يبدو أن قائد فيلق القدس المتصرف بالملف العراقي، إسماعيل قاءاني، تأخر كثيرا وطويلا ليكتشف أن خيوله التي كان يظنها قادرةً على مواصلة تأمين المصالح الإيرانية وحمايتها في العراق إنما هي خيول خسرانة، وتافهة، حسب وصفه.
تقول وكالة رويترز، نقلا عن أحد المسؤولين الذين حضروا اجتماع قاءاني بالرؤوس الكبيرة في الإطار التنسيقي الشيعي الخاسر في الانتخابات، والذي عقد في قصر هادي العامري، إن قاءاني كان غاضبا عليهم، ووبّخهم بشدة، وقال لهم إن “تصرفاتكم (التافهة) تضر بمصالحنا في العراق”، وأمرهم بالكف عن العناد، و بالاعتراف بالهزيمة، لتفادي خسائر أكبر ممكنة.
وقد يكون هذا هو سبب الزيارة (المُستغرَبة) التي قام بها نوري المالكي وباقي أعضاء الإطار التنسيقي لأربيل بحثا عن مغيث.
فهناك سببان لهذه الغرابة. الأول أن المالكي، فور هبوطه من الطائرة، جرى، بلهفة وشوق، نحو مُستقبِلِه الوزير السابق، خال رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، هوشيار زيباري، فأخذَه بالأحضان، وبالقبلات، وهوشيار يضحك، وكأنه في نشوة انتصار.، وذلك لأن المالكي هو الذي طرده من وزارة المالية، قبل سنوات، بتهمة الفساد واستغلال النفوذ. وهذه تفاصيل الواقعة.
ففي 21 سبتمبر 2016 صوّت مجلس النواب العراقي، خلال جلسة تصويت سرية بحضور 249 نائباً، على سحب الثقة من وزير المالية، هوشيار زيباري، بعد استجوابه بخصوص تهم فساد. ويومها وصف هوشيار القرار بأنه استهداف سياسي مباشر من كتلة (دولة القانون) التي يمتلكها نوري المالكي.
والسبب الثاني للغرابة أن المالكي اضطر، أخيرا، إلى التوجه إلى قصر مسعود البارزاني، طالبا منه النجدة والإعانة، بعد علاقة مشروخة دامت أكثر من عشر سنوات. ولهذه حكاية هذه تفاصيلها.
حين كان المالكي يسعى للحصول على رئاسة وزراء ثانية في 2010 طار إلى أربيل، ووقّع مع البارزاني على اتفاقية سرية في 8 آب أغسطس تضمنت تنازلات عديدة، أهمها:
إعطاءُ رئاسة الجمهورية لرئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، جلال الطالباني، ومنح نوري المالكي رئاسة الوزرة، دورةً ثانية، وتشكيل لجنة عليا من ائتلاف دولة القانون (حزب الدعوة الاسلامية) والحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة المالكي والبارزاني، فقط، مهمتُها الاتفاق على جميع القضايا الإستراتيجية، وإتخاذ مواقف موحدة حيال كل القضايا العالقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم، مع عدم جواز أن يتخذ أي طرف موقفا استراتيجيا الا بموافقة الطرفين. وأخيرا، تسليح حرس الإقليم وتجهيزه وتمويله.
وعن تلك الاتفاقية تحدث القيادي الكردي المعروف بصراحته، الدكتور محمود عثمان، مؤخرا، في مقابلة مع صحيفة البيئة، فقال،
“لقد كانت حصة الإقليم من الموازنة 17%. وفي 2010 حضر المالكي إلى أربيل وعرض على مسعود أن يدفع جميع رواتب البيشمركة، إضافة لنسبة الـ 17%، مقابل مساعدته على نيل دورة ثانية من رئاسة الوزراء. وهنا أدرك البارزاني أن استماتة المالكي من أجل الحصول على الرئاسة جعلته مستعداً لمنحه أي شيء، فطالبه بدفع رواتب جميع موظفي كردستان، بما فيها البيشمركة، وهذا ما رفع حصة الإقليم إلى 25% من الميزانية الفيدرالية”.
ولكن، لأن هذه التنازلات أغضبت، يومها، قاسم سليماني، وأثارت استنكار أعضاء كبار في البيت الشيعي تعمدوا فضحها وتسريبها لأجهزة الإعلام، فقد اضطر المالكي إلى أن ينكث بوعوده التي وقع عليها في الاتفاقية السرية المذكورة، الأمر الذي جعل مسعود البارزاني يناصبه العداء، ويعمل على إسقاطه، وقد حصل، وطُرد المالكي، ثم ورثَه أحد رفاقه في حزب الدعوة، حيدر العبادي.
فبأيِّ وجهٍ يعود المالكي، اليوم، إلى أربيل؟، ثم، أيةُ ضمانات سيطلبها مسعود من ضيوفه، هذه المرة، وهو العارف بأن سبب الزيارة هي (الزّنقة) التي يمرّون بها، وحاجتُهم إليه في خصامهم مع شقيقهم مقتدى، وهم الذين عوَّدوه على عدم الوفاء، على طريقة (تمسكن إلى أن تتمكن)؟؟. وتاسيساً على هذه الوقائع يبدو أن الحل الذي يريده مقتدى لن يتحقق، لعدة أسباب، أهمها هذه الزيارة الفاشلة لأربيل. فلا هو، ولا خصومَه، معاً، قادرون على دفع الثمن الباهظ الذي يطلبه مسعود البارزاني.
ويبدو أن فشل أصحاب الإطار التنسيقي في تحقيق حلم الكتلة الأكبر هو الذي دفع بهم، بقصد العرقلة والمماطلة والتسويف، إلى طرح المبادرة الأخيرة التي قالوا إنها تأتي “حرصا على الاستقرار السياسي والأمني في البلاد، والتقدم بالعملية السياسية الى الامام، وتصحيح مساراتها وتطويق الازمة وتفكيكها وعبورها باقل الخسائر، وبغية تلبية تطلعات الشعب في الاصلاح والخدمات، والتصدي للفساد، والنهوض بالعراق على الأصعدة كافة، وتوفير سبل العيش الكريم لأبنائه من كل المكونات”.
ولكن المعنيَّ بقبول هذه المبادرة، مقتدى الصدر، الفائز بأغلب المقاعد، وكما هو متوقع، لن يُخدع بهذه الاستدارة، خصوصا وأنه رافقَهم سنين طويلة في البيت الشيعي، وخبِرَهم جيدا، وتأكد له أنهم غدارون ولا يؤتمنون.
وفي هذه الأجواء الملبدة، ورغم أوامر إسماعيل قاءاني بالاعتراف بالهزيمة والقبول بقيادة مقتدى، تأكد أن أنهم غير عازمين على الاعتراف بالخسارة، وغير مستعدين لقبول الواقع المر الجديد.
فاستسلامُهم لن يعني، فقط، خسارة المناصب والمكاسب والرواتب التي لم تتحقق لهم لولا تفرُّدُهم بالسلطة والمال والسلاح ثماني عشرة سنة في غياب سلطة القانون، بل إن تنازلهم للتيار الصدري والمستقلين عن تشكيل الحكومة سيرفع عنهم الحصانة، وقد يضع كبيرهم، قبل صغيرهم، أمام القضاء الذي لابد أن يساير الحاكم القوي، ويُضطر لفتح دفاترهم القديمة. مع العلم بأن على كل واحد من قادة الإطار الشيعي عشراتٍ من ملفات المخالفات والاختلاسات وجرائم القتل والاغتيال وتهريب السلاح وتجارة الدعارة والمخدرات.
هذه، إذن، هي عقدة المنشار. وعليه فلا برلمان، ولا حكومة، ولا سلام، لا اليوم، ولا غداً، ولا بعد غد.