150 عاماً على ولادتها – روزا لوكسمبورغ الأخرى!
احسان جواد كاظم
السيدة نهلة الشهال في ترجمتها لرسائل حب روزا لوكسمبورغ – روزا الحمراء ” صقر الماركسية المحلق ” كما وصفها لينين, أضاءت جوانب غائبة من شخصيتها, وكشفت الجانب الرومانسي في هذه الشخصية… جانب مختلف يتناقض مع ما مترسخ في الأذهان عن ” روزا القائدة الحزبية التي تجيد التأسيس والأنشقاق على السواء – تأسيس الحزب الأشتراكي البولوني مع آخرين ثم الأنشقاق عنه, وتأسيس الحزب الأشتراكي الديموقراطي لمملكة بولونيا وليتوانيا, الأنشقاق عن الأشتراكية الديموقراطية الألمانية وتأسيس جماعة ” الأممية ” ثم عصبة ” سبارتاكوس ” نواة الحزب الشيوعي الألماني أثناء الحرب.
ولكي لا أبعث الملل لدى القاريء العزيز, أكتفي بهذا الجزء من المقدمة الضافية للسيدة المترجمة نهلة الشهال, القيمة والتي تضمنت إشارات مهمة من حياة هذه المناضلة العمالية المميزة التي اغتيلت مع رفيقها كارل ليبكنخت في مطلع عام 1919 أي بعد شهرين من إعلان ليبكنخت قيام ” جمهورية فايمار الأشتراكية ” والقيت جثتها في قناة ” لاندفيهر كانال “.
أقتطف هذه الرسالة من الكتاب لما فيها من رومانسية رائعة وحب طاغي للطبيعة وكائناتها والناس, معنونة الى حبيبها هانز هن المرابط على جبهة من جبهات الحرب العالمية الأولى :
” هانز هن ! أ نائم أنت ؟ جئت لأدغدغ أذنك بقشة طويلة. أحتاج للصحبة, فأنا حزينة وأريد أن افضي بأعتراف, كنت في الأيام الماضية شريرة, ولذا تعيسة ومريضة. او اذا اتبعنا الاتجاه المعاكس, كنت مريضة ولذلك تعيسة وشريرة. – لم أعد أدري – عادت لي الان طيبتي, واقسم بألا أعير اذناً صاغية, بعد اليوم, لشياطيني الداخلية.
أتلومني إذ اشعر بالتعاسة أحياناً وأنا أكاد لا ارى ولا أسمع إلا لماماً, ما هو بالنسبة لي الحياة والسعادة. يا إلهي ! ألا يكفي لأكون ممتنة وفرحة أن تلمع الشمس وأن تغني العصافير اغنيتها القديمة التي عرفت جيداً معناها ؟
ارسل لك صورة رفيقي الصغير الذي أعادني, في اغلب الاحيان, الى الصواب… هذا الفتى بمنقاره الجسور وجبينه المائل ونظرته الثاقبة, يسمى ” هيبولي هيبولي ” وفي الالمانية ” عصفور العرائش ” او أيضا ” ساخر الحدائق “. لابد انك سمعته قبل ذلك, فهو يبني عشه حيث الحدائق الكثيفة والجنائن, ولكنك لم تلحظه, شأنك في ذلك شأن أغلب الناس الذين يمرون بالقرب من أحلى أشياء الدنيا, دون انتباه.
هذا العصفور طائر غريب غرابة فريدة. انه لا يغني اغنية او لحناً ما مثل سائر العصافير, ولكنه خطيب شعبي بالفطرة. أنه يلقي على الحدائق محاضرات بصوت قوي ممزوج بحماس دراماتيكي. وهو يستعمل عبارات انتقال فجائية, وتصعيد موسيقي حزين. انه يطرح الأسئلة الأكثر غرابة ويسارع الى الاجابة عليها بأجوبة عجيبة وهو يعلن التأكيدات الأكثر جرأة ويناقض بحماس اقوالاً لم يعلنها أحد. يقتحم ابواباً مفتوحة, ثم يصرخ فجاة ” أ لم أقلها ؟ أ لم أقلها, وفجأة بعد ذلك ينذر كل من يريد او لا يريد أن يسمع ” سترون, سترون “. ( وان عنده العادة الذكية بأن يكرر كلمات مزاحه مرتين ). وهو لا يتوانى في هذه الاثناء عن السقسقة مثل فأر إنحشر ذيله او ينفجر ضاحكاً ضحكة يريدها جهنمية وهي تترك أثراً هزلياً إذ تصدر عن هذه الحنجرة المتناهية الصغر. باختصار انه لا يمل من مليء الحديقة بضجيج الحماقات الأكثر زهواً… وفي الصمت الذي يخيم اثناء محاضرته, يتراءى لك أن سائر العصافير تتبادل النظرات وتهز الأكتاف. وحدي أمتنع عن هذه الحركة, و لكني كلما سمعته, صحت ضاحكة ” أيها الحكواتي اللطيف “.
أعرف أن في ثرثرته الهاذرة, أعمق الحكم, وأنه على حق في كل ما يعلن. مثل ” ايراسم روتردام ” ثانٍ, فإنه يمتدح الجنون, بوعي, وهو يحسن القول. أظنه بات يعرفني من صوتي. اليوم عاد, بعد أسابيع صمت عديدة الى إثارة نفس الضجيج, واقفاً على شجرة البندق الصغيرة المقابلة لنافذتي. وحينما وجهت له تحيتي المعتادة ” أيها الحكواتي اللطيف”, أجابني صارخاً بوقاحة, ما يمكن ترجمته على الشكل التالي : ” انت المجنونة “, ووافقته على صحة رأيه وانفجرت ضاحكة ممتنة, واحسست بالشفاء فجأة من الخبث والحزن والمرض.
هانز هن, لست أخرف فيما يخص هذه الثرثرة المسرحية, كل كلمة قلتها لك صحيحة. ستتأكد بنفسك من الأمر يوماً, في الحديقة الزراعية في برلين, حيث يسكن هذا العصفور الساخر بكثرة, وسوف تتلوى من الضحك وانت تستمع لهذا البشوش المرح.
لم تنته رسالتها لحبيبها هانز هن, ولن أتحجج بنفاذ مداد محبرتي في عصر الكمبيوتر والكيبورد, لكني احرضكم على قراءتها كاملة من مصدرها ” رسائل حب ” روزا لوكسمبورغ بترجمة الأستاذة نهلة الشهال/ عن دار الفارابي.
والآن عذراً ! ذاهب لأطعم قططي…
كما كتب أحدهم يوماً.