الساقطون في افغانستان
إبراهيم الزبيدي
من المبكر أن نحكم على الأحداث الأخيرة في افغانستان لنتأكد من كونه مؤامرةً أمريكية، كما يحلو لكثيرين من المحللين العرب المؤمنين بعدالة أمريكا وبقدرتها على فعل أي ٍ كان في أي مكان وفي أي زمان، أو من كونه هزيمة مُذلة لإدارة بايدن التي لم تحسن إدارة عملية إنهاء الوجود الأمريكي في أفغانستان.
والذي يعنينا هنا، قبل أي شيء آخر، هو مصير مئات الآلاف، وربما الملايين، من الأفغان الذين وثقوا بأمريكا وبنوا على وعودها جميع أحلامهم بالحرية والمعاصرة والعدالة، بعد ظلام السنين السود الطويلة الثقيلة التي ذاقوا فيها من مرارة حكم العمائم المتخلفة الكثير.
فقبل أيام من سقوط العاصمة الأفغانية سئل الرئيس الأمريكي جو بايدن، “هل بات استيلاء طالبان على أفغانستان أمرا حتميا”؟ فقال، “لا ليس كذلك، لماذا؟ لأن القوات الأفغانية تقدر بـ 300 ألف جندي مجهز بالكامل بقدر تجهيز أي جيش في العالم، ووجود حوالي 75 ألف من عناصر طالبان لا يجعل الأمر حتميا، لن يحدث تحت أي ظرف أن نجلي مواطنين من على سطح السفارة الأمريكية هناك”.
ولكن ذلك حدث. كما أن السفارة الأمريكية نقلت إلى مطار كابل، بعد إتلاف أجهزة وملفات تقدر أثمانها بمئات الملايين من الدولارات.
ويبرر المسؤولون الأمريكيون، عسكريين ومدنيين، مشاهد السقوط السريع لحكومة أفغانستان وجيوشها أمام طالبان بفساد السياسيين والعسكريين الأفغان.
وقال وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكن، في حديث مع سي إن إن، “إن الهدف الرئيسي من تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان قبل 20 عاما كان ملاحقة مدبري هجمات 11 سبتمبر”، وقد “نجحت في تحقيق هذا الهدف”.
إن الجزء الذي يعنينا من الملحمة الأفغانية المجلجلة التي تذكرنا بغزوة داعش للموصل، وتدفق مجاهديها لاحتلال محافظات أخرى، في بضعة أيام، بسهولة ودون مقاومة، هو الدرس الذي لم يتعلمه الذين ارتضوا أن يكونوا عملاء وأدوات في خدمة الأجنبي، في العصور السالفة، ولن يتعلموه اليوم، ولا غداً، وهو أن مصالح الدول الأجنبية لها مواسم تتبدل فيه وتتغير، ومع كل تبدّل وتغيّر يتساقط خدمها المحليون ضحايا، ويدفعون ثمن عمالتهم، ولا يتعضون.
وهناك أمثلة عديدة، قديمة وجديدة، على عملاء نصّبهم الأجنبي رؤساء وزارات ووزراء ونوابا ومدراء وسفراء وقادة جيوش وأصحاب أحزاب وشركات، فانتهوا إما قتلى تحت أقدام شعوبهم، أو سجناء، أو هاربين يتخفّوْن في البلاد البعيدة تلاحقهم العدالة ليل نهار
إن كثيرين من الأفغان الذين تراكضوا نحو مطار كابل والمنافذ الحدودية، بدون حقائب، كانوا مدفوعون بالخوف من العودة لأيام القهر والقمع والتزمت والتخلف الذي جربوه في أيام حكم طالبان، سابقا.
ولكن الأكثر رعبا وهلعا وتدافعاً نحو أيّ وطن آخر يَهَبُهم اللجوء الإنساني المؤقت كانوا عملاء أمريكا الذين عملوا عشرين سنة مع الجيوش الأمريكية بصفاتٍ مختلفة تتراوح بين الجاسوسية والإعاشة والتموين والترجمة والحماية، ثم تركتهم أمريكا يواجهون مصيرهم بأنفسهم، تاركين قصورهم ومزارعهم وأموالهم، دون راعٍ ولا معين.
كما أن هذا المصير البائس هو ذات المصير الذي لقيه أمثالُهم، من قبل، في بلدان عديدة، وسيلقوْنه في بلاد أخرى، غدا، دون ريب.
فالأجنبي يضع مصالحه فوق كل اعتبار. وبالتالي فإن قيمة أكبر عميل من عملائه لا تساوي عنده قيمة بعوضة. وحين تحكم تلك المصالح، فإنه يرمي بعملائه، جميعا، كبارا وصغارا، رجالا ونساءً، في سلال المهملات، بأسرع من رمشة عين. وشئنا أم أبينا لابد أن يكون هذا هو مصير الولائيين العراقيين الذين ربطوا مصيرهم بإرادة الحرس الثوري الإيراني، وبأجهزة مخابرات دول أخرى أجنبية أخرى.
فالخراب الذين عصف بالشعب العراقي، منذ 2003 وحتى اليوم، مثلا، هو جنونٌ يبدو خارجياً، إيرانيا وأمريكا وتركيّا، في ظاهره، ولكنه، كلَه، فعلُ فاعلٍ محلي انتهازي رضي بأن يبيع نفسه ووطنه وأهله لدولة أجنبية تستخدمه لخراب بلاده، ولقتل مواطنيه، وسيدفع ثمن عمالته، ذات يوم.
فلا عتب على دولة أجنبية لها مصالحها وأطماعها القديمة أو الجديدة، ولكن العتب كلَه على من ربط حياته برضائها وإرادتها، دون خوف ولا حياء.
فإن أكثر الذين يتحملون مسؤولية خراب البصرة والناصرية والعمارة والنجف وكربلاء والموصل وتكريت والفلوجة وسامراء هم فرسان البيت الشيعي العراقي الولائي، ومعهم أبناؤهم وأصهارهم وأفراد حماياتهم وأعضاء أحزابهم، وجميع شركائهم في المحاصصة من قادة الأحزاب والتجمعات والتنظيمات الانتهازية السنية والكردية، وبعض الحواشي الأخرى اللاصقة بأصحاب السلطة
ويبدو أن زمان الحساب القادم الأكيد قد اقترب. ففي خطاب ثوري وطني مفاجيء ألقاه حميد الياسري، قائد لواء أنصار المرجعية، ضمن فعاليات مجلس عزاء في محافظة المثنى بمناسبة شهر محرم، هاجم فيه “صوت التوجيه والإرشاد القادم من خلف الحدود”. وقال “نحن نرفض هذه الانتماءات، ونرفض هذه الولاءات، ونعلن ذلك بأعلى أصواتنا، دون خوف وتردد”، مشددًا على أن “من يوالي غير هذا الوطن فهو خائن”.
ودعا مسلحيه ومواطنيه إلى “التحلي بالشجاعة التي رسمها الإمام الحسين دون خشية، عبر التصدي لكل من يحاول التلاعب بمصير الدين والوطن”، وأكد أن “خذلان الأوطان خيانة، وفق ما تؤكد الروايات وسيرة الأولياء والصالحين، ومن يوالي غير وطنه لا دين له”.
إذن فهذا هو أول الغيث، وغدا سينهمر، ولات حين مناص.