفية، وكذلك على التكريم والتقييم والرقي الوظيفي.
انعدام المنح البحثية نتج عنه ظواهرسلبية كانتشار دكاكين تجارة الرسائل والأبحاث العلمية والجامعية، وشراء اوراق البحوث الجاهزة دون بحث، ودون بذل اي مجهود للحصول على المعلومات في المكتبة او المختبر او الحقل. وكنتيجة انصرف الباحثون نحو تمويل ذاتي للنشر العلمي في مجلات الوصول المفتوح والمجلات المفترسة والتجارية، وهو النشر الذي لا يخضع الى رقابة ذاتية صارمة ونزيهة مثل النشر في المجلات التقليدية.
الحكومة العراقية ووزارة التعليم العالي مطالبة اليوم اكثر من اي وقت مضى بتخصيص منح بحثية، واموال للبحث والابتكار والتطوير، وبوضع آليات ملائمة لاستخدام هذه المنح في تنفيذ سياسات رائدة لانجاز بحوث ممولة لباحثين، وعلماء عراقيين فرديا او جماعيا وفق خطط شفافة وأولويات هدفها دفع عجلة البحث العلمي نحو تحقيق الريادة في التقدم العلمي والتكنولوجي في المنطقة والعالم.
البحث العلمي الرصين يحتاج الى اموال لتوفير مستلزماته من مختبرات وأجهزة ومعدات ومواد ومكتبات، كما يحتاج الى عقول مؤهلة ومتوثبة دائما للتعلم ومواكبة التطور العلمي وعن طريق التعاون العلمي العالمي، والمشاركة في المؤتمرات العالمية المهمة. وهذا كله يحتاج بدوره الى تمويل حكومي واسع لكي يتمكن كل الباحثين من ترويج نتائج بحوثهم عالميا ومواكبة التطور العلمي والتربوي والتكنولوجي ولكي ننفض رداء الحصار الذاتي، ومشاركة الباحثين في العالم جهودهم لخدمة الانسانية .
التمويل الحكومي مهم ايضا لتثمين جهود الباحثين ومكافأتهم كما هو مهم في توفير البيئة التحتية لإجراء البحوث وتطبيقها وتسجيلها عالميا كابتكارات واختراعات مما يحفز الباحث والطالب ويشجعهما على الاستمرار في مسيرتهما البحثية لأنهم سيدركون ان مجهودهم لن يترك سدى بل سيؤخذ به ويطبق ليكون له الاثر في تقدم العراق والعالم.
ولي امل كبير في ان تتضمن الموازنة الجديدة اموال مخصصة للبحث العلمي والابتكار، كما اتمنى ان تتبنى وزارة التعليم العالي والجامعات العراقية فكرة التعاقد مع الوزارات والمؤسسات والشركات اي الطلب من الباحثين الاتصال بالجهات المستفيدة وطرح المقترحات البحثية عليهم والطلب منهم تمويل هذه الابحاث، وهنا لابد من الاشارة الى المشاكل التي تواجه التنفيذ. المشكلة الاولى هي صعوبة اختيار المشاريع البحثية المناسبة للجهة المستفيدة لعدم تمكنها من تحديد احتياجاتها بطريقة صحيحة، والمشكلة الثانية انه بعد الوصول الى اتفاق على المشروع البحثي تحتاج الجهة المستفيدة سنة او سنوات لتوفير التمويل. وتكمن المشكلة الثالثة في ان معظم البحوث التطبيقية لحل المشاكل المحلية غير ملائمة للنشر العلمي، وهو ما يتعارض مع سياسة الوزارة في تأكيدها على اهمية نشر نتائج البحوث لأغراض الترقية الوظيفية.
باختصار، تحتاج النخب العلمية في العراق الى دعم وتمويل حكومي كاف للتمكن من العمل على انجاز الابحاث ذات الاولوية والأهمية العالية بدلا من العمل على بحوث سطحية وغير مجدية. وعلى الحكومة ان تعيد النظر في سياستها المالية وتعطي الاولوية لتمويل البحوث العلمية والابتكار، وتوفر الدعم المالي والموارد اللازمة للعلماء والباحثين العراقيين لتمكينهم من الاسهام في تطوير البلد وحل مشاكله.