وما زال الحال على حاله في العراق
إبراهيم الزبيدي
إن أهم ما أنتجته الانتفاضة العراقية الأخيرة أنها كشفت المسكوت عنه من حقيقةٍ ظلَّ نصفها غائماً وغير بائن، وهي أن للاحتلال الإيراني جناحين لضبط العراق ومواصلة الإمساك الآمن برقاب أهله المعروفين بالثورات والانتفاضات، ولكن بعدِ صبرٍ مرٍ وطويل.
فالجناح الأول هو جميعُ الدولة العراقية، بحكومتها وبرلمانها وقضائها وجيشها وأجهزة أمنها وإداراتها المالية والاقتصادية والزراعية والصناعية والدوائية، وبعلاقاتها الخارجية، كافة.
أما الجناح الثاني فهو جميع الفصائل والمليشيات والأحزاب والتنظيمات المملوكة لقادتها العراقيين الإيرانيين، سواء كانت علنيةً استعراضية أو سريةً يُطلق عليها اسمُ (الطرف الثالث) الملثم المتخفي.
ومن حين لآخر يتعمد المُهيمنُ الإيرانيُ افتعالَ مصادمة بين جناحيه لضبط الواحد منهما بالآخر، ولإيهام المعارضين بعدم وجود تناغم وتفاهم وتوزيع أدوار بين الجناحين.
مافيات المخدرات الايرانية تستهدف العراق
وكل هذه الخلطة المتجانسة، بجناحيها، في جانب، وجماهير الشعب العراقي الباقية، سواء المنتفضة أو الصابرة المتأهبة للثورة، في جانب آخر. ولا سلام بين الاثنتين، ولا أمل في تعايشٍ محتملٍ بينهما، ولن يستقيم الحال إلا بأن تَغلب إحداهما الأخرى، سلما أو حربا، في يوم من الأيام.
إلا أن الأحداث المثيرة الأخيرة التي أعقبت اغتيال الشهيدين إيهاب الوزني وفاهم الطائي، وعودة المنتفضين إلى شوارع الوطن وساحاته مطالبين بالكشف عن قتلة المتظاهرين، وداعين إلى مقاطعة الانتخابات، واللجوء إلى العصيان المدني، أجبرت الكاظمي على اعتقال المدعو قاسم مصلح، قائد الحشد الشعبي في الأنبار، والتحقيق معه في جريمة قتل الشهيدين.
وكما كان متوقعا فقد دخل المجاهدون المسلحون الحشديون إلى عقر دار القائد العام للقوات المسلحة لتحرير رفيقهم المعتقل، بالقوة، وعلى الفور.
وحتى ساعة كتابة هذه المقالة لا يبدو أن أحد الفريقين قد انتصر على رفيقه في الولاء. فلا الكاظمي بقادر على أن يطلق سراح المعتقل الـ VIP ليضيف فضيحةً جديدة إلى فضائحه السابقة المتلاحقة التي عودنا على ارتكابها عند كل اعتقالٍ يعقبه تسريح مع اعتذار، ولا هو من النوع صدام حسين العنيد الخشن المعروف بأنه إذا قرر شيئا ثبتَ عليه، أياً كانت العواقب.
ومن يدري؟، فلعل هذه الحفلة كلها هي مصارعة (عدنان قيسي) جديدة أو خرافة أبو طبر أخرى لإشغال الناس وإلهائهم وجعلهم ينسون الانتفاضة والمنتفضين.
ولو تجاوزنا حوادث القتل والاغتيال السابقة التي حدثت في عهود رؤساء الوزارات المتواطئين السابقين، واكتفينا بتتبع عمليات الاغتيال التي وقعت، منذ 7 أيار/مايو من العام الماضي، في عهد الرئيس الشعبي الكاظمي المتهم بخيانة القتيل قاسم سليماني، والمتحدث الممل عن هيبة الدولة، وعن عدم شرعية السلاح المنفلت، لكانت كل حلقة من مسلسل الاغتيال العلني المصوَّر بكاميرات المراقبة الحكومية كافية لإقناعنا بأن هذه الحفلة لن تكون إلا كسابقاتها. فبعد شهر أو شهرين سينسى الشعب العراقي، وينسى ذوو الشهداء، وينسى الرئيس نفسه، فيسلم المتهم الموقوف لقيادة الحشد، ويطلق سراحه، ويعود كل شيء إلى أصله المعتاد. هذا إذا لم يكن المعتقل الذي تمت استضافة قاسم المصلح فيه مضافة 5 نجوم.
أما الذين يتوقعون أن تكون عملية اعتقال قاسم المصلح مقدمة لاعتقال باقي قتلة المتظاهرين، ونحن منهم، فيحلمون. لأن ذلك لن يحدث إلا إذا أصابت الإيرانيين صحوة عقلٍ وضمير، وإلا إذا هبط عليهم ذكاءٌ غير عادي وغير متوقع ليُغيروا أخلاقهم، ويُلطّفوا ظروف احتلالهم، ويسترضوا العراقيين بقبول التخلص من كبار أعوانهم القتلة المفضوحين.
ولكنَّ تدقيقَ الحالة العراقية المعقدة المتشابكة الممتدة على ثماني عشرة سنة يُثبت لنا أن الاحتلال الإيراني أغبى احتلال شهده تاريخ العراق الطويل.
فقد مصَّ دمَ العراق بفضاضة ونهَم وحماقة، حتى لم تسلم من شروره محافظاتُ الوسط والجنوب الشيعية التي يزعم بأنه جاء لحمايتها وإسعادها.
ولو لم يكن المحتلون الإيرانيون أغبياء بامتياز، وحمقى وعميان بصر وبصيرة لما اختاروا أسوأ العراقيين وأكثرهم دناءة، ليجعلوا الناس تلجأ، اضطرارا، إلى الثورة عليهم وعلى وكلائهم، بعد صبر مرٍ وطويل.
العراق يتكتم على الاتفاقية الاستراتيجية مع ايران
وقد بيَّن استطلاعٌ للرأي أجراه معهد (غالوب انترناشيونال) ونشره معهد واشنطن مؤخرا أن 80% من العراقيين الشيعة غير راضين عن أداء الحكومة الحالية.
ومن السلوك المتوحش المتطرف الأخير الذي أظهرته الفصائل المسلحة وأحزاب السلطة في مواجهة انتفاضة مايو أيار الأخيرة يتبين أن الإيرانيين ووكلاءهم قلقون، فعلا، ومتخوفون من احتمال انتصار إرادة المنتفضين. فهم يدركون الحقيقة. فإذا وحَّد المنتفضون صفوفهم وإرادتهم، وتمكنوا من اختيار قيادة ميدانية شبابية موحدة مؤهلة للقيادة في الداخل، واختاروا لها أذرعاً مخلصة فاعلة مؤثرة في الخارج، لتَمكنوا من تغيير الذي لم يكن متوقعا له أن يتغير، ولاستطاعوا تحرير الوطن وأهله من الاحتلال ومن ذيوله أجمعين.
وإزاء وضع شائك من هذا الوزن والنوع وجد النظام الإيراني نفسه، وهو في عز أزماته السياسية الداخلية الإيرانية والإقليمية والدولية، مضطرا لاستخدام كل وسيلة لإسكات المنتفضين، بالابتسامة السامة الغادرة، وإلهائهم بوعود لا تُنفذ، أو بشراء بعضهم بوظائف الحكومة ورواتبها، وهي مهمة حكومة مصطفى الكاظمي، أو باقتحام الانتفاضة بمجاميع مسلحة مجهولة تتسلل وتعتدي على القوات الأمنية لتبرير استخدامها الرصاصَ الحي، واغتيال المتظاهر الوطني العنيد الشجاع الشريف، أو باعتقاله بأية تهمة ملفقة، أو بتهديده وإرهابه وإجباره على الاختباء أو الهرب خارج الوطن، وهي مهمة الفصائل المسلحة المنضوية تحت راية الحشد الشعبي سيء الصيت.
والخلاصة أن الوضع المتشابك المعقد الملتهب لم يترك للشعب العراقي سوى خيارين. فإما أن يرضخ ويستكين ويرضى بالأمر الواقع، بكل مرارته وتعاسته، أو أن يلجأ إلى التحدي والمواجهة، ويوطن نفسه على حروب الشوارع والعصيان المدني راضياً بثمنها الباهظ، وقابلا بتقديم قوافل جديدة من الشهداء، حتى يلين الحديد، ويتحقق المراد، ويشاهد العالم كبار الفاسدين والقتلة والذيول وراء القضبان يحاكمون علنا على شاشات التلفزيون.